مقالات

“ماريا فانتابيه” و”سام هيلر” ضبط النفس هو الخيار الأفضل لأميركا في العراق

بالأسماء صفقة تبادل السجناء بين طهران وواشنطن

شبكة عراق الخير :

ماريا فانتابيه، سام هيلر,   ترجمة: قتیبة یاسین 

تصر إدارة ترامب إن سیاسة “الضغط القصوى” اتجاه إیران تؤتي أكلها، حيث تفرض الولایات المتحدة ضغوطا دبلوماسية واقتصادية وعسكرية لتقييد إيران وحلفائها في الشرق الأوسط. ولكن في العراق، فإن المواجهة الأمریكیة المباشرة لإیران تقلل من نفوذ الولایات المتحدة وتعزز قوة إیران وحلفائها العراقیین.

فبعد الهجمات الصاروخیة المميتة على القوات الأجنبية والضربات الأمریكیة الانتقامیة التي حدثت هذا الشهر، وضعت الولایات المتحدة نفسها في دائرة عنف من نوع “العین بالعین” مع الفصائل العسكریة الموالیة لإیران. وإذا استمر هذ الحال أو اتجه للتصعید -وسط تقاریر تفید بإن البنتاغون قد وضع خطة لحملة عسكریة لتدمير إحدى الفصائل المسلحة- فستنتهي الأمور بشكل كارثي على الولایات المتحدة والعراق معا.

یواجه العراق الیوم أزمات غیر مسبوقة، حیث ُیشكل انتشار فایروس كورونا وانهیار اسعار النفط العالمیة تهدیدا خطیرا لاقتصاده وقدرة الحكومة على إعالة مواطنیها. إذ لا تحتمل البلاد فوق هذا كله، قصفا أمریكیا للفصائل العسكریة الموالیة لإیران، والتي تعمل بدورها على تقسیم السیاسیین العراقیین الى محور موالي للولایات المتحدة ومحور مضاد، كما تحبط المساعي الرامیة لتشكیل حكومة جدیدة باستطاعتها مواجهة الأزمات التي تواجه البلد.

ولن یؤدي مزید من العملیات الأمریكیة الأحادیة إلا الى تضخیم الأصوات السیاسیة الداعیة للخروج الفوري الولایات المتحدة من العراق. سیعزز حلفاء إیران العراقیین من نفوذهم السیاسي بینما تواصل فصائلهم مهاجمة القوات الأمریكیة ربما للمرحلة التي تجبر فیها الولایات المتحدة على الانسحاب من العراق.

إذا كانت الولایات المتحدة ترغب بالحفاظ على علاقاتها الثنائیة مع العراق أو البقاء فیه من أجل المساعدة في دحر التمرد المستمر لتنظیم داعش، فسیتعین علیها كسر هذه الحلقة الانتقامیة، لكن لیس عن طریق التصعید المضاد مع الفصائل المسلحة. هناك طرق افضل بإمكان الولایات المتحدة أن تسلكها، كضبط النفس، وإن كان یحمل مخاطرة. فلو تمكنت الولایات المتحدة أن تكبح جماح نفسها، فهذا التوقف من شأنه أن یخلق ظروفا جیدة للعراقیین لكي یشكلوا حكومة جدیدة قادرة على الشراكة مع واشنطن والتفاوض على إطار عمل قانوني جدید ینظم مسألة بقاء القوات الأمریكیة وقوات التحالف.

ذلك سوف یضعف الاحادیث المضادة لأمیركا والمنتشرة في أروقة السیاسة العراقیة. أفضل أمل لبقاء أمریكا في العراق هو بإیقاف اطلاق النار، وإلا فهي تخاطر نحو هزیمة استراتیجیة محرجة.

صراع اشتعال بطيء. كانت غارة الطائرة المسیرة الأمریكیة التي قتلت قائد قوات القدس الإیرانیة، الجنرال قاسم سلیماني ومعاون قائد الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس )جمال جعفر( في الثالث من شهر كانون الثاني الماضي تهدف ظاهرا “لاستعادة الردع” ولكنها لم تأ ٍت بنتیجة. إذ استأنفت الفصائل العسكریة هجماتها على القواعد الأمریكیة بعد عدة أسابیع، مما أعاد اشعال الصراع البطيء بین الولایات المتحدة وإیران وحلفائها العراقیین.

الحدث الأخیر كان یوم 11 آذار، عندما تم اطلاق وابل من الصواریخ نحو قاعدة التاجي العسكریة خارج بغداد حیث قتل على اثرها جندیان أمریكیان وجندي بریطاني منتشرین في العراق كجزء من قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش. ردت الولایات المتحدة في الیوم التالي بغارة جویة على ما زعمت أنها مخازن عتاد تابعة لكتائب حزب االله -إحدى الفصائل العسكریة العراقیة-.

إذ حذر البنتاغون ببیان صدر یوم 12 آذار تضّمن “یجب على تلك المجامیع الإرهابیة إیقاف هجماتها على القوات الأمریكیة وقوات التحالف أو مواجهة العواقب التي نحدد نحن زمانها ومكانها.”كان الرد العراقي، في غضون ذلك، قائلا بأن الضربات الامریكیة قتلت جنود وشرطة عراقیین بالاضافة الى عامل مدني واحد. ووصفت قیادة العملیات المشتركة العراقیة للضربات الامریكیة في بیانها على إنها “هجوم غادر” على العراق. بعد یومین، هاجمت عناصر مجهولة )لم یتم ردعها على ما يبدو( معسكر التاجي مرة أخرى، مما أدى لإصابة ثلاثة أمریكان وعدة جنود عراقیین.

وابل الصواریخ التي اطلقت في 11 آذار كانت الأحدث والأكثر دمویة من سلسلة الضربات التي استهدفت المعسكرات الأمریكیة والتي بدأت في صیف 2019. جائت هذه الهجمات وسط موجة من الهجمات التخریبیة والمجهولة الأخرى التي استهدفت المصالح الأمریكیة وحلفائها في الشرق الأوسط، بما في ذلك هجمات أیلول على المنشآت النفطیة السعودیة.

ویبدو أن معظم او جمیع هذه العملیات كانت جزًءا من حملة منسقة قامت بها إیران وحلفاؤها المحلیون ردا على سیاسة “الضغط القصوى” لإدارة ترامب.

 

الانتقام الإیراني غیر المتكافئ

إن أجهزة الدفاع الإیرانیة غیر منظمة لمواجهة عسكریة مباشرة مع الولایات المتحدة. بدلا من ذلك، طورت ایران قدرات عسكریة غیر متكافئة، واسعة النطاق، عبر تنمیة وتطویر حلفاء غیر حكومیین في المنطقة یملكون الجاهزیة والتحفیز. في العراق، یتجلى ما یسمى بـ”النفوذ الإیراني” بشكل رئیسي عبر مجموعة من الحلفاء العراقیین. حیث اتجه المسؤولون الإیرانیون لإستثمار علاقات اجتماعیة، سیاسیة، اقتصادیة طویلة الأمد مع سیاسیین عراقیین وفصائل مسلحة. یملك هؤلاء المسؤولین الیوم نفوذا كبیرا وسط هذه الفصائل لعقد وكسر الاتفاقیات فیما بینهم. في عام 2014، تم جمع معظم الفصائل المسلحة لتشكیل ما یسمى بـ”الحشد الشعبي” كوحدات مساعدة شبه عسكریة من أجل دحر تنظیم داعش.

لكن هذه المجامیع المرتبطة بإیران لا تّعرف نفسها كجزء من منظومة الحشد الشعبي فحسب، بل بفصائل “المقاومة” أیضا – حاملو لواء مواجهة الصهیونیة والإمبریالیة وجزء من التحالف الإیراني في المنطقة-.

حیث یوصفون غالبا بـ”وكلاء” إیران، ولكن هذه المجامیع لدیها قاداتها ومصالحها، حتى إذا كانوا یحملون قضیة مشتركة وینسقون تحركاتهم غالبا بالتعاون مع المسؤولین الإیرانیین. وصل الصراع الأمریكي-الإیراني الى أقصاه في شهري كانون الأول والثاني. عندما أعدت الولایات المتحدة هجوما صاروخیا على مقرات كتائب حزب االله في سوریا والعراق.

وبعد اقتحام المشیعین العراقیین لقتلى المجموعة وغیرهم من انصار الفصائل المدعومة إیرانیا للسفارة الامریكیة في بغداد، كان الرد الامریكي الصادم بقتل الجنرال سلیماني والمهندس بواسطة طائرة ُمسّیرة بعد أن كانا ینویان مغادرة مطار بغداد الدولي. أثار ذلك التصعید المذهل مخاوف قیام حرب إقلیمیة شاملة. حیث تبادل الطرفان التهدیدات. كان الرد الإیراني في 8 كانون الثاني بإطلاق أكثر من عشرة صواریخ بالیستیة على قاعدتین عسكریتین عراقیتین تستضیفان القوات الأمریكیة وقوات التحالف.

قتل عدة جنود إثر تلك الضربات، وأصیب أكثر من مئة شخص بإصابات دماغیة مؤلمة. قّیمت واشنطن الرد الإیراني بوصفه خطوة فعالة لخفض التصعید وحفظ ماء الوجه. رد وزیر الخارجیة الإیراني جواد ظریف بالقول “إن ردنا الدفاعي انتهى. نحن لا نسعى للتصعید أو الحرب، لكننا سندافع عن أنفسنا ضد أي عدوان. تبددت المخاوف بعدها من حدوث حرب إقلیمیة.

هذه الضربات لم تكن تمثل سوى الرد الإیراني المباشر. حیث انها قامت بإعادة توجیهه بشكل استراتیجي نحو طرد القوات الأمریكیة من المنطقة، كما لم ترضي تلك الضربات حلفاء إیران المحلیین، والذین لدیهم حساباتهم الخاصة. وفي وسط الصدمة تجاه قتل سلیماني، لم یحظ مقتل أبو مهدي المهندس -معاون قائد الحشد الشعبي وأحد قادة فصائل المقاومة الأكثر نفوذا- للتقدیر الأمریكي الكافي.

وكون إن ایران استطاعت الحفاظ على أمنها الخارجي، هذا لا یعني عدم امتلاكها لحلفاء عراقیین بمقدورهم الاستجابة لمقتل سلیماني والمهندس، بدون الحاجة لتحفیز إیراني.

وبعد وفاة المهندس وسلیماني، وعدت الفصائل المسلحة بضبط النفس وفسح المجال للسیاسیین العراقیین من أجل العمل على تأمین خروج الولایات المتحدة من البلاد عبر الوسائل السیاسیة. ولكن مع تضاؤل هذه الجهود، عادت وتیرة الهجمات للتزاید مرة أخرى مما جعل ملف طرد القوات الأجنبیة في قمة أولویات البلد.

 

المنعطف المناهض للولایات المتحدة في السیاسة العراقیة

أدى مقتل المهندس وسلیماني الى إعادة تنظیم المشهد السیاسي العراقي، مما سمح للفصائل العراقیة الحلیفة لإیران بتبني خطاب المقاومة “للإحتلال” الأجنبي وبذل مساع نشطة لمطالبة الولایات المتحدة للرحیل من البلد.

في الخامس من كانون الثاني، صوتت أغلبیة قلیلة في البرلمان على تفویض الحكومة العراقیة “لإنهاء وجود القوات الأجنبیة في العراق”. هذا التفویض البرلماني-رغم كونه غیر ملزم رسمیا- أعطى غطاًء تشریعیا لرئیس الوزراء عادل عبد المهدي لإبلاغ السفیر الأمریكي في العراق بنیته تنفیذ القرار، وطالبا من وزیر الخارجیة الأمریكي مایك بومبیو تطویر آلیة لرحیل القوات الأمریكیة. واشنطن رفضت ذلك، معلنة إن لیس في نیتها مناقشة عملیة الإنسحاب.

ما هو ثقل طلب عبد المهدي لمناقشة عملیة الإنسحاب خصوصا عندما یأِتي من رئیس وزراء تصریف أعمال وبناًء على تشریع برلماني غیر ملزم! مع ذلك، أدى الجمع بین التشریع البرلماني وطلب رئیس الوزراء الى تغییر الخطاب السیاسي العراقي وإعادة النظر في شرعیة الوجود الأمریكي كجزء من الحملة المضادة لتنظیم داعش.

وقد فشلت المساعي السابقة للأحزاب الصدیقة لإیران في تشریع خروج القوات الأمریكیة من العراق، لكن مقتل سلیماني والمهندس هو الذي سمح لهم بحشد الدعم السیاسي والأصوات البرلمانیة لمثل هذه الخطوة، وتجنید الكتل الشیعیة التي كانت قد أیدت في السابق ضرورة بقاء قوات التحالف- برغم الإختلاف بین الأحزاب التي صوتت لصالح القرار حول أي القوات یجب أن تغادر وآلیة مغادرتها.

استخدمت الفصائل المسلحة الصدیقة لإیران الأصوات البرلمانیة لیس فقط للتأكید على عدم شرعیة الوجود الأمریكي لكن من أجل إعطائهم الحق المشروع في مقاومة “الإحتلال الأمریكي”. لقد باركوا الهجمات الأخیرة لكنهم تجنبوا إعلان مسؤولیتهم عنها.

وقد خلق ذلك غموضا كافیا بالنسبة لهم لتصویرالهجمات بكونها مقاومة شعبیة، بالإضافة الى حمایة وجودهم في الساحة السیاسیة.

علاوة على ذلك، فإن الانتقام الأخرق الذي مارسته الولایات المتحدة تجاه هذه الهجمات قّوض الموقف السیاسي الأمریكي في العراق وأثار معارضة العدید من العراقیین الذین لا یحملون أیدیلوجیة “المقاومة” لكنهم لا یریدون تحویل بلادهم لمسرح تصفیة حسابات دمویة بین أمریكا وإیران.

أخبرنا مسؤولون أمنیون عراقیون في إتصال هاتفي، بأن الولایات المتحدة قد أعطت بعض الأجهزة الأمنیة إشعارا قبل حدوث ضرباتها الانتقامیة لكنها قد أعدمت الكثیر منا بالوقت نفسه، مما قوض ثقة المسؤولین العراقیین في الإدارة الأمریكیة التي یرون إنها تتصرف كمحتل أكثر من تصرفها كشریك. هذه الثقة قد تآكلت بنحو كبیر، بعد أن أدت ضربات 12 آذار الأمریكیة لمقتل أفراد أمن ومدنیین عراقیین.

وقد دفعت هذه الضربات لتقدیم العراق إدانة ودیة لواشنطن، مما أدى الى تحشید المزید من الجهود لترحیل القوات الأمریكیة خارج البلد. وقد أدان الرئیس العراقي برهم صالح -والذي یعتبر متعاطفا مع الوجود الأمریكي- للقصف الأجنبي الذي أدى لمقتل عراقیین، واصفا إیاه بـ”انتهاك للسیادة العراقیة”.

ووفقا لما ذكره بیان القوات المشتركة: “إن الإجراءات الأمریكیة الإنفرادیة لا تحد من هذه الأعمال بل تسبب ضررا أكبر، وتضعف الدولة العراقیة وتترك المزید من الخسائر بین العراقیین، وكل ذلك یستدعي تنفیذ قرار البرلمان بالانسحاب.”وبالتالي فإن الانتقام الأمریكي الإنفرادي قد قّوض حسن النیة حتى بین العراقیین الذین كانوا یمیلون لدعم الدور الأمریكي في البلد.

 

الآثار الكارثیة للعراق وللعلاقات العراقیة الأمریكیة

التوترات المتواصلة بین الولایات المتحدة وإیران وحلفاء إیران في العراق والذي انتج أحداث عنف متقطعة قد كان لها تأثیر سلبي عمیق على العراق وعلاقاته الثنائیة مع الولایات المتحدة. وإذا استمر ذلك، فأنه سیسبب زعزعة استقرار البلد وتحشید مزید من العراقیین ضد الولایات المتحدة.

أدى ذلك الصراع الى تفاقم الأزمة الداخلیة التي یعاني منها العراق منذ تشرین الأول 2019،عندما اندلعت الاحتجاجات الشبابیة في جمیع انحاء البلد استسلم عادل عبد المهدي للضغوط الشعبیة وقدم استقالته في شهر تشرین الثاني. ومنذ ذلك الحین، فشل السیاسیون العراقیون في تشكیل حكومة جدیدة، وهي مهمة معقدة بسبب الانقسام السیاسي الداخلي حول الوجود الأمریكي. كان من الصعب العثور على مرشح مناسب لرئاسة الحكومة یكون مقبولا من الطبقة السیاسیة والشارع المنتفظ في آن واحد.

أدى قتل الولایات المتحدة لسلیماني والمهندس بتشدید رفض الفصائل المسلحة والأحزاب الموالیة لإیران من الوجود العسكري الأمریكي، مما زاد من استقطاب الكتل السیاسیة بین مؤید ومعارض لهذا الوجود وكانت النتیجة الوصول لطریق مسدود.

وقد اتخذ هذا الاستقطاب ُبعدا طائفیا، مما ادى الى انحسار التقدم الذي أحرزه العراق منذ بدء الحملة ضد تنظیم داعش في 2014. فمن بین الآثار المفیدة لتلك الحرب الرهیبة والمكلفة كان الانخفاض الملحوظ في الاستقطاب السیاسي الطائفي والذي كان بالأثل سببا في تمكین داعش في العراق وسوریا، والذي وصف نفسه بأنه حشد جماهیري سني ضد بغداد الشیعیة.

شكل العراقیون تحالفات سیاسیة عابرة للطوائف في الفترة الأخیرة وأقاموا روابط شخصیة عابرة للطائفیة. لكن، ومرة أخرى، انقسم العراقیون ثانیة بمعسكرین أحداهما متحالف مع أمریكا والآخر مع إیران. لقد أنقسموا على أسس عرقیة وطائفیة أیضا، حیث تم تمریر قرار البرلمان الداعي لسحب القوات الأجنبیة بأغلبیة أصوات النواب الشیعة، بینما تجنب النواب السنة والكرد من حضور الجلسة. من جانبها، كثفت الأحزاب السنیة والكردیة من ارتباطها بالولایات المتحدة، حیث رأوا إن التطور المتصاعد مكن حلفاء إیران في المشهد السیاسي الشیعي. وهم قلقون بأن غیاب الولایات المتحدة، قد یجعل خطاب الأحزاب الموالیة لإیران هو السائد بین السیاسیین الشیعة، وعلى الساحة الوطنیة بشكل عام. وقد استمرت عملیة إعادة الاصطفاف على أسي عرقیة وطائفیة في البرلمان العراقي مع احتجاج تلك الاحزاب على ترشیح رئیس للوزراء.

كانت النتیجة فراغا سیاسیا سمح للفصائل المسلحة بالاستمرار في مهاجمة القوات الامریكیة والاجنبیة من دون عقاب، كما تدفع بالوقت نفسه لتمریر مرشح صدیق لها ومدافع عن مصالحها.

العراق یحتاج الى حكومة، لاسیما وإن انخفاض اسعار النفط سوف یفقر الدولة التي تعتمد بشكل كبیر على النفط، بالاضافة الى انتشار فیروس كورونا الذي یهدد حیاة العراقیین ویزید من شلل الاقتصاد. بالإضافة لذلك، فعدم وجود حكومة عراقیة، یجعل من الصعب على الولایات المتحدة وشركائهت في التحالف للتفاوض حول اتفاقیة توفر غطاًء قانونیا لقوات التحالف وتخفف من وطأة المقاومة السیاسیة.

كان اعضاء التحالف یأملون بوضع صیغة جدیدة لإعادة تشكیل القوات الأجنبیة في العراق تقلل بشكل رمزي دور القوات الأمریكیة وتدفع بعض الدول الأعضاء في التحالف والأقل إثارة للجدل الى الأمام. ولو استمر تزاید التوتر، فستصبح الأمور أكثر صعوبة. علاوة على ذلك، فأن زیادة التوتر قد یجمد من حركة باقي أعضاء التحالف والذین قد یسهلون عملیة تشكیل الحكومة وإشراك الأحزاب السیاسیة القریبة من إیران في مناقشة خفض التصعید. بدلا من ذلك، قد تشجع الهجمات الأخیرة على قوات تحالف هذه البلدان.

أعلن أعضاء هذا التحالف المتضمن بریطانیا وفرنسا وایطالیا واسبانیا انهم سیسحبون قواتهم من العراق، معللین ذلك بخطر الاصابة بفیروس كورونا والتوقف المؤقت لتدریب القوات العراقیة، لكن السبب الأساس هو استمرار التوترات والهجمات الصاروخیة.

 

التوترات ستفید تنظیم الدولة الإسلامیة

أدى التصعید بین الولایات المتحدة وإیران وحلفائها في العراق الى تعریض الجهود المشتركة لمحاربة بقایا داعش للخطر – وهو السبب في وجود القوات الأمریكیة وقوات التحالف. حیث یستمر التنظیم الجهادي في تمرده عبر حرب عصابات صغیرة ومستقلة، ترتكز في التضاریس الوعرة كالجبال والصحارى المفتوحة، ومن هذه المناطق، باستكاعة داعش تخویف المجتمعات الریفیة النائیة هناك. لا یمكن السیطرة على هذه التضاریس المحببة للمتمردین بواسطة القوات العراقیة.

وللمحافظة على الضغط الفعال لمتمردي داعش في تلك المناطق الریفیة، اعتمد العراقیون على مساعدات التحالف الدولي بقیادة الولایات المتحدة والذي زود العرتق بقدرات تقنیة تتضمن الدعم الجوي والاستخبارات وعملیات المراقبة والاستطلاع. هذا بالإضافة للتدریب والمشورة التي یقدمها التحالف وهو أمر مهم للعراق لو كان یرید الوصول لمرحلة الاكتفاء الذاتي.

أدى التوتر منذ كانون الثاني الى إعاقة عملیات التعاون بین القوات الأمریكیة والعراقیة، تاركا القوات العراقیة تحارب داعش وحدها وبمساعدة قلیلة من قوات التحالف والتي یبدو ان تأثیرها قد انحسر.

استفاد تنظیم داعش من ذلك وشن عدة هجمات أكثر قوة ورهبة تستهدف القوات العراقي في المناطق الریفیة. إذا تصاعدت الهجمات على قوات التحالف وازدادت الضغوط العراقیة من أجل خروح الولایات المتحدة، فمن المرجح خروج جمیع اعضاء التحالف تقریبا، والذین یعتمدون على الثقل السیاسي واللوجستي الأمریكي.

تشكل القوات الأمریكیة معظم قوات التحالف وتساهم بتطویر القدرات التمكینیة لمحاربة داعش؛ ولا یوجد بدیل واضح. إن خروح قوات التحالف وخسارة دعمهم سیؤدي بطریقة أخرى الى تخفیف الضغط على فلول داعش، ویسمح لهم بتصعید نوعیة تمردهم، وتوسعهم جغرافیا وعددیا. قد تؤدي الخطوات الرامیة لتقلیل وحدات القوات الأمریكیة في العراق الى تقلبل جهود المساهمة لهذه القوات بجانب القوات العراقیة ضد داعش ولو أجبرت القوات الأمریكیة على الخروج من العراق بطریقة مذلة ومثیرة للجدل، فقد تسمم العلاقات الثنائیة بین البلدین.

قد تقرر إدارة ترامب إن العراق قد وقع بالكامل تحت السیطرة الإیرانیة وترفض تجدید الإعفائات الحالیة التي تستثني العراق من التعرض للعقوبات المفروضة على إیران، والتي یعتمد علیها العراق لشراء الكهرباء. أو قد یكون العراق تحت تهدید فرض عقوبات أمریكیة علیه، مما یشل اقتصاد البلد بشدة، والذي یعاني بدوره من الاستجابة لفیروس كورونا.

كما إن خروح الولایات المتحدة من شأنه أن یعطل العملیة السیاسیة في العراق، حیث ستجد الفصائل الموالیة لإیران نفسها في موقع یسمح لها بتنصیب رؤساء الحكومة ورسم سیاساتها. حیث إن التمرد المتفاقم لداعش سیعزز نفوذ قوات هذه الفصائل فقط. ومع عودة هذه القوات المرتبطة بإیران الى صدارة

المشهد في المعركة مع تنظیم داعش، فإن مركزیتها في الأمن القومي سوف تترجم الى قوة سیاسیة معززة. فعلى المستوى المحلي، لن تتمكن هذه الفصائل الى الاعتماد على نفس الأدوات التقنیة الدقیقة والمتطورة، مثل الضربات الجویة الدقیقة والاستخبارات التفصیلیة التي كانت تقدمها مسبقا قوات التحالف بقیادة الولایات المتحدة في الحرب ضد داعش. إذ سیلجأون بدلا من ذلك الى استخدام وسائل أقل حدة وتمییزا في مناطق ذات غالبیة سنیة، قد یكون لها تكلفة إنسانیة رهیبة وقد تكون سببا لإعادة فتح الخلافات المجتمعیة العمیقة.

 

استعادة المبادرة الاستراتیجیة

یجب على الولایات المتحدة أن تدرك أن سیاسة التصعید الحالیة في العراق هي سیاسة خاسرة بالنسبة لها، فمن خلال ضرباتها الجویة الانتقامیة، اختارت القوات الأمریكیة الوسائل العسكریة الصعبة لحمایة قواتها وردع الاستفزازات التي تثیرها الفصائل الموالیة لإیران، ولم تنجح في ذلك إذ لم ترتدع الجماعات المنفذة للهجمات. والأدهى من ذلك، فإن أي محاولة أخرى غیر مدروسة هي مخاطرة بتكرار ما حدث في 12 آذار، والذي أسفر عن مقتل عراقیین عّزل وازدیاد تحشید العراقیین ضد وجودهم العسكري.

وهنا تواجه الولایات المتحدة هذه المعضلة، فهي بحاجة لحمایة جنودها ومن الصعب أن تسمح بمرور تلك الهجمات من دون بعض الردع. ومع ذلك فإن ردود الفعل الآنیة وغیر المنسقة مع الشركاء العراقیین قد تجعل أمن الأفراد الأمریكیین في خطر، وتجعل من العراق مكانا أكثر عداًء وخطورة وخروجا عن السیطرة بالنسبة للقوات الأمریكیة.

تواصل الولایات المتحدة اصرارها بأن قواتها موجودة لدعم جهود العراقیین في محاربة تنظیم داعش، ولیس لشن حرب على إیران ووكلائها. تحتاج الولایات المتحدة أن تحمي قواتها في العراق. أن ُتجیز القوات الأمریكیة لنفسها الدخول في حلقة من الضربات الانتقامیة المتكررة، فهي ستستهلك جهودها في الدفاع عن قواتها وحمایتها بدلا من التركیز على مهمتها الأصلیة. شاركت الولایات المتحدة في حملات عنف متكررة جیئة وذهابا مع الفصائل المسلحة، سقط على اثرها العدید من العراقیین المدنیین والعسكریین، قد أبعدت الجهود عن محاربة داعش وأثرت بشكل سلبي على أمن العراق. إنهم یجعلون العراق أقل أمنا ولیس العكس.

حتى من حیث الهدف المعلن لإدارة ترامب بمقاومة النفوذ الإیراني، فإن ذلك التصعید المتبادل لا ینجح. فالضربات الانتقامیة السریعة كانت تهدف لنقل القوة والعزیمة للكف الأمریكي. لكن الواقع، ُیظهر كیف أن واشنطن قد تخلت عن زمام المبادرة وجعلته بید أعدائها الموالین لإیران، فهم من یحددون توقیت وظروف الرد الأمریكي القادم. كل خطوة أمریكیة خاطئة، تقلل من النفوذ الأمریكي في البلد وتزید من احتمالیة خروجهم بالكامل.

إنها دینامیكیة ذات وجهین بالطبع، لكن الفصائل المسلحة لیس لدیها سببا واحدا لوقف عملیاتها. فالحملات التي یشنوها تبدو منخفضة التكلفة ومستدامة.

وبالنسبة لهم، عملیات العنف تعطي ثمارها، فهم في طریقهم للحد من نفوذ الولایات المتحدة یشكل كبیر، وإمالة المشهد السیاسي في العراق لصالحهم،وإذا ما أخرجوا الولایات المتحدة بالكامل، فهم سوف یسجلون انتصارا استراتیجیا ساحقا على المستوى الإقلیمي. الجهة التي علیها كسر هذه الحلقة الانتقامیة هي الولایات المتحدة، لكن ذلك لا یحدث بمضاعفة التهدید واستمرار ردود الفعل الانتقامیة. إذ لا یمكن للولایات المتحدة توقع بأن القوات العراقیة ستواجه هذه الفصائل، إذ إن ذلك سینذر بوقوع صراع أهلي مفتوح. بدلا من ذلك، فأن أفضل فرصة لأمریكا هي بممارسة ضبط النفس والتشاور مع شركائها العراقیین وتوفیر فرصة لتشكیل حكومة عراقیة جدیدة.

بوجود حكومة جدیدة، سوف یصبح بإمكان الولایات المتحدة وحلفاؤها أن یتفاوضا على عقد اتفاق جدید یتضمن تحدید انتشار القوات الأجنبیة برعایة واشراف السلطات العراقیة، حیث یقلل من بصمة الوجود الأمریكي حتى لو كان رمزیا، ویجعل من البلدان الأخرى في التحالف في الواجهة لتقدیم جهودها لدعم العراق. اتفاق من هذا النوع من شأنه أن یعطي الأساس الشرعي لوجود القوات الاجنبیة وتقلیل الجدال السیاسي الذي یتناول الوجود الأمریكي بوصفه احتلال ینتهك السیادة العراقیة. ولو استطعنا ترسیب الجدال حول شرعیة وجود القوات الأجنبیة، ولو أصبحت القوى السیاسیة والشعبیة الداعیة لعقد علاقات متوازنة مع كل من أمریكا وإیران في موقع أقوى، ستكون واشنطن في موقع أكثر حریة یسمح لها بتقدیم مبادرات حسن نیة للعراق، كدعمهم في محاربة فیروس كورونا.

ویمكن أن یؤدي ذلك التحول السیاسي الواسع الى تقیید المیلشیات المناهضة للولایات المتحدة التي تتحدى القوانین والدولة فیما لو استمرت ترفع شعار “المقاومة” ضد الولایات المتحدة والقوات الأجنبیة.

هذه الفصائل لا تتعارض بالكامل مع النظام السیاسي العراقي؛ فهم لدیهم أجنداتهم واولویاتهم الخاصة، لكنهم یجب أن یأخذوا الرأي العام العراقي بعین الاعتبار.

قد یأخذ ذلك وقتا طویلا، لكنه الأمل الوحید للولایات المتحدة للبقاء في العراق بظروف مستقرة نسبیا من أجل محاربة داعش والذي یملك الأولویة لدى الولایات المتحدة، ولموازنة التأثیر الإیراني في المشهد السیاسي العراقي.

تخفیض التصعید في العراق یحمل فائدة للولایات المتحدة، فهو سیخلق ظروفا مناسبة لتشكیل حكومة جدیدة ولجعل العلاقات الثنائیة بین البلدین ترتكز على أرصیة صلبة. ذلك هو الانتصار الاستراتیجي الحقیقي، حتى ولو لم ینتصروا على أرض المعركة.

iraqkhair

موقع مستقل يهتم بالشأن العراقي والعربي في جميع المجالات الاخبارية والاقتصادية والتقنية والعلمية والرياضية ويقدم للمتابع العربي وجبة كاملة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights