شبكة عراق الخير
  • سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت

    بسم الله الرحمن الرحيم
    __________
    * مقدمة:

    لم تتعرض دولة الإسلام لأوقات عصيبة وعواصف منذرة ورياح مرعب مثلما تعرضت له في القرن السابع الهجري حيث دمرت جيوش التتار بقيادة " جنكيز خان " حواضر الإسلام الكبرى في المشرق الإسلامي وسفكت دماء المسلمين وأتت علي معالم الحضارة والمدنية ولم تستطع قوة إسلامية أن توقف الزحف الكاسح للجيوش التترية وانهارت الجيوش الإسلامية وتوات هزائمها وتتابع سقوط الدول والمدن الإسلامية كأوراق الشجر في موسم الخريف وأطمع ضعف المسلمين وخور عزائمهم المغول في أن يتطلعوا إلي مواصلة الزحف تجاه الغرب وإسقاط الخلافة العباسية وتقويض دعائمها ؛ ولم تكن الخلافة العباسية في وقت من الأوقات أضعف مما كانت عليه وقت الغزو المغولي ؛ فخرج " هولاكو " القائد التتري الهمجي علي رأس جيش عرمرم وأجتاح بغداد وقتل الخليفة " المستعصم " وأستباح بغداد أربعين يوما فقضي فيها علي الأخضر واليابس فقتل من بغداد وحدها مليوني فرد مسلم من رجال وأطفال ونساء وشيوخ ؛ ثم تجاوزوها إلي ما بعدها فاجتاحوا الشام بجميع مدنها وفعلوا فيها مثلما فعلوا في غيرها إلي أن وصلوا إلي حدود
    مصر وكان الله قد وكل عليها عبدا من عبيدة يأتمر بأمره وينهى بنهيه فجمع المسلمين علي كلمة التوحيد والجهاد وخرجوا لملاقاة التتار في الموقعة المشهورة " عين جالوت " فطحنوا التتار طحنا وركبوا أكتافهم وأخذوا يطاردون الفلول المنهزمة فحرروا الشام وبغداد ؛ وانحسرت بعدها إمبراطورية التتار ولم يقم لهم بعدها قائمة .......................
    وانتهت بذلك هذه الدولة التي قامت علي جماجم المسلمين ودمائهم .

    ونحن هنا نسرد قصة التتار منذ بدايتهم إلي معركة عين جالوت

    ولكي نتعرف علي قصة هؤلاء الهمج لابد أن نلقي نظرة علي أحوال العالم في ذلك الوقت.
    ** حالة العالم قبل ظهور قوة التتار :-
    في هذه الأثناء لو ألقينا نظرة إلي الكرة الأرضية لوجدنا أن هناك قوتان مؤثرتان في العالم وهما :
    1- قوة المسلمين 2- قوة الصليبيين
    أولا: قوة المسلمين :-
    المساحات الإسلامية في ذلك الوقت كانت تقترب من نصف مساحات الأراضي المعمورة في العالم ؛ وحدودها كانت تبدأ من غرب الصين وتمتد عبر أسيا وأفريقيا لتصل إلي غرب أوروبا في بلاد الأندلس ؛ وكان يسود العالم الإسلامي في تلك الأثناء رغم كبر مساحته وكثرة أناسه وكثرة موارده الفقر والتدهور الكبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية ؛ والغريب أن هذا التدهور كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري حيث كانت أمة المسلمين قوية منتصرة متوحدة .
    * كيان العالم الإسلامي في ذلك الوقت :-
    1-الخلافة العباسية :-
    نشأت بعد سقوط الدولة الأموية سنة 132ه – وكانت عاصمتها بغداد وأصبحت الخلافة العباسية بحلول القرن السابع الهجري ضعيفة جدا حتى أصبحت لا تسيطر حقيقة إلا على وسط وجنوب العراق فقط ؛ فأصبحت الخلافة في ذلك الزمان صورة خلافة فهي حقيقة لم تصبح خلافة لأن كل الأقطار الإسلامية أصبحت لها حكام منفصلين عن الخلافة انفصالا تاما ؛ واليك هذه الدول :
    2- مصر والشام والحجاز واليمن :-
    وكانت هذه الأقطار تحت حكم الأيوبيين ورثة صلاح الدين الأيوبي- رحمه الله-
    3- بلاد المغرب والأندلس :-
    كانت هذه البلاد تحت حكم دولة الموحدين والتي كانت في هذه الأثناء قد أصبحت ضعيفة وفي أواخر عهدها .
    4- دولة خوارزم :-
    كانت تحكم تقريبا كل الشرق الإسلامي فهي دولة مترامية الأطراف تمتد حدودها من غرب الصين شرقا إلي أجزاء كبيرة من إيران غربا ؛ وكانت هذه الدولة علي خلاف طويل وعقيم مع الخلافة العباسية .
    5- الهند :-
    وكانت في ذلك الوقت تقع تحت حكم الغوريين المسلمين وكانت أيضا علي خلاف مع الخوارزميين .
    6- غرب فارس :-
    كان هذا الجزء من فارس (إيران حاليا ) تحت حكم الطائفة الإسماعيلية الشيعية
    *** من هي الطائفة الإسماعيلية ؟
    هي طائفة من طوائف الشيعة وكانت شديدة الخبث فهي من أخبث طوائف الشيعة علي الإطلاق ؛ ولهم مخالفات عديدة في العقيدة جعلت كثيرا من العلماء يخرجونهم من الإسلام تماما ؛ فكانوا يخلطون الدين بالفلسفة وهم أصلا من أبناء المجوس وأظهروا الإسلام وأبطنوا المجوسية ؛ وتئولوا آيات القرآن علي أهوائهم وأنكروا كثيرا من فرائض الإسلام ؛ ومن أهم مطالبهم الملك والسلطان لذلك كانوا يهتمون بأمور السلاح والقتال وبناء القلاع والحصون .
    7- منطقة الأناضول ( تركيا حاليا ) :-
    وكانت تحت حكم السلاجقه الروم وأصولهم ترجع إلي الأتراك المسلمين .

    *** ونلاحظ في هذه الفترة أنه أنتشر بها المؤامرات وتعددت فيها الحروب بين المسلمين وإخوانهم في الدين وكثرت المعاصي والذنوب ؛ وعم الترف والركون إلي الدنيا وهانت الكبائر تماما علي قلوب الناس حتى كثر سماع أن هذا ظلم هذا وأن هذا قتل هذا وأن هذا سفك دم هذا ؛ وقد علم يقينا أن من كان على هذه الحالة لابد من استبداله وأصبح العالم الإسلامي في ذلك الوقت ينتظر وقوع كارثة تقضي على كل هؤلاء الضعفاء في كل هذه الأقطار وليأتي بعد ذلك جيل من المسلمين يغير الوضع – بمشية الله – ويعيد للإسلام هيبته وللخلافة قوتها ومجدها
    كانت هذه هي حالة الأمة الإسلامية في نهاية القرن السادس الهجري وبداية القرن السابع

    ثانيا : قوة الصليبيين :-
    1- غرب أوروبا :-
    كان المركز الرئيسي للصليبيين في هذه الأثناء في غرب أوروبا ؛ وأنشغل الأوروبيين في ذلك الوقت بحروبهم المستمرة مع المسلمين ؛ فكان نصارى انجلترا وفرنسا وألمانيا وايطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية المشهورة علي بلاد الشام ومصر ؛ وكان نصارى أسبانيا والبرتغال ومعهم فرنسا في حروب مستمرة مع المسلمين في الأندلس .
    2- الإمبراطورية البيزنطية :-
    كانت هذه الإمبراطورية تحكم شرق أوروبا وكانت في هذه الأثناء في حالة من الضعف الذي لا يسمح لها بدخول حروب مع المسلمين رغم ضعفهم أيضا .


    3- مملكة أرمينيا :-
    وهي تقع في شمال فارس وغرب الأناضول ؛ وكانت في حروب مستمرة مع المسلمين وبالأخص السلاجقه الأتراك في الأناضول .
    4- مملكة الكرج ( جورجيا حاليا ) :-
    وهذه المملكة أيضا لم تتوقف الحروب بينها وبين المسلمين وبالأخص الدولة الخوارزمية.
    5- الأمارات الصليبية :-
    الموجودة في الشام وفلسطين وتركيا ( الأناضول ) وكانت هذه الأمارات تحتل مناطق إسلامية ذات أهمية كبيرة ؛ وكان أشهر هذه الأمارات ( أنطا كيا – طرابلس – بيروت – وغيرها ........ )

    ** من هم التتار ؟
    ظهرت قوة التتار في عام 603ه – وكان ظهور هذه الدولة أول ما ظهرت في " منغوليا " بشمال الصين وكان أول زعمائها هو " جنكيز خان " وهو ليس الاسم الحقيقي لذلك القائد وإنما هي كلمة تعني باللغة المنغولية " قاهر العالم " أو " ملك ملوك العالم " وأسمه الحقيقي هو " تيموجين " وكان ذلك الرجل سفاحا وسفاكا للدماء وكان قائدا عسكريا شديد البأس وكانت له القدرة علي تجميع الناس حوله وبدأ في التوسع تدريجيا في المناطق المحيطة به وسرعان ماأتسعت مملكته حتى بلغت حدودها من كوريا شرقا إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربا ومن سهول سيبريا شمالا إلي بحر الصين جنوبا وفي سنوات قليلة أصبح يضم في طياته دولة الصين بكاملها ( 9مليون كيلومتر مربع ) -منغوليا – فيتنام – كوريا – كمبوديا – تايلاند – أجزاء من سيبريا .
    وأسم التتار أو المغول : يطلق على الأقوام الذين نشأوا في شمال الصين في صحراء تسمى بصحراء ( جوبي ) بمنغوليا .
    *** ما الفرق بين التتار والمغول ؟
    التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة بمنغوليا وخرج من التتار قبائل أخرى كثيرة منها قبيلة المغول وقبائل الترك والسلاجقه وغيرها ......... ؛ وعندما سيطر المغول على هذه المنطقة بقيادة جنكيز خان أطلق أسم المغول على هذه القبائل كلها .
    *** ماهى ديانتهم ؟
    كان لهم ديانة غريبة جدا وهي خليط من أديان مختلفة جمعها جنكيز خان من شرائع الإسلام والمسيحية والبوذية وأختلق لهم أشياء أخري ؛ وأخرج لهم في النهاية كتابا جعله كالدستور للتتار ويسمى هذا الكتاب بأسم " الياسق " أو " الياسج " أو " الياسا " وأصبح ذلك هو دستور دولة التتار وعقيدتهم .


    *** ما هي طبيعة حروبهم ؟
    حروب التتار كانت تتميز بأشياء خاصة تميزهم دائما عن غيرهم ومن أهم هذه الأشياء :
    1- سرعة انتشار رهيبة
    2- أعداد هائلة من البشر
    3- نظام محكم وترتيب دقيق
    4- تحمل الظروف القاسية من ( حر أو برد أو صحراء أو أدغال ) بمعني أنهم يقاتلون في كل مكان .
    5- قيادة عسكرية بارعة جدا
    6- من أهم مميزاتهم وهي صفة يتصفون بها عن غيرهم أنهم بلا قلب فحروبهم كلها كانت حروب تخريب غير طبيعية فكانوا يبيدون ابادة جماعية لأهل المدن من أطفال ونساء وكهول لا يفرقون بين مدني وعسكري الكل عندهم سواء لا يفرقون بين ظالم ومظلوم وكانوا كما قيل " أن قصدهم هو أفناء النوع وابادة العالم لاقصد الملك أو السلطان "
    7- رفض قبول الآخر والسير على مبدأ القطب الأوحد وليس هناك مجالا للتعامل مع دول أخرى محيطة .
    والغريب أنهم كانوا يدعون أنهم ما جاءوا إلى هذه البلاد إلا ليقيموا الدين ولينشروا العدل وليخلصوا البلاد من الضالمين .
    8- كانوا لاعهد لهم مطلقا لا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق .
    هذه كانت السمات التي اتصف الجيش التتري وهي صفات تتكرر كثيرا في كل جيش لم يضع في حسبانه قوانين السماء وشريعة الله – عز وجل .

    ملخص القوى الموجودة على الساحة في أوائل القرن السابع الهجري ؛كانت ثلاث قوى رئيسية :
    1- المسلمين 2- الصليبيين 3- التتار
    *** الحقد الصليبي للمسلمين :-
    أرسل الصليبيين وفدا رفيع المستوى من أوروبا إلي منغوليا ؛ مسافة تزيد علي ( 12 ألف كم) ذهابا فقط ؛ ليحفزوا التتار على غزو البلاد الإسلامية وإسقاط الخلافة العباسية وعلى اقتحام بغداد درة العالم الإسلامي في ذلك الوقت ؛ وأنهم سيساعدونهم على حرب المسلمين وسيكونوا بمثابة أعينهم في هذه المناطق ؛ وبذلك تم إغراء التتار إغراء كاملا وحدث ماتوقعة الصليبيين ؛ فقد سال لعاب التتار على أملاك الخلافة العباسية وقرروا فعلا غزو هذه البلاد الواسعة الغنية بالثروات والمليئة بالخيرات وبدأ التتار يفكرون جديا في غزو العالم الإسلامي وبدأوا يخططون بحماسة شديدة لإسقاط الخلافة العباسية ودخول بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية .

    ***خطة جنكيز خان لغزو العالم الإسلامي :-
    عندما قرر جنكيز خان غزو العالم الإسلامي فكر في أن يتمركز في منطقة أفغانستان وأوزبكستان لعدة أسباب مهمة وهي :
    1- كبر المسافة بين الصين والعراق ولابد من جود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين .
    2- ولأن هذه المنطقة والتي تعرف بمنطقة " القوقاز " غنية بالثروات الزراعية والاقتصادية في هذه الأثناء .
    3- تكتيكيا لا يستطيع جنكيز خان لأن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربة أو تقطع عليه خطوط الإمداد .
    ولهذه الأسباب قرر جنكيز خان خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية والتي تعرف بالدولة " الخوارزمية " واتي تضم في طياتها عدة أقاليم إسلامية غاية في الأهمية وكان هناك بين الدولة الخوارزمية ودولة التتار معاهدات واتفاقيات على عدم الاعتداء من أي من الدولتين على الأخرى ؛ ولكي تكون الحرب مقنعة بين الطرفين فلابد من وجود سبب يدعو إلي هذه الحرب .
    *** السبب الذي أدي إلي نشوب الحرب بين الطرفين :-
    بحث جنكيز خان عن سبب مناسب لدخول هذه الحرب ولكنه لم يجد السبب المقنع للحرب وسبحان الله – حدث أمر مفاجئ بغير إعداد مسبق من جنكيز خان يصلح لأن يكون سببا لهذه الحرب وبالفعل اتخذه جنكيز خان كذريعة لدخول هذه الحرب التي ستقضي تماما علي الدولة الخوارزمية وهذا السبب هو " أن مجموعة من التجار المغول ذهبوا إلي مدينة إسلامية تسمى ( أوترار ) وهي تقع في شرق المملكة الخوارزمية على حدود دولة التتار فلما رآهم حاكم المدينة المسلم أمر بقتلهم جميعا " .
    *** اختلاف المؤرخون في سبب قتلهم :
    1- منهم من قال ك أن هؤلاء ما كانوا إلا جواسيس أرسلهم جنكيز خان للتجسس على الدولة الخوارزمية أو لاستفزازها ولذلك قتلهم حاكم المدينة .
    2- ومنهم من قال : أن هذا كان عمدا من حاكم " أوترار " كنوع من الرد على عمليات السلب والنهب التي قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر وهي بلاد تابعة للخوارزميين .
    3- ومنهم من قال : أن هذا كان فعلا متعمدا من حاكم " أوترار " يقصد بذلك أن يستثير التتار للحرب ليدخل بعد ذلك " خوارزم شاة " هذه المنطقة وهي منطقة " تركمنستان " وكانت ضمن أملاك التتار .
    4- ومنهم من قال : أن جنكيز خان أرسل بعضا من رجاله إلي أرض المسلمين ليقتلوا تجار التتار هناك حتى يكون ذلك سببا في غزو بلاد العالم الإسلامي .
    5- ومنهم من قال : أن حاكم " أوترار " طمع في أموال التجار فقتلهم لأجل هذا .


    *** تطور الأوضاع بعد هذه الحادثة :-
    عندما وصل نبأ مقتل التجار إلى جنكيز خان أرسل إلي " محمد بن خوارزم شاه " زعيم الدولة الخوارزمية الكبرى يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه ولكن محمد بن خوارزم اعتبر ذلك تعديا على سيادة البلاد المسلمة فهو لا يسلم مجرما مسلما ليحاكم في بلدة أخرى بشريعة أخرى إنما قال " أنه سيحاكمهم في بلاده فأن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية " ؛ ولكن جنكيز خان لم يقتنع بذلك الكلام أو بمعنى آخر لم يرغب في الاقتناع بذلك الكلام وعنها وجد جنكيز خان العلة المناسبة للهجوم على العالم الإسلامي وعنها وجد جنكيز خان العلة المناسبة للهجوم على العالم الإسلامي وبعدها بدأ الإعصار التتري الرهيب على العالم الإسلامي فبدأت الهجمة التتريه الأولى على دولة خوارزم شاه .

    *** بداية الإعصار :-
    جاء جنكيز خان بجيشه الكبير لغزو بلاد الخوارزميين فخرج له محمد بن خوارزم وذلك في سنة 616_ وذلك بعد ثلاثة عشر عاما فقط من قيام دولة التتار ؛ والتقى الجيشان في موقعه رهيبة في شرق الدولة الخوارزمية شرق نهر " سيحوون " وهو ما يعرف الآن باسم نهر " سريداريا " في دولة كزخستان المسلمة واستمرت المعركة لمدة أربعة أيام متصلة وقتل من الفريقين خلقا كثيرا ؛ فأستشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفا وقتل من التتار أضعاف ذلك ؛ ثم تحاجز الفريقان بعدها وأنسحب محمد بن خوارزم بجيشه من أرض المعركة لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة ولا قبل له بها فأنسحب ليحصن المدن الكبرى في مملكته وعلى رأسها العاصمة " أورجاندا " وأنشغل في تحضير وتجهيز الجيوش من أطراف مملكته ومع اهتمام محمد بن خوارزم بتحصين المدن الكبرى إلا أنه ترك الجزء الشرقي من مملكته بدون حماية كافيه ؛ ولكن هذا الخطأ لم يكن بمثابة خطأ تكتيكي من محمد بن خوارزم ولكن كان خطأ قلبي فقد اهتم بتأمين نفسه وأملاكه وأمواله وأسرته وتهاون في تأمين شعبه ؛ حافظ على كنوزه وكنوز آباءه ولكنه أهمل تماما الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه ؛ وعادة لا يصمد أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأمتهم وعادة ما تسقط الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح .
    *** اجتياح بخاري :-
    جهز جنكيز خان جيشه من جديد وأسرع في اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير فمساحته تبلغ حوالي ( 3مليون كم ) تقريبا ؛ فقطع كل إقليم كازاخستان دون مقاومه تذكر حتى وصل إلى مدينة بخاري المسلمة وهي بلدة الأمام الجليل والمحدث العظيم الأمام البخاري رحمه الله – وهي تقع الآن في دولة أوزبكستان ؛ فحاصر جنكيز خان بخاري في سنة 616 – ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان ؛ وكان محمد بن خوارزم في هذه الأثناء بعيدا جدا عن بخارى فاحتار أهل بخارى ماذا يفعلون ؟ فظهر في المدينة رأيان :
    * الرأي الأول : قال أصحابة نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا . * " " الثاني : قال أصحابة نأخذ بالأمان ونفتح الأبواب للتتار لتجنب القتل .
    وهكذا انقسم أهل البلاد إلي فريقين ؛ فريق من المجاهدين قرر القتال وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة بالمدينة وأنضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها ؛ وفريق آخر من المستسلمين وهذا هو الفريق الأعظم والأغلب في هذه المدينة وقرروا فعلا فتح أبواب المدينة والاعتماد على أمان التتار ففتحوا أبواب المدينة للتتار ودخل جنكيز خان المدينة الكبيرة وأعطى أهلها الأمان فعلا في أول الأمر خديعة لهم وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة الكبيرة في داخل المدينة ؛ وبدأ في حصار القلعة بل وأمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل فتحها والغريب في ذلك الأمر أنهم أطاعوه في ذلك ؛ وهكذا حوصرت القلعة عشرة أيام ثم فتحت عنوه ولما دخلها جنكيز خان لعنه الله – قتل كل من في القلعة من المجاهدين ولم يبق بالمدينة مجاهدين وهنا بدأ جنكيز خان في خيانة عهده فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وأصطفى كل ذلك لنفسه ؛ ثم أحل المدينة لجنوده ففعلوا فيها مالا يتخيله عقل ؛ وأنظر ما قاله بن كثير في كتابه البداية والنهاية عن هذا المشهد " فقتلوا من أهلها خلقا لا يعلمه إلا الله عز وجل – وأسرو الذرية والنساء وفعلوا مع النساء الفواحش بحضرة أهلهن فارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها ومع الزوجة في حضرة زوجها فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب وكثر البكاء والضجيج في البلد من النساء والأطفال والرجال ثم أشعل النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت المدينة تماما حتى صارت خاوية على عروشها " وهكذا هلكت بخارى في عام 616 – وكان هلاكها البداية وليس النهاية ؛ بداية الطوفان التتري الذي اجتاح العالم الإسلامي بأسره .
    *** دخول عام 617 :-
    ويبدأ عام 617- بأحداث أكثر إيلاما وكان هذا العام من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة النبي (ص) والى يومنا هذا ؛ ففي هذه السنة علا نجم التتار واجتاحوا البلاد الإسلامية الواحدة تلو الأخرى وفعلوا بها الأفاعيل .
    .***ابن الأثير وما قاله عن التتار :-
    ونقدم على هذه الأحداث ما قاله المحدث الجليل ابن الأثير في كتابه" الكامل في التاريخ " فقد قال " لقد بقيت عدة سنوات معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه رجلا وأواخر أخرى فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطير هذا ثم رأيت أن ترك هذا لم يجدي نفعا " .
    فبدأ يكتب الذكريات المريرة والأحداث المؤلمة فيقول في مقدمة القصة " هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين ولو قال قائل ( إن العالم منذ خلق الله – سبحانه وتعالى – آدم إلى الآن لم تبتلى بمثلها) لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله " بختنصر " ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس إلى ماخرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كانت المدينة منها أضعاف البيت المقدس وما بنوا إسرائيل إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل ؛ ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج ؛ وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه أما هؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والأطفال والرجال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة في بطون أمهاتهن – فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " .
    كانت هذه هي المقدمة التي كتبها ابن أثير في بداية كتابة " الكامل في التاريخ " والذي كان يتحدث عن التتار وكان هو شاهد عيان على ذلك فقد كان معاصرا للأحداث في ذلك الوقت

    ماذا حدث في سنة 617 ؟
    ** اجتياح سمر قند ؟
    بعد أن دمر التتار مدينة " بخاري " وأهلكوا أهلها وحرقوا ديارها ومدارسها ومساجدها انتقلوا إلى المدينة المجاورة وهي " سمر قند " وهي مدينة توجد في دولة " أوزبكستان " حاليا ؛ واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسرى المسلمين من بخاري ؛ وكما يقول ابن الأثير " فساروا بهم على أقبح صورة فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل " .
    والحكمة من اصطحاب التتار الأسارى المسلمين معهم إلى " سمر قند " كان له أكثر من هدف من جراء ذلك مع الأخذ في الاعتبار أن هذه كانت سنة من سنن التتار في كل تنقل لهم من مدينة إلى مدينة .
    أهدافهم من اصطحاب الأسرى المسلمين معهم :-
    1- كانوا يعطون كل عشرة أسرى علما من أعلام التتار ليرفعوه فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أن المجموع كله من التتار فتكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل لا يتخيل فلا يعتقدون مطلقا أنهم يقدرون على قتالهم فيستسلمون .
    2- كانوا يجبرون الأسرى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه .
    3- كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين فيضعون الأسرى في أول الصفوف كالدروع ويختبئون خلفهم فإذا أطلق العدو السهام على جيش التتار دخلت السهام في صدور الأسرى المسلمين والتتار يطلقون سهامهم من خلف صفوف الأسرى المسلمين .
    4- كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا .
    5- كانوا يبادلون بهم الأسرى في حال أسر رجال منهم في القتال .
    ***الوضع في " سمر قند " قبل الاجتياح :-
    " سمر قند " مدينة من حواضر الإسلام ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت ولها قلاع حصينة وأسوار عالية ولهذه القيمة الإستراتيجية والاقتصادية الكبيرة ترك فيها " محمد بن خوارزم " خمسين ألف جندي خوارزمي لحمايتها ؛ هذا بالإضافة إلى أهلها الذين يقدرون بمئات الآلاف .

    *** الاجتياح :-
    وصل جنكيز خان إلى المدينة وحاصرها من كل الجهات وكان من المفترض أن يخرج إليه الجيش الخوارزمي النظامي ؛ ولكن دب الرعب في قلوب الجيش المسلم وتعلقوا بالحياة فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة ؛ فاجتمع أهل المدينة وتباحثوا في الأمر ففشلوا تماما في إقناع الجيش الخوارزمي في الخروج للدفاع عنهم ؛ فقرر البعض من العامة أن يخرجوا فخرج سبعون ألف من أهل المدينة وخرج معهم أهل العلم والفقهاء خرجوا جميعا على أرجلهم دون خيول ولا دواب ولم يكن لديهم خبرة عسكرية تمكنهم من القتال ؛ فرأى التتار أهل " سمر قند " يخرجون إليهم فقرروا القيام بخدعة وهي الإنسحاب المتدرج من حول الأسوار في محاولة لسحب المجاهدين بعيدا عن مدينتهم فبدأوا في التراجع تدريجيا عن " سمر قند " وقد نصبوا الكمائن خلفهم وبالفعل نجحت خطة التتار ؛ وبأ المسلمون يطمعون فيهم حتى ابتعدوا تماما عن أسوار المدينة ؛ عنها أحاط بهم جيش التتار تماما وبدأت عملية تصفية لأفضل رجال " سمر قند " فقتل السبعون ألف مقاتل عن آخرهم ؛ وبعد إفناء الجيش المسلم عاد التتار إلى حصار المدينة مرة أخرى ؛ فأخذ الجيش الخوارزمي قرارا مخزيا وهو طلب الأمان من التتار على أن يفتحوا لهم أبواب المدينة دون مجهود ؛ فوافق التتار على إعطاء الأمان لهم ؛ ففتح الجيش الخوارزمي الأبواب وخرجوا إلى التتار مستسلمين فقال لهم التتار " سلموا إلينا أموالكم وسلاحكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم" ففعلوا ما أمرهم به التتار فلما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف في الجنود الخوارزميين حتى أفنوهم عن آخرهم ؛ ودخل التتار المدينة وفعلوا بها مثلما فعلوا في بخاري فقتلوا أعدادا لاتحصى من الرجال والنساء والأطفال ونهبوا كل ثروات البلد وانتهكوا حرمات النساء ؛ وعذبوا الناس بأنواع العذاب المختلفة بحثا عن أموالهم وسبوا أعداد هائلة من النساء والأطفال ومن لم يصلح للسبي لكبر سنه أو لضعف جسده قتلوه ؛ وأحرقوا الجامع الكبير بالمدينة وتركوها خرابا ؛وأستقر بعد ذلك جنكيز خان في " سمر قند " لأنه أعجبته المدينة العملاقة التي لم يرى مثلها في حياته قبل ذلك .

    يتبع لطفا
    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت كتبت بواسطة بصراوي مشاهدة المشاركة الأصلية
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML

جميع آلمشآركآت آلمكتوبه تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكل من الاشكال عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى