مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
http://www.iraqkhair.com/up/do.php?i...7554430811.jpg
مذكرات الشاعر المرحوم عبد الرزاق عبد الواحد
هكذا يسرد لنا الشاعر المرحوم عبد الرزاق عبد الواحد مذكراته التي اشتملت عليه تلك الحياة الثرة بكل ماتعنيه ترانيم المجتمع العراقي في فترة قضاها الشاعر منذ الولادة وحتى الوفاة ... لم تكن هذه المذكرات نقلا عن احد لان النقل غالبا مايكون فيه زيادة او نقصان ربما يتصرف بها الناقل ولكنني انقل لكم مذكرات هذا الشاعر الفذ الذي شاء القدر وبعد الاحتلال ليوصف بشاعر صدام حسين ويصفونه بابي الطيب المتنبي الذي هو شاعر بني حمدان ولم يبتعدوا الى ان يكون الشاعر البديل للجواهري الذي كان شاعرنا هذا يكن له حبا لايوصف وقد دخل شاعرنا مدخولات شتى تستحق التقدير ومن كان يطلع على ماكتب هذا الشاعر المرموق لشعر بان قلبه يتراقص قبل جسده .... وبدلا من ان نفتخر بان هذا الشاعر الذي لم تلد ام اخرى مثل ماولد امه الصابئية طفلا يبكي شعرا بدل الصراخ ... لااكتمكم حقيقة انني مولع بهذا الشاعر الذي ينسج المواضيع الشتى بكلماته التي تسحر القلوب ..... اترككم مع مذكرات شاعر العراق بل شاعر الامة رحمه الله
مقدمة
كثيراً ما فكرت بكتابة مذكراتي .. أقول لنفسي : يا عبدالرزاق ، لقد تجاوزت الستين ، وعايشت أهم أحداث هذا البلد منذ أواخر الأربعينات .. وكنت لصيقاً ببعضها حتى أدق التفاصيل ، لاسيما الحركة الشعرية التي كان معظم شعرائهـا أصدقاءك ، وزملاءك ، ومعاصريك .. وهي ذمـة في عنقك، وأمانة للتاريخ يوجبها تساؤل الأجيال القادمة، خصوصاً وأنت تعرف الكثير مما لا يعرفه سواك .
عندما أصل الى هذا الحد من القناعة ، أشعر بالرضا بل وبالسعادة أحياناً لأنني اتخذت القرار .. ثم ما ألبث أن أفقد طمأنينتي كلها حالما أفكر بوضع منهج لمذكراتي!
من أين أبدأ ؟.. وبماذا أبدأ ؟ .
أأجعلها مراحل زمنية فأساير عمري ابتداء من الطفولة المبكرة كما فعل قبلي كثيرون ؟ . وهب أن مرحلة الطفولة يسـهل احتواؤها لأنها مقتصـرة على البيت ، والمدرسة ، وقليل من التفاصيل المحصورة في محيط ضيق .. ولكن ماذا ترانا صانعين حين نتجاوز مرحلة الطفولة الى الصبا ، ثم الى الشباب ، ثم الى ما بعده ؟! .. من أين يتأ تّى للذاكرة أن تلملم تفاصيلها وتُسلسلها ، حين تتشعب الذكريات وتتداخل بين الشعـروالأدب والسياسة ، والبيت والدرا سة،والعلاقات الاجتماعية بكل تشابكاتها ، والأبداعية بكل ظواهرها ؟ . وأيّ مقصّ حاذق يستطيع أن يمنع انثيال الأحداث وتشابكها ، فيقطعهاحيث يستحسن القطع ، ويطلقها حيث يحمد الإطلاق ؟
مراراً كدت أصاب بالإحباط ، وبالـيأ س من المحاولة . ليس سهلاً أن يقف المرء على مساحة نصف قرن زاخر بأعظم الحرائق ، وأكبر الفيضانات..وهو وسط اللهب هنا ، وفي قلب اللجة هناك .. ثم يدّعي أنه يستطيع أن يفرزالشرار عن بعضه، ويلاحظ كل شرارة متى اندلعت ، وأين انطفأت . وأن يتابع كل موجة ، من أية لجة بدأت .. وإلىأي شاطيء انتهت .
وأِذ أصل الى هذا التصور ، أحس بأن المادة الهائلةالمتراكمة في ذاكرتي أكبر من أن أ ستطيع برمجتها..ويسلمني هذا الأحسا س الى الشعور بعقم المحاولة فأتركها.. ولألف سبب وسبب، أعود اليها من جديد .. لصديقٍ يستعديني بكتابته.. لصديق آخر يستفزني بمطالبته.. لصورة تملأ عينيّ دفعة واحدة ، قاطعة ثلاثين أو أربعين عاماً في ثوان لتسقط على بقعة من حياتنا الآن فتملأها بالضوء ، وأدري أن لا أحد يدري بها أو يراها سواي .. فأحسّ من جديد بـأنّعليّ أن أكتب ! .
ومرّت أيام .. فجـأة برقت في خاطـري الفكرة
التالية : سأسمي ما سأكتبه { ذكريات } لا { مذكرات }.. أولاً لأحساسي بأ نها ستكون أكثر عفوية ،وأكثر مدعاة إلى التسامح في حالتَي النسيان أو التناسي . وثانيـاً ، لأنها سـتكون أميل الى الإنتقائية .. فأنا لا أُنطِق ذاكرتي ، ولا أستنطقها،ولكنني سأسمعها اذا تكلمت . أما هي فستتكلم حين تشاء ، وكما تشاء ! .
والتمعت أمامي فكرة {الموضوعات} . قلت :الشعر ألصق أنسغة حياتي بي ، وأكثرها امتلاء بالماء ، وربما باللهيب أيضاً .. فبه سأبدأ .
حين قررت ذلك ، بدأت أحسّ بأول الطمأنينة . وساءلت نفسي : هل سأبدأ بحياتي الشعرية منذ بواكيرها..وعبر مراحلها المختلفة ؟ . أحسست عندئذٍ أنني مقبل على كتابة سيرة ذاتية ، لا ذكريات شـاملة تتسع للأحداث ،وللتيارات ، وللآخرين الذين هم المفاصل الأشد تأثيراً فيحركة الجسد الشعري في العراق .
هنا وصلت الى هذ ه القناعة : أن أبدأ أولاً بأضاءة أبرز الوجوه الشعرية التي عايشتها ، محاولاً استرجاع أدقّ معالمها الإنسانية ، وخاصـة ما أعرفه أنا ، وقد لا يعرفه سواي. فإذاً ما دخلت في مساحتها الأدبيـة عبر علاقا تها ببعضها ، وعبر الأحداث التي عشناها معاً، أكون قد رسمت سلفاً صورة سابقة لشخصيا تها ، تساعد على فهم أدوارها في حياتنا المشتركة أولاً، وفي الإنعطافة الشعرية الكبيرة التي ابتدأت في العراق في أوخر الأربعينات ، وامتدت إلى الوطن العربي كله ثانياً .
بهذا سأبدأ كتابة { ذكرياتي}،حتى اذا ما انتهيت من استخلاص أعزّ ما في منجمها الشعري من تداعيات ،بدأت بالبحث عن منبجس آخر للذكريات ..
وهكذا أفضح هنا أنني لم أخطط لشيء ، انما سأترك لذاكرتي أن تقود قلمي الى أعزّ كنوزها ، وألصقها بحيـاةالناس آنذك ، بكل عفويتها .. وبكل صدقها وأمانتها .
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
مقاهي وشعراء
( 1 )
كنت طالباً في الصف الأول من دار المعلمين العاليـة ، يوم ألقى الجواهري قصيدته الهائلة { أتعلم أم أنت لا تعلم } في جامع ( الحيدرخانة ) . كان ذلك عام 1947 .
حتى هذه اللحظة ما أزال أذكر كيف انقطع شارع الرشيد من ساحة الميدان حتى ساحة الرصافي .. وفوق الرؤوس المحتشدة في الشارع ، كانت مكبرات الصوت الممتدة الى الساحتين تنتظر .. وملء الشارع كان الناس ينتظرون .
كنت ممن حالفهم الحظ ، فاستطاعوا الوصول الى الجامع في وقت مبكر .. إلا أنني حشرت بسبب الأزدحام الشديد خلف أحد الأعمدة في ساحته ، ولم أستطع رؤية الجواهري وهو يتهدّج منشداً ، لفرط ما التصقت الأجساد ببعضها . وكُتمت الأنفاس .. وبدأ طوفان صوت الجواهري :
أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ
بأنّ جراح الضحايا فمُ
منذ ذلك اليوم ، ولمنطقة ( الحيدرخانة ) في نفسي جلال مبهم لم تخفف من هيمنته ألفة السنين الطويلة التي قضيتها بين مقاهيها بعد ذلك . الغريب أنّ هذه المنطقة انفردت من بين جميع أحياء بغداد ومحالّها بأن احتوت المقاهي الأربع أو الخمس ، التي كان يرتادها الشعراء والأدباء في تلك الأيام وأهم هذه المقاهي مقهى ( حسن عجمي ) .
هرم من السماورات اللماعة ، تمتد قاعدته على جانبي الموقد ، ثم يصعد متسلقاً حتى يكاد السماور الذي في قمته أن يلامس سقف المقهى . وأمام قاعدة هرم السماورات يمتد صفّ طويل من الأراجيل بألوانها المختلفة . وعلى مساحة مائة متر مربع تقريباً ، التي هي مساحة المقهى كلها ، تمتد التخوت بخطوط متوازية متقابلة ، وبينها يتحرك { شفتالو } صانع المقهى القزم ، حركته الدائبة التي لا تنقطع .
لا أظنّ أن أحداً من أدباء بغداد لم يسمع بمقهى حسن عجمي ، أو لم يدفعه الفضول للجلوس فيها . إنها تذكرني دائماً بمقهى زقاق المدق في القاهرة ! . كما أظنهم جميعا ًيعرفون مقهى ( الرشيد ) ، ومقهى(البرلمان) ، ومقهى (خليل ) ، على قلّة ارتياد أدباء الخمسينات لهذا الأخير .
هذه المقاهي الأربع أو الخمس ، إذا أضفنا إليها مقهى ( الزهاوي ) ، تقع جميعها في منطقة الحيدرخانة .. تقابلها ( البرازيليتان ) ، مقهى البرازيلية الشتوي في شارع الرشيد بين { سيّد سلطان علي } ومحلة { المرَبْعة} ومقهى البرازيلية الصيفي ، كما كان يسمى ، ويقع في الباب الشرقي. المقاهي الأربع الأولى كانت تلتقي فيها الغالبية العظمى من الشعراء : رشيد ياسين ، بدر السياب ، محمود البريكان ، أكرم الوتري ، وحسين مردان..ثم الجيل اللاحق من الشعراء : سعدي يوسف ، كاظم جواد ، محمد النقدي ، موسى النقدي ، رشدي العامل ، راضي مهدي السعيد ، زهير أحمد ، كاظم نعمة التميمي ، وعبدالرزاق عبدالواحد *
أما البرازيليتان ، فكان يلتقي فيهما بلند الحيدري ، وعبدالوهاب البياتي ، والقاص عبدالملك نوري ، والروائي المعروف فؤاد التكرلي ، والأديب نهاد التكرلي . الوحيد الذي كان يتأرجح بين الجهتين هو بلند الحيدري الذي كان غالباً ما يُرى فيهما معاً في اليوم نفسه ! .
مقاهي الحيدرخانة كانت شعبية مكتظة ، كثيرة الحركة ، شديدة الضوضاء .. يتخلل لغطها صياح باعة الحَب ، والسميط ، والسكائر ، والصحف اليومية ..بينما تتمتع البرازيلية بالهدوء ، وبمسافات مريحة بين الجالسين ، وبإطلالة مترفعة على الرائحين والغادين في شارع الرشيد من خلف واجهة زجاجية شديدة اللمعان .
لم يكن الفرق بين المجوعتين فرقاً مظهرياً .. لقد كان فرقاً "طبقياً " إذا جاز التعبير . لقد كان لكل فئة من هذه المقاهي سلوكها الخاص .. مثلاً أنت لا تستطيع أن تدخن الغليون في مقهى حسن عجمي دون أن يلتفت اليك باستغراب معظم الجالسين ! . وبنفس الدرجة ،لا تستطيع أن تدخن الأرجيلة في البرازيلية حتى لو جلبتها معك من البيت ! .. أما ثمن الجلوس في مقاهي الحيدرخانة فعشرون فلساً ، يقدم لك مقابلها شاي عراقي صميم ، باستكان مذهّب ! . بينما ثمن الدخول في البرازيلية خمسون فلساً .. تتناول مقابلها فنجاناً من القهوة التركية،او شاياً بالكوب على الطريقة الأوربية ! .
الوحيد الذي كان يشكل علامة فارقة في المقاهي الأربع الأول هو الشاعر أكرم الوتري الذي كان من عائلة شبه مرفهة ، ولكنه ، وربما لسبب شعري محض ، كان ملازماً لمقاهي الطبقة الفقيرة التي كانت تغص بالمفاجآت والأحداث المثيرة ، بقدر ما كانت تغص بالشعر الحقيقي ، وبالمحاولات الجادة لتطوير القصيدة العربية ، وإغنائها .
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
· ما كانت تفصل بين اعمار المجموعتين سوى سنتين او ثلاث سنوات ..
ولكن تفصل بينهما أسبقية المجموعة الأولى في الحضور الشعري .
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
مقاهي وشعراء
( 2 )
من طريف ما كان يحدث في هذه المقاهي مثلاً ،أنّ عصبة الشعراء المتصعلكين ، كثيراً ما كانت تكتشف بعد تقاطرها على المقهى ، أن واحداً من أفرادها فقط يملك علبة سكائر ! . كان يفوّض أمره إلى الله ، ويضعها على المنضدة دون نقاش لكي يدخن الجميع ! ..وكان لابد من رقابة صارمة ، او أمانة صندوق على علبة السكائر، سيما إذا احتدم النقاش ، لكي لا يُستغل الهيجان بالتجاوز على حقوق الآخرين في علبة السكائر.. حتى ولو من قبل صاحب العلبة نفسه ! .
كنا نجيء أنا ورشيد ياسين مع بعض غالباً .. وكنت آنذاك أشتغل في أوقات الفراغ عامل صياغة هنا وهناك ، فأكسب بعض ما أسد به حاجة أسرتي ، وأحاول غالباً أن أخبّيء لنفسي درهماً مما كسبت . نقبل أنا ورشيد على مقهى الرشيد .. إلى جوار المقهى يوجد فرن للصمون .. نشتري صمونة من الدرهم الوحيد الذي أملكه .. أدفع ثمنها ، عشرة فلوس ، محتفظاً بالأربعين فلساً الباقية ثمن جلوسنا في المقهى أنا ورشيد .. وكان يقوم هو باختيار الصمونة بنفسه ، حارّةً ، محمّصة .. والخباز ينظر اليه شزراً لكثرة ما يقلّب الصمون ، حتى اعتاد عليه ، فصار يضحك كلما رآه مقبلاً ، وقد هيّأ له صمونة على هواه .. يأخذها رشيد ، ويكسرها بإتقان .. ثلث الصمونة لي ، وثلثان له .. مبرّراً ، بعقلانية رصينة ، أن حجمه أكبر من حجمي ، فهو يحتاج إذن الى تغذية أكبر ! . نحتفظ بقطعة الصمون حتى ندخل المقهى ، ونطلب الشاي ..فيكون استكان الشاي ونصف الصمونة غداءنا ، وربما عشاءنا أيضاً لذلك اليوم ! .
اطرف ما كان يحدث لنا في هذه المقاهي ، وقد حدث ذلك مراراً ، أننا بعد أن نشرب الشاي ، ويستغرقنا الحديث ، نكتشف أننا جميعاً ليس معنا ولا فلس واحد ! .. وأن كل واحد منا كان معتمداً على جيوب الآخرين .. وهنا تقع الطامة الكبرى . إن على واحد منا أن يبقى رهينة في المقهى إلى أن يعود واحد من المجموعة ومعه ثمن الشاي الذي شربناه ! . ولأنني كنت أضعف الناس ، وفي معيتهم .. فقد كنت أنا الرهينة غالباً ! . وحدث مرة أن خرجوا ، واعتمد كل واحد منهم على أن غيره سيعود حتماً .. ولم يعد أحد . وحين تأخر الوقت ، وأنا ألوب حرجاً وغيظاً ، التفت إليّ صاحب المقهى قائلاً :" أستاذ .. فات عليك الوكت ، تفضّل روح الله وياك ، والحساب على باجر أن شاء الله ! ."
من خصائص هذه المقاهي أنك تستطيع قراءة جميع الصحف ، وبعض المجلات أحياناً ، بأربعة فلوس . ومن طرائفها أنه إذا احتدم النقاش بين الجماعة ، فبإمكان من يملك عشرة فلوس فائضة ، أن يسكت الجميع ! ، وذلك بأن ينادي أبا الحب ، فينـزل هذا طبقه، ويضع كمية من حب الرقّي ينشغل بها المتناقشون ناسين احتدامهم وخلافاتهم ! .
للأمانة .. لم يكن الشعراء والأدباء وحدهم وجوه هذه المقاهي . لقد كان عدد كبير من ألمع الصحفيين ، والمحامين ، والمثقفين روّاداً دائميين لها . ما زلت أذكر أن الصحفي المعروف الأستاذ عبدالقادر البرّاك ، مرّ به زمن في أواسط الخمسينات ، كان كلما اشتغل في جريدة أغلقتها الحكومة بعد أيام، فكنا حين نراه في المقهى نسأله :" أستاذ عبدالقادر .. أي جريدة ستُغلَق قريباً ؟؟" .. فيقول :" والله بعد ما لكيت شغل !" .
وفي هذه المقاهي كانت شخصيات طريفة .. لعل أكثرها طرافة شخصية { شفتالو } عامل مقهى حسن عجمي .* وشفتالو قزم صغير ، كان آنذاك قد أ شرف على الأربعين .. ينقل بيننا الجرائد .. يسعفنا بالماء .. يتحمل كل تعليقاتنا عليه .. حتى إذا تمادينا في مشاكسته ، ردّ علينا بسيل مما لا يمكن ذكره من الكلمات ، فإذا لم نتّعظ ، أرفقها بحركات لا توصف ! .
ربما يتساءل بعض القراء : كيف لم يكن لمقهى ( الزهاوي ) على شهرتها ، حيّز في حياتنا ؟ .
في الحقيقة ، مقهى الزهاوي كانت ملتقى أدباء مخضرمين ، وشيوخ ثقافة مسنّين غالباً .. ولها سمت من الوقارتضيق به تمرّداتنا الشابة ! .. ثم أن صغر مساحتها ، ووقوعها على شارعين ، كان يثير في الانسان الإحساس بأنه جالس في وسط الشارع ! . لكل هذا لم نجد لدينا الرغبة يوماً من الأيام في الجلوس في مقهى الزهاوي ، مكتفين بخياراتنا الأربعة نتنقل بينها حيث اتسع لنا المكان !
قبل أن أختتم هذه الحلقة من ذكرياتي ، أروي للقاريء هذه الحادثة الطريفة التي حدثت لنا في مقهى الرشيد :
كنا مجموعة .. السياب ، رشيد ياسين ، اكرم الوتري ، حسين مردان ، وأنا ..وكنا نتحدث عن مجلة (الأديب) اللبنانية ، منتقدين انحياز صاحبها، ومزاجياته في النشر . فجأة خطرت لنا هذه الخاطرة الغريبة : أن نشترك جميعاً في كتابة قصيدة .. كل يقول بيتاً بالتعاقب ، مشروطاً بشرطين : أن لا يكون للبيت أي معنى ..وأن لا تكون له أية صلة بما سبقه !
بين الضحك والمزاح ، كتبنا قصيدة عجيبة ، اخترنا لها عنواناً طريفاً { أرجوحة القمر } ..وابتكرنا لها شاعرة سجلناها باسمها ، وعلى ذمّتها : ( سميرة العاني ) .. ثم أرسلنا القصيدة لوحدها ، وأرسل كل منا قصيدة من شعره الى المجلة .
الذي حدث كان في منتهى الطرافة . ظهر العدد اللاحق من مجلة ( الأديب ) ، وقصيدة سميرة العاني تحتل صدر المجلة ، داخل إطار مزخرف جميل .. بينما نشرت قصائدنا جميعاً في آخر صفحات المجلة ، وبعضها مع بريد القراء !! .
*صحح لي رشيد ياسين ، وهو ذو ذاكرة فريدة ، أن ( شفتالو ) كان يعمل في مقهى الرشيد لا في حسن عجمي ، ومكانة شفتالو في حياتنا تقتضي هذا التنويه !
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
رشيد ياسين
( 1 )
*
قلت له يوماً وأنا في بيته ببيروت : أتمنى لو عدتَ إلى بغداد يا أبا نبيل .. فأنا واثق من أنك ستضع أمور الشعر في أنصبتها .. وستحدد لكل ذي قدرٍ قدره .
وعاد رشيد إلى بغداد ، ولكنه لم يكن رشيد الذي عرفته قبل عشرين عاماً ! .
هذا واحد من ألمع نجوم الشعر في سماء بغداد ، في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات ، إن لم يكن ألمعها جميعاً .أمضينا معاً سنتين في الأعدادية المركزية كلانا في الفرع الأدبي ، ولكننا لم نتعرف على بعضنا . كنت أنا في شعبة ( ب ) ، ورشيد في شعبة ( آ ) ، وكان لكل منا عالمه .. كان ذلك عامي 1945و 1946.
ما زلت أتذ كر النشرة الجدارية التي كان يصدرها بمفرده . كان رساماً بارعاً ، وخطاطاً بارعاً .. وشاعراً وكاتباً مبكر الوضوح . وكان معتزاً باكتفائه الذاتي في كل ما يصنعه في تلك النشرة .
بعد أن توثقت الصلة بيننا ، اكتشفت أن رشيد كان ذا صوت شجي أيضاً ، حين يجوّد القرآن الكريم ، وحين يغنّي . على أن أبرز ما كان يميزه ، ثـقافته العميقة والواسعة على صغر سنه .. وأكثر ما كان يلفت النظر إليه ويثير الأعجاب به ، إتقانه اللغة الإنكليزية ، ومطالعاته بها في وقتٍ ندر فيه من يقرأ بالإنكليزية .
يوماً من الأيام ذهلت عندما علمت أن نبيل ، وهو ولده البكر ، قد قرأ مجلدات الفلسفة اليونانية باللغة الإنكليزية ، وا ستوعبها ، وهو بعد طالب في الثانوية ! قلت في نفسي : ومن يشابه أبه فما ظلم ! .
كان رشيد حيـن تعرفت عليـه ، يسكن في محلة ( الطاطران ) ، تحت التكية .. وكنت أسكن في (كرا دة مريم ) . كنا من عائلتين فقيرتين .. هو الولد البكر لتاجر انزلق به سوء التقدير إلى الإفلاس . وأنا الإبن البكر لعامل كان يكدح في الكويت لكي يعيل أسرته ببغداد ! .
كان رشيد في مطالع عشريناته .. معتدل الطول .. رشيقاً أميل إلى النحافة .. غامق السمرة ، وإن كان يتبجح بلونه الحنطي . دقيق قسمات الوجه ، متناسقها . متين البنية ، شديد الاعتداد بنفسه..متعالياً حدّ العجرفة..صادقاً ومستقيماً حدّ أن يشطر نفسه شطرين إذا اعترضته نفسه ! ساخراً من كل شيء بمرارة . تبلغ سخريته حدّ العدوانية في الغالب . شديد القسوة حتى على أقرب الناس إليه . كثير التذمر حدّ أن يخلق حوله أحياناً جواً من التعاسة لا يطاق !
إن الذي يرى رشيد ياسين من كثب ، لا يستطيع أن يتخيل أن هذا الأنسان يمكن أن يبكي ! . أنا رأيته يبكي مرتين ! .. أولاهما بدون صوت . كانت دموعه تنهمل على خديه ، وهو يحدثني عن حبيبته التي افترق عنها .. كان ذلك في بداية تعارفنا ، وكان يعمل يومها معلماً في مدينة القرنة بالبصرة . أما في المرة الثانية ، فقد كان يشهق مختنقاً بعبراته .. كان ولده الصغير يمر بمحنة كبيرة . إنك لتكتشف داخل هذه الصخرة القاسية نبعاً من الماء لا تستطيع أن تتصوره إلا إذا ملكت أن تنفذ إليه .. وليس يسيراً ، حتى على من عاش عمره مع رشيد ، أن ينفذ إلى أعماقه ، لفرط ما غلفته المرارة ! .
هذا الوجه العابس المكفهر .. المشمئز من كل شيء .. في أعماقه طفل طيبته تكسر القلب ، ولكنها طيبة غارقة في المرارة ! .
لكي أكون دقيقاً في الصورة التي رسمتها لرشيد ، أنقل عن قسوته هاتين الحادثتين :
المكان : مقهى البرلمان .. وكانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بمجموعة الشعراء هذه : البريكان ، رشيد ، أكرم الوتري ، وبلند الحيدري .. أما أنا فدخلت على المجموعة بصحبة بدر السياب الذي قدمني اليهم شاعراً ! .
كنت شاعراً مبتدئاً ، في السنة الأولى من دراستي الجامعية .. شديد التحرج من هذه الأسماء الكبيرة عليّ .. لذا فقد جلست مستمعاً ، وبدأوا ينشدون ويتحدثون . فجأة التفتوا إلي وسألوني أن أقرأ ! . بعد تمنّع طويل مني ، وتشجيع كبير من السياب ، قرأت . أنا لم أنظر إلى وجه رشيد لكي أرى ردود الفعل عليه ، ولكنني سمعت بعد شهور تعليقه على قراءتي تلك . قيل إن رشيد ظل يحملق في وجوه جماعته حال انصرافي عنهم ، ثم قال :" هو هذا وجه شاعر ؟؟!" . ثم التفت الى بدر قائلاً :" يمكن لصاحبك هذا أن يعمل حمالاً ، أو جزاراً .. أما شاعراً فلا ! ."
الحادثة الثانية : المكان : مقهى خليل . الحضور المجموعة نفسها .. وكان الوقت يكاد يدنو من الظهيرة . كنا في غمرة حديثنا حين قطع علينا نقاشنا رجل جاوز الأربعين عاماً .. سلّم منحنياً بأدب جمّ .. وباعتذار كاد يكون موجعاً لكثرة ما فيه من عبارات التودد .. ثم قدم نفسه على أنه شاعر مبتديء ، يلتمس من أساتذته الكبار أن يتلطفوا بقبول مجموعته الشعرية المتواضعة ، مهداة لكل واحد منهم .. متمنياً أن تتاح لنا فرصة قراء تها .
كان الرجل شديد الأرتباك .. وكنا جميعاً في مثل سنّ أولاده إذا كان له أولاد . حين انتهى من تلك المقدمة الأعتذارية ، مدّ يده لكل واحد منا بكتيّب شعري عليه إهداء بالغ في تواضع المهدي ، وإجلال المهدى إليه .
خلال تلك العملية ، كنت أراقب رشيد وهو ينظر الى هذا الرجل الأشيب ، الواقف محدودباً كالمتسوّل .كان يرنو إليه باشمئزاز مشوب بالسخرية ، مائلاً برقبته ، رافعاً وجهه نحوه بشكل يثير الضحك .
وضع الرجل كتبه ومضى لمكانه في المقهى بعد أن تراجع خطوتين إلى الوراء قبل أن يولينا ظهره .
كنت أتوقع الزوبعة .. ولكنني لم أتخيل أنها ستكون بهذه القسوة ، أو في الأقل ، لم أتخيل أنها ستتجاوز نطاق جلستنا نحن .
خلال دقيقتين ، تصفح رشيد الكراس الشعري ماطّاً شفتيه .. ثم نهض وبيده الكراس ، متجهاً الى الرجل . حاولنا جميعاً أن نوقفه فلم نفلح .وقف على رأسه ، ورفع الرجل وجهه اليه مبتسماً .. وإذا برشيد يقول له :" ألم تستحِ وأنت في هذه السن ، أن تكتب مثل هذا الهذيان ؟ ولا تكتفي بكتابته ، بل تطبعه ، وتنشره ، وتهديه للناس ؟!" ثم عاد بعد أن ألقى الكراس على الرجل الذي ظلت ابتسامته تشحب تدريجياً حتى استحالت إلى ما يشبه البكاء..
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
رشيد ياسين
( 2 )
هذا لا يعني بالتأكيد أن رشيد لم يكن مرحاً . لقد كان إذا ضحك يضحك من كل قلبه .. حاضر البديهة ، سريع النكتة ، مدججاً بالأجوبة المفحمة التي غالباً ما يصاحبها تعبير وجهه الساخر .
ورشيد كريم باذخ الكرم ، حتى في أ شد حالاته عسراً .. إنه يفتح لك باب بيته ، ويقدم لك كل ما لديه دون تحرج ، حتى ولو كان ما لديه رغيف خبز وقليلاً من الأدام . ولعل أنبل ما فيه ، وهذه مسألة كنت أحس بها دائماً في بيته ، أنه ينشغل عن نفسه بضيفه .. وقد يختلف معك حدّ الغيظ ، ولكنه لا يغفل لحظة عن القيام بواجب ضيافتك على أتم وجه .
في ليالي الصيف غالباً ما كنا ، أنا ورشيد ، نجلس في مقهى الصالحية قرب الإذاعة ..وكثيراً ما كان يشاركنا جلساتنا تلك صديقنا الفنان الرائع يحيى جواد . نظل حتى تغلق المقهى أبوابها، وتكون الساعة قد جاوزت الثانية بعد منتصف الليل ، وجمع صبيّ المقهى جميع الكرا سي والمناضد ، وقد خلت المقهى منذ زمن إلا منا .. عندها نخرج حائرين ، كيف نكمل السهرة ؟! . كنت أوصل رشيد إلى البيت .. ويصر هو على أن يعود معي حتى أصل بيتي .. ونظل رائحين غاديين بين بيتي وبيته حتى قريب الفجر ، عندها نسلم أمرنا إلى الله ، ونتخذ نقطة وسطاً بين بيتينا ، نصافح بعضنا عندها بطريقة مسرحية ، ثم نفترق ! .
من يصدق أننا كنا نقطع معظم تلك المسيرات الليلية مرتجلين الشعر ؟! . نجد موضوعاً .. أو يقول أحدنا بيتاً في شيء مما نمرّ به ، فيعقبه الآخر مباشرة ببيت جديد .. وتبلغ القصيدة في موضوع مضحك مائة بيت ! .
إلى الآن مازلت أذكر مطلع قصيدة من أغرب تلك القصائد ، إذ وقعت أعيننا في أواخر ليلة صيفية على بائع زلابية يدفع عربته وعليها طبق مثقل ، فاشتهيناها حدّ وجع البطون ، وما كنا نملك فلساً واحداً ! . قال رشيد :
أيتها الزلابيه .. فأكلت فوراً : لو تعلمين ما بيه !
ولمعرفتي بالذاكرة الرهيبة التي يتمتع بها رشيد ، فأنا واثق من أنه مايزال يحفظ معظم تلك القصيدة التي تجاوزت الخمسين بيتاً عن ظهر قلب كما يحفظ الكثيرات من أمثالها ! .
كانت تلك المسيرات الليلية تمريناً رائعاً على الإرتجال الذي كنا نمارسه للدعابة حتى خلال حياتنا اليومية ، وكان عدد من أصدقائنا يحاولون مجاراتنا ، ثم ما يلبثون أن يتخلوا عن المحاولة حين يروننا ما ينتهي أحدنا من البيت ، حتى يكمل الآخر ببيت جديد دون أن يترك أية فاصلة زمنية بين البيتين ! .
أغرب متنفَّس كان لرشيد { التحايا } ! . والتحايا قصائد هجائية بالغة القسوة ، غير متعففة في عمومها . ابتدأناها مرة في مقهى الرشيد معارضين بها معارضة ساخرة قصيدة لبلند الحيدري مطلعها :
أتحدّاكَ ، لن تعود .. فضجّت
كبريائي ، وغمغمتْ .. مسكينه
لقد كان بلند غائباً فاغتبناه ! . وكان القدح المعلى في تلك الهجائية الفريدة للشاعر أكرم الوتري ! .
كانت العصبة كلها ، حيثما اجتمعت ، تشارك في
( التحية ) حين يقتضي سوء حظ شاعر أن نحييه ! . من يومها ، وجدنا أجمل لذائذنا في أوقات الفراغ ، أن نأخذ قصيدة لواحد منا ، ونحييه على رويّها ، ساكبين في تحايانا تلك كل غيظنا من الحياة ، وكل حنقنا على خيبتنا فيها !. أما رشيد ، فقد ذهب به الأمر حدّ اقتراح ( تحايا ) لكل شعراء العربية بدءاً بامريء القيس ، وانتهاء بأحدث شاعر !
أذكر مرة أنني كنت أشرح لطلابي درساً في النحو ، وكنت آنذاك مدرساً في متوسطة الحلة للبنين ، إذ دخل عليّ الفرّاش الصف ، وهمس في أذني أن شخصاً اسمه رشيد ياسين ينتظرني في غرفة المدرسين .
عجبت وأنا أصافح رشيد من تجشمه عناء السفر من بغداد إلى الحلة ليراني ! .. وإذا بي أكتشف أن رشيد قد جاء وبيده جريدة .. الجريدة فيها قصيدة للجواهري نشرت في ذلك اليوم ، مطلعها :
عدَتْ عليَّ كما يستكلبُ الذيبُ
قومٌ ببغداد أنماطٌ أعاجببُ
لم ينتظر رشيد أن نجلس قليلاً في غرفة المدرسين ، بل أصرّ على الخروج معه للتوّ .. وأن نذهب إلى أي مقهى ، لا إلى بيتي . وما أن جلسنا في المقهى ، حتى نشر رشيد الجريدة قائلاً : إقرأها لكي نبدأ بتحيته ! .
أعترف أنها كانت واحدة من أقسى حماقاتنا تلك .. وما أن انتهينا من كتابتها ، وكنا غالباً نحيّي الشاعر بيتاً ببيت .. حتى جمع رشيد الأوراق ، وطلب مني أن أدلّه على موقف السيارات لكي يعود إلى بغداد ! .
للتاريخ أسجل هنا ، أن رشيد ياسين ترك عليّ أعمق البصمات أثراً .. لا في شعري وحده ، بل حتى في الكثير من تفاصيل حياتي اليومية .
لقد كان رشيد ياسين واحداً من أمهر الذين صنعوا الأجيال الشعرية اللاحقة ! .
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
بدر شاكر السياب
( 1)
قبل قرابة عشرسنوات ، في مهرجان جرش .. عُقدت على هامش المهرجان ندوة في الجامعة الأردنية مكرسة للسياب ، أذكر أن المتحدثين فيها كانوا كلاً من جبرا ابراهيم جبرا ، ويوسف الصائغ ، وبلند الحيدري .. وكنت في صفوف المستمعين ، ولكن إخواني المنتدين ألحوا عليّ بأن أنضم إليهم .
لم يكن أحد من المتكلمين قد أحضر شيئاً مكتوباً ، اللهم إلا الأستاذ جبرا الذي كانت أمامه قصاصة ورق عليها محض رؤوس أقلام .. لذا ، ولأن الندوة اتسمت بالأرتجال المعتمد على التذكر ، لم أجد حرجاً في الحديث !
حكيت للحاضرين القصة التالية ، قلت : "سألني يوماً أحد معارفي أن أوصله إلى بدر ، وأن أعرفهما ببعض ..واتفقت معه على صبيحة الجمعة القادمة في مقهى حسن عجمي .
دخل صاحبي المقهى ، واتجه إلى حيث كنا نجلس ..حين هممت بتقديمه ، جذبني من كُمّ ثوبي ملتمساً أن لا أفعل .. ثم همس في أذني ، بعد أن استقر به المقام ، أن أؤجل التعارف إلى نهاية الجلسة..قال : أريد أن أسمع الآن !
كان بدر يتحدث .. وكنا قرابة ستة أشخاص نستمع اليه .. وبدر ، كائناً ما كان الموضوع الذي يتحدث فيه ، يتقد حماسة ، بينما يرتفع صوته الحاد مع تقلصات وجهه وتشنج حركات يديه .
غالباً ما كانت المرأة موضوع حديث بدر .. وهو في هذه الحالة لا يتورع عن رواية أشد النكات إحراجاً ، والنطق بأكثر الألفاظ استفزازاً ! .
بعد وقت قليل ، وخزني صاحبي بكوعه وهو يتأهب للانصراف .. همستُ : إلى أين ؟..وبدر ؟؟ ، فأجابني هامساً : أتركها إلى وقت آخر . حين أوصلت صاحبي إلى باب المقهى ، قال وهو يشد على يدي مودعاً : أيمكن أن يكون هذا الذي كنت أستمع إليه بدر السياب فعلاً ؟؟! ."
رويت هذه الحادثة للمنتدين في قاعة الجامعة الأردنية ثم عقبت بما يلي : " يخيل إليّ أن كل من جالس السياب ، واستمع إليه وهو يتحدث ، ينكر أن يكون هذا المتحدث هو الشاعر بدر شاكر السياب ! . " قلت : " أنا عندي تفسيري الخاص لهذه الظاهرة الغريبة . لقد عايشت بدر.. رأيته وهو يكتب القصيدة ، وسمعته وهو يقرأها .. ثم استمعت إليه كثيراً وهو يتحدث .
حين يبدأ بدر بكتابة قصيدته ، يندر أن يتصور الأنسان عذاباً كعذابه .. تماماً كما تذوب الشمعة ،يذوب مع قصيدته كلمة كلمة ، مقطراً فيها كل ما في شرايينه وأوردته من الدم ، وما في روحه من الضياء . عندما تنتهي القصيدة ، يكون بدر قد اعتصر آخر ما في أنسجته جميعاً من الشفافية والضوء .. تماماً كما تعتصر ليمونة في كأس! بعدها ، بعد القصيدة ، لا يبقى من بدر سوى الوشل والطين .. وهذا ما تراه منه في حياته اليومية ..الطين بكل لزوجته بعد أن فارقه الضوء كله ، منسكباً حتى آخر قطرة على الورق .
بعدها يبدأ بدر بجمع رحيق قصيدته الجديدة .. دأب النحل كان بدر يدأب على إغناء تجربته . وحين تبدأ ارهاصات حمله الجديد ،يبدأ الحرص على طاقته الجسمانية. إنه يخاف من أي تسرب .. من أية بعثرة ، أو أي احتراق يومي يصرف فيه شيئاً من الضوء الذي بدأ يتجمع في روحه .. يصبح ضنيناً بكل طاقاته ، مكرساً إياها جميعاً لساعة الطلق التي هي عنده ذروة الحياة ، وذروة الموت في لحظة واحدة ".
قلّما رأيت استجابة متحمسة كالاستجابة والحماس اللذين قوبلت بهما بعد انتهاء حديثي هذا عن بدر ! .
* * *
أول مرة رأيت فيها بدر كانت في مستهل العام الدراسي 47/1948 ، يوم قبلت طالباً في قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية ، وكان بدر طالباً في الصف الرابع قسم اللغة الأنكليزية .. عرفتني به ابنة خالي الشاعرة لميعة عباس عمارة ، وكانت طالبة في الصف الثالث قسم اللغة العربية..وكان بينها وبين بدر إعجاب فيه الكثير من المودة والزهو من جانبها ، وما هو أكثر من ذلك من جانب بدر ! .. ولعل تعلق بدر بلميعة بذلك الإندفاع المحموم هو الذي جعلني أثيراً عنده ، عزيزاً عليه منذ أول أيام تعارفنا . لا ادري لماذا يحضرني الآن قول الشاعر العذري :
وأقسمُ أني لو أرى نسَباً لها
ذئابَ الفلا حُبَّت إليّ ذئابها !
فكيف إذا كان النسب شاعراً شاباً يفهم لوعة المعاناة ، ويضيف تزكية لبدر بإعجابه به ؟! .
في تلك السنة أصدر السياب مجموعته الشعرية الأولى { أزهار ذابلة } . إلى الآن ما أزال أذكر كيف كنا نحمل رزم الكتاب ، ونبيعه على الطلبة ،أو نودعه لدى المكتبات محاولين أن نسترجع لبدر جزءاً من كلف الطبع دون جدوى !.
في تلك السنة أخذني بدر معه إلى مقهى الرشيد حيث التقيت ، وللمرة الأولى ، برشيد ياسين ، ومحمود البريكان وبلند الحيدري ، وأكرم الوتري .. إضافة إلى السياب .
كنت أسكن في القسم الداخلي للطلاب ، في نفس الردهة التي يسكنها بدر .. وإلى جواره .
ما سأذكره هنا عن بدر أرجو ألا يكون إساءة إليه .. إنما أحاول جهدي أن ألقي شيئاً من الضوء على المعاناة الإنسانية والشعرية لهذا الشاعر الكبير .
كان بدر شديد النحافة . يداه وساقاه مثل أعواد القصب . أذكر أننا في عام 1947 كنا في تظاهرة طلابية عارمة احتلت ساحة القشلة ، فصعد بدر على سقف سيارة وبدأ ينشد قصيدته الرائعة :
بسمةَ النور في ثغور الجراحِ
أنتِ قبلَ الصباح ، نجمُ الصباحِ
كلّما لُحتِ في خيال الطواغيت
وألهبتِ مرقـدَ السَّـفّاحِ
ذابَ قيدً على اللظى وتَراخَتْ
قبَضاتٌ على حطام السلاحِ !
كان بدر يرتعش من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه .. وكنت أمسك بساقيه خشية أن ينـزلق من سقف السيارة . إلى الآن ما أزال أتذكر أن أصابع يدي الواحدة كانت أطرافها تلتقي حول كاحله مع الجورب والبنطلون ! .
وبدر كان صغير العينين ..منتشر الأذنين ..شاحب الوجه ، أملسه ، لا ينبت فيه إلا شعيرات ناعمات متفرقات فوق شفته العليا .
انتبهت إلى بدر في صباح يوم مبكر وهو يدسّ رأسه في خزانة ملابسه، فاتحاً بابيها ليحجب وجهه عن الناظرين ..جلست على فراشي أنظر إليه دون أن يدري ، فرأيته يمرّ على شعيرات شنبه بقلم رصاص أسود ، محاولاً أن يكثف
وجودها دون أن يلحظه أحد .
منذها تعودت أن أستيقظ مبكراً لأراقبه وهو يفعل ذلك يومياً دون ملل .. وتعلمته منه ، وفعلته أنا أيضاً فيما بعد ! .
* * *
رد: مذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
بدر شاكر السياب
( 2 )
*
مذهلة كانت هذه المجموعة التي تعرفت عليها في بواكير حياتي الشعرية . إنها واحدة من هضبات الشعر التي تتموج مرتفعة من منخفض عدة قرون ، حتى إذا بلغت ذروتها ، عادت لتنحدر في وادٍ سحيق آخر من الضياع الشعري ، لتعود مرتفعة مرة أخرى ، في عصر آخر .
هكذا كانت الجاهلية ، ثم العصر الأموي ، ثم العصر العباسي .. ثم ، وبعد صمت قرابة ألف عام ، ترتفع مرة أخرى بموجة عارمة .. حاملة كل هذه الأشرعة المغامرة !. ففي حين يحجب البريكان فمه بأصابع يده ، ساتراً تراكب أسنانه الذي قل أن ينتبه إليه أحد ، لولا حركته هذه ! .. قارئاً ، بعد غياب أسبوع واحد ، ثلاث قصائد جديدة ، وهو يزعم أنه لم يكتب شيئاً ، ليستمر الإلحاح عليه لكي يقرأ شيئاً جديداً آخر ! .. وحين يتهدج صوت أكرم الوتري ، خفيضاً ، مبتلاًّ ، وهو يقرأ قصيدة من قصائـد ( وتره الجاحد )* .. ثم يخترق بلند الحيدري الجو بقصيدة مدهشة الإيقاع ..ورشيد ياسين منزرع فوق تخته كالحدأة يرقب أي زلّة يزلها الآخرون .. وحين يصل إليه الدور ، يقرأ بهذا النضج المبكر العجيب :
على هذه الكرة الطافيه ببحر الزمان العديم الحدودْ
تحّركنا قـوّةٌ خافيـه فنهدم سدّاً ، لنبني سـدودْ
ونذهب في الجزر حتى نعودْ
مع المـدّ في صورة ثانيـه !
*
في قلب هذا التوترالمشحون ، يبدأ صوت السياب بتشنجه المثير :
هل تسـّمين الذي ألقى هياما
أم جنوناً بالأماني ..أم غراما
ما يكون الحب .. نوحاً وابتساما
أم خفوق الأضلُع الحرّى إذا حان التلاقي
بين عينينا ، فأطرقتُ فراراً باشتيـاقي
من عيونٍ ليس تسقيني إذا ما
جئتُها مستسقياً إلا أُواما ..*
*
هذه المجموعة الخلاقة التي كتب لي حسن حظي أن أنشأ بين أحضانها .. وأن يضع كل واحد من أفرادها شيئاً في تكويني .. ويظل رشيد ياسين أرسخهم ختماً في حياتي وفي شعري .. هذه المجموعة ، كان السياب نورسها الذي لا يهدأ له جناح ! .
مرة جلست مع بدر منتظرين قدوم الآخرين .. التفت إليّ بدر قائلاً : إقرأ لي شيئاً من شعرك . فأحسست بحرج بالغ ، واعتذرت إليه . قال : إقرأ لي .. فأين تجد جمهوراً مثلي ؟! .
وقرأت .. وفعلاً لم أجد بعد السياب جمهوراً مثله !. لقد سمعني بمحبة وحدب لا يوصفان، لاسيما وهو يُسمعني ملاحظاتـه على ما قرأت . أذكر مما قاله لي : " إسمع يا عبد الرزاق . لست الشاعر وأنت تكتب .. ولكنك الشاعر وأنت تسقط كل الزوائد مما كتبت . إنها العملية الأكثر إبداعاً،والأكثر وجعاً في كتابة القصيدة ! "
إلى يومي هذا ، ونصيحة بدر هذه من أهم ما أوصي به إخوتي وأبنائي من الشعراء الشباب الذين يسعدني الحظ أن ألتقي بهم بين آونة وأخرى .
أذكر أن الجواهري كان يميز بدر من بين جميع الشعراء الشباب بإضافة صفة " المبدع " أو " الموهوب"إلى اسمه كلما نشر له قصيدة في جريدته .. وكثيراً ما كنا نشاكسه في ذلك ! .
مرة اتفقنا على الذهاب إلى كلية الآداب ، وكان موقعها آنذاك في الباب المعظم ، تماماً على الركن الأيمن من نهاية شارع الرشيد ، وابتداء الشارع المؤدي إلى نهاية شارع الجمهورية . كانت هناك صباحية شعرية للشاعر مظفر النواب في نادي الكلية الذي كان سرداباً صغيراً يديره رجل كهل ممتليء أصهب اسمه " مرّوكي" .. يصنع الشاي والقهوة والحليب للطلاب . كنا مجموعة شعراء أذكر منهم : بدر ، رشيد ياسين ، أكرم الوتري ، محمود البريكان ، وحسين مردان .
كانت عيون الطلبة تترصدنا ، لاسيما بعد أن رحب بنا عريف الحفل .. وكان بدر يومها أكثرنا شهرة لاسيما بين جماهير الطلبة .
كانت منضدة مقهى عادية ، مغطاة بملاءة بيضاء ، بلا مكبرة صوت .. تلك التي وقف وراءها ذلك الشاب الأسمر النحيف ، الوسيم ، الجمّ الحياء ، الذي اسمه مظفر النواب . . وبدون أية مقدمات ، بدأ القراءة هكذا :
السـلامْ
ترَلَّ لام!
ترَلَّ لام !
وكان ، مع ترديد " ترَلَّ لام " ، ينقر بإصبعه على المنضدة التي أمامه بإيقاعية منسجمة !! .
حاولنا جاهدين أن نحوّل ضحكنا إلى ابتسام .. ولكنه ظل ابتساماً واضح التشنج برغم محاولتنا ستر أفواهنا بأيدينا . وكان أ شدنا ا ستنكاراً ، ولفتاً للنظر بطريقة تحديقه في الوجوه ، رشيد ياسين ! .
حين بدأ مظفر بقراءة قصيدته الثانية ، والتي كانت تدور حول " مرّوكي " متعهد النادي .. أطلقنا العنان لضحكاتنا الحبيسة حدّ أن ضحك معنا جمهور الطلبة الحضور كله ، بينما كان مظفر يردد :
مرّوكي ماذا تريد ؟
تريد فستق عبيد ؟؟
لقد استغرقتنا المفارقة المضحكة بين " مروكي " الكهل الأصهب الممتليء الواقف أمامنا ، وفستق العبيد ! .
حين خرجنا من كلية الآداب متجهين إلى الباب المعظم ، فمقهى الرشيد .. أخذنا نؤلف ، على طريقة مظفر ، قصيدة ضاحكة أثارت غضب السياب باعتباره القيّم على القصيدة الجديدة ، والمؤسس لها ! . أذكر أننا بدأنا هكذا :
السـلام
ترَلَّ لام
ترَلَّ لام
نريد السلام
بام .. بام .. بام
يريدون الحروب
طاب .. طوب
الدَّمار
الخراب
بدر السياب
يحتَجّْ
يرتَجّْ
لهذا الخطاب
طاب .. طاب .. طاب ..!
*
شهور والسياب زعلان على المجموعة ، يرفض أن يلتقي بنا أو يكلمنا بسبب تلك الصباحية العاصفة بالضحك ! .
* المجموعة الوحيدة للشاعر أكرم ا لوتري .. وبعد أن أصدرها ترك الشعر .
* المقطع الأول من أول قصيدة تفعيلة كتبها السياب واصطلح النقاد على تسميتها ( ا لقصيدة الختم ) .
* * *