غزوة بني النضير وماتلاها من غزوات وأحداث do.php?img=88

ثمّ كانت غزوة بني النضير، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مشى إلى كعب بن الأشرف يستقرضه فقال: مرحباً بك يا أبا القاسم وأهلاً . فجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه وقام كأنّه يصنع لهم طعاماً، وحدّث نفسه أن يقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزل جبرئيل عليه السلام وأخبره بما همّ به القوم من الغدر، فقام صلّى الله عليه وآله وسلّم كأنّه يقضي حاجة، وعرف أنّهم لا يقتلون أصحابه وهو حيّ، فأخذ عليه السلام الطريق نحو المدينة، فاستقبله بعض أصحاب كعب الذين كان أرسل إليهم يستعين بهم على رسول الله، فأخبر كعباً بذلك، فسار المسلمون راجعين.

فقال عبدالله بن صورياـ وكان أعلم اليهود ـ: والله إنّ ربّه اطلعه على ما أردتموه من الغدر، ولا يأتيكم والله أوّل ما يأتيكم إلاّ رسول محمّد يأمركم عنه بالجلاء، فأطيعوني في خلصلتين لا خير في الثالثة: أن تسلموا فتأمنوا على دياركم وأموالكم، وإلاّ فإنّه يأتيكم من يقول لكم: اخرجوا من دياركم.

فقالوا: هذه أحبّ إلينا.

قال: أمّا إنّ الاُولى خيرٌ لكم منها، ولولا أنّي أفضحكم لأسلمت.

ثمّ بعث <صلّى الله عليه وآله وسلّم> محمّد بن مسلمة إليهم يأمرهم بالرحيل والجلاء عن ديارهم وأموالهم، وأمره أن يؤجّلهم في الجلاء ثلاث ليال (72).

ثمّ كانت غزوة بني لحيان، وهي الغزوة التي صلّى فيها صلاة الخوف بعسفان حين أتاه الخبر من السماء بما همّ به المشركون. وقيل: إنّ هذه الغزوة كانت بعد غزوة بني قريظة (73).

ثمّ كانت غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بني النضير بشهرين. قال البخاري: إنّها كانت بعد خيبر، لقي بها جمعاً من غطفان، ولم يكن بينهما حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتّى صلّى رسول الله صلاة الخوف ثمّ انصرف بالناس (74).

وقيل: إنمّا سمّيت ذات الرقاع لاَنّه جبل فيه بقع حُمرةٍ وسوادٍ وبياضٍ فسمّي ذات الرقاع (75).

وقيل: إنّما سمّيت بذلك لاَنّ أقدامهم نقبت فيها، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق (76).

وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم على شفير واد نزل أصحابه على الغدوة الاُخرى من الوادي، فهم كذلك إذ أقبل سيل، فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين يقال له: غورث، فقال لقومه: أنا أقتل لكم محمّداً. فأخذ سيفه ونحا نحوه وقال: من ينجيك منّي يا محمّد؟

قال: «ويلك، ينجيني ربّي».

فسقط على ظهره، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيفه وجلس على صدره ثمّ قال: «من ينجيك منّي يا غورث؟».

قال: جودك وكرمك يا محمّد. فتركه، فقام وهو يقول: والله لأنت أكرم منّي وخير (77).

ثمّ كانت غزوة بدر الأخيرة في شعبان. خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بدر لميعاد أبي سفيان، فأقام عليها ثمان ليال، وخرج أبو سفيان في أهل تهامة، فلمّا نزل الظهران بدا له في الرجوع، ووافق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه السوق فاشتروا وباعوا وأصابوا بها ربحاً حسناً (78).

ثمّ كانت غزوة الخندق ـ وهي الأحزاب ـ في شوّال من سنة أربع من الهجرة. أقبل حييٌ بن أخطب وكنانة بن الربيع وسلاّم بن ابي الحقيق وجماعة من اليهود بقريش وكنانة وغطفان، وذلك أنّهم قدموا مكّة فصاروا إلى أبي سفيان وغيره من قريش، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا لهم: أيدينا مع أيديكم، ونحن معكم حتّى نستأصله، ثم خرجوا إلى غطفان ودعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأخبروهم باتّباع قريش إياهم، فاجتمعوا معهم.

وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف في بني مرّة، ومسعود بن رخيلة (79) بن نويرة بن طريف في قومه من أشجع، وهم الأحزاب، وسمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخرج إليهم، وذلك بعد أن أشار سلمان الفارسيّ أن يصنع خندقاً (80) . وظهر في ذلك من آية النبوّة أشياء:

منها: ما رواه جابر بن عبدالله، قال: اشتدّ عليهم في حفر الخندق كدية (81) فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثمّ دعا بما شاء الله أن يدعو، ثمّ نضح الماء على تلك الكدية فقال من حضرها: فوالذي بعثه بالحقّ لانثالت حتّى عادت كالكندر (82)ما تردّ فأساً ولا مسحاة (83).

ومنها: ما رواه جابر من إطعام الخلق الكثير من الطعام القليل. وقد ذكرناه فيما قبل (84).

ومنها: ما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: ضربت في ناحية من الخندق، فعطف عليّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو قريب منّي، فلما رآني أضرب ورأى شدّة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثمّ ضرب ضربة اُخرى فلمعت تحته برقة اُخرى، ثمّ ضرب به الثالثة فلمعت برقة اُخرى. فقلت: يا رسول الله بأبي أنت واُمّي ما هذا الذي رأيت؟

فقال: «أمّا الأولى فإنّ الله تعالى فتح عليَّ بها اليمن، وأمّا الثانية فإنّ الله تعالى فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق» (85)

وأقبلت الأحزاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهال المسلمين أمرهم، فنزلوا ناحية من الخندق، وأقاموا بمكانهم بضعاً وعشرين ليلة، لم يكن بينهم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصى.

ثمّ انتدب فوارس قريش للبراز، منهم عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطّاب، تهيؤوا للقتال، وأقبلوا على خيولهم حتّى وقفوا على الخندق، فلمّا تأمّلوه قالوا: والله إنّ هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمّموا مكاناً من الخندق فيه ضيق فضربوا خيولهم فاقتحمته، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسَلع (86) وخرج عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نفر معه حتّى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها، فتقدّم عمرو بن عبد ودّ وطلب البراز، فبرز إليه عليّ عليه السلام فقتله ـ وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله ـ فلمّا رأى عكرمة وهبيرة عمراً صريعاً ولّوا منهزمين، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في أبيات شعر:


«نصر الحجارةَ من سفاهةِ رأيه * ونصرتُ ربَّ محمّدٍ بصوابي
فضربتُهُ وتركتُهُ متجدّلاً * كالجذعِ بين دكادكٍ وروابي
وعففتُ عن أثوابهِ ولو أنّني * كنتُ المقطّر بزّني أثوابي
لا تحسبنّ الله خاذلَ دينه * ونبيهِ يا معشرَ الأحزابِ» (87)

ورمى ابن العرقة بسهم فأصاب أكحل سعد بن معاذ وقال: خذها مني وأنا ابن العرقة، قال: عرّق الله وجهك في النار، وقال: اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب في قريش شيئاً فأبقني لحربهم، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ قتالاً من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه من حرمك، اللهمّ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة. فأباته رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على فراشه وبات على الأرض (88).

قال أبان بن عثمان: حدّثني من سمع أبا عبدالله عليه السلام يقول: قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على التلّ الذي عليه مسجد الفتح في ليلة ظلماء قرّة، قال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة؟ فلم يقم أحد ثمّ عاد ثانية وثالثة فلم يقم أحد، فقام حذيفة فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: انطلق حتّى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم.

فذهب فقال: اللّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتّى تردّه إليّ، وقال: لا تحدث شيئاً حتّى تأتيني.

ولمّا توجّه حذيفة قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلّي ثمّ نادى بأشجى صوت: يا صريخ المكروبين، يا مجيب دعوة المضطّرين، اكشف همّي وكربي، فقد ترى حالي وحال من معي.

فنزل جبرئيل فقال: يا رسول الله إنّ الله عزّ وجلّ سمع مقالتك واستجاب دعوتك وكفاك هول من تحزّب عليك وناواك، فجثا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ركبتيه وبسط يديه وأرسل بالدمع عينيه، ثمّ نادى: شكراً شكراً كما آويتني وآويت من معي.

ثمّ قال جبرئيل عليه السلام: يا رسول الله، ان الله قد نصرك وبعث عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها الحصى، وريحاً من السماء الرابعة فيها الجنادل.

قال حذيفة: فخرجت فإذا أنا بنيران القوم قد طفئت وخمدت، وأقبل جند الله الأوّل ريح شديدة فيها الحصى، فما ترك لهم ناراً إلاّ أخمدها، ولا خباء إلاّ طرحها، ولا رمحاً إلاّ ألقاها، حتّى جعلوا يتترسون من الحصى، وكنت أسمع وقع الحصى في الترسة، وأقبل جند الله الأعظم، فقام أبو سفيان إلى راحلته ثمّ صاح في قريش: النجاء النجاء، ثمّ فعل عيينة بن حصن مثلها، وفعل الحارث بن عوف مثلها، وذهب الأحزاب.

ورجع حذيفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره الخبر، وأنزل الله على رسوله (اذكرُوا نعمة الله عَلَيكُم إذْ جاءَتْكُم جنودٌ فأرسَلْنا عَلَيهم رِيحاً وجُنوداً لَم تَروها) (89)إلى ما شاء الله تعالى من السورة (90).

وأصبح رسول الله بالمسلمين حتّى دخل المدينة، فضربت ابنته فاطمة غسولاً حتى تغسل رأسه، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً (91)بعمامة بيضاء، عليه قطيفة من استبرق معلّق عليها الدرّ والياقوت، عليه الغبار، فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فمسح الغبار عن وجهه، فقال له جبرئيل: «رحمك ربّك، وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء، ما زلت أتبعهم حتّى بلغت الروحاء» (92) ، ثمّ قال جبرئيل: «انهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب، فوالله لاَدقنّهم دقّ البيضة على الصخرة».

فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عليّاً عليه السلام فقال: «قدّم راية المهاجرين إلى بني قريضة، وقال: «عزمت عليكم أن لا تصلّوا العصر إلاّ في بني قريظة».

فأقبل عليّ عليه السلام ومعه المهاجرون وبنو عبد الأشهل وبنو النجّار كلّها، لم يتخلّف عنه منهم أحد، وجعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يسرّب إليه الرجال، فما صلّى بعضهم العصر إلاّ بعد العشاء.

فأشرفوا عليه وسبّوه، وقالوا: فعل الله بك وبابن عمّك، وهو واقف لا يجيبهم، فلمّا أقبل رسول الله عليه وآله وسلّم والمسلمون حوله تلقّاه أمير المؤمنين عليه السلام وقال: «لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك، فإنّ الله سيجزيهم». فعرف رسول الله أنّهم قد شتموه، فقال: «أما إنّهم لو رأوني ما قالوا شيئاً ممّا سمعت». وأقبل ثمّ قال: «يا إخوة القردة، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، يا عباد الطاغوت اخسؤوا أخساكم الله». فصاحوا يميناً وشمالاً: يا أبا القاسم ما كنت فحّاشاً فما بدا لك (93).

قال الصادق عليه السلام: فسقطت العنزة من يده، وسقط رداءه من خلفه، ورجع يمشي إلى ورائه حياء ممّا قال لهم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وقسمة الأموال، وأن يجعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار.

فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

فلمّا جيء بالاُسارى حبسوا في دار، وأمر بعشرة فاُخرجوا فضرب أمير المؤمنين أعناقهم، ثم أمر بعشرة فاُخرجوا فضرب الزبير أعناقهم، وقلَّ رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ قتل الرجل والرجلين.

قال: ثمّ انفجرت رمية سعد والدم ينفح حتّى قضى ، ونزع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رداءه فمشى في جنازته بغير رداء. ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عبدالله بن رواحة إلى خيبر، فقتل سيربن دارم اليهودي، وبعث عبدالله بن عتيك إلى خيبر فقتل أبا رافع بن أبي الحقيق» (94).

ثمّ كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة، ورأسهم الحارث بن أبي الضرار، وقد تهيؤوا للمسير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي غزوة المُرَيسيع (95)، وهو ماء، وقعت في شعبان سنة خمس، وقيل: في شعبان سنة ست، والله أعلم (96).

قالت جويرية بنت الحارث ـ زوجة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحن على المُرَيسيع،

فأسمع أبي وهو يقول: أتانا ما لا قبل لنا به، قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلمّا أن أسلمت وتزوّجني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورجعنا جعلت أظهر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنّه رعب من الله عزّ وجلّ يلقيه في قلوب المشركين.

قالت: ورأيت قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتّى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا، فأعتقني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتزوّجني (97).

وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد ، فما أفلت منهم إنسان ، وقتل عشرة منهم واُسر سائرهم ،وكان شعار المسلمين يومئذ «يا منصور أمت» .

وسبى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الرجال والنساء والذراري والنعم والشياه، فلمّا بلغ الناس أنّ رسول الله تزوّج جويرية بنت الحارث قالوا: أصهار رسول الله. فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فما عُلم امرأة أعظم بركة على قومها منها (98).

وفي هذه الغزوة قال عبدالله بن اُبي (لَئن رجَعنا إلى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزّ مِنها الأذَلّ) (99) ، واُنزلت الآيات.

وفيها كانت قصة إفك عائشة (100).

وبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سنة ستّ في شهر ربيع الأول عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً إلى الغمرة (101) ، وبكّر القوم فهربوا، وأصاب مائتي بعير لهم، فساقها إلى المدينة (102).
وفيها: بعث أبا عبيدة بن الجرّاح إلى القصّة (103)في أربعين رجلاً، فأغار عليهم وأعجزهم هرباً في الجبال وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم (104).

وفيها: بعث محمّد بن مسلمة إلى قوم من هوازن فكمن القوم لهم وافلت محمّد وقتل أصحابه (105).

وفيها: كانت سريّة زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بني سُليم، فأصابوا نعماً وشاء وأسرى (106).

وفيها: كانت سريّة زيد بن حارثة إلى العيص (107) (108).

وفيها: سريّة بن حارثة إلى الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربوا وأصاب منهم عشرين بعيراً (109).

وفيها: كانت غزوة عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى بني عبدالله بن سعد من أهل فدك، وذلك أنه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ لهم جمعاً يريدون أن يمدّوا يهود خيبر (110).

وفيها: سريّة عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل (111)في شعبان، وقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن أطاعوا فتزوّج ابنة ملكهم» فأسلم القوم وتزوّج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وكان أبوها رأسهم وملكهم (112)

وفيها: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في قول الواقدي ـ إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واستاقوا الاِبل عشرين فارساً، فاتي بهم ، فاُمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، وتركوا بالحرّة حتّى ماتوا (113).

وروي عن جابر بن عبدالله: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا عليهم فقال: «اللهمّ عمّ عليهم الطريق» قال: فعمي عليهم الطريق (114)

وفيها: اُخذت أموال أبي العاص بن الربيع وقد خرج تاجراً إلى الشام ومعه بضائع لقريش، فلقيته سريّة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واستاقوا عيره وأفلت، وقدموا بذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقسّمه بينهم، وأتى أبو العاص فاستجار بزينب بنت رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم وسألها أن تطلب من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ردّ ماله عليه وما كان معه من أموال الناس، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السريّة وقال: «إنّ هذا الرجل منّا بحيث قد علمتم، فإن رأيتم أن تردّوا عليه فافعلوا».

فردّوا عليه ما أصابوا، ثمّ خرج وقدم مكّة ورد على الناس بضائعهم، ثمّ قال: أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلاّ توقّياً أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم، وإنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله (115).

وفيها: كانت غزوة الحديبية في ذي القعدة، خرج صلّى الله عليه وآله وسلّم في ناس كثير من أصحابه يريد العمرة وساق معه سبعين بدنة، وبلغ ذلك المشركين من قريش، فبعثوا خيلا ليصدّوه عن المسجد الحرم، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يرى أنّهم لا يقاتلونه لاَنّه خرج في الشهر الحرام،

وكان من أمر سهيل بن عمرو وأبي جندل ابنه وما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما شكّ به من زعم أنّه ما شكّ إلاّ يومئذ في الدين.

وأتى بدليل بن ورقاء إلى قريش فقال لهم: يا معشر قريش خفّضوا عليكم، فإنّه لم يأت يريد قتالكم وإنّما يريد زيارة هذا البيت.

فقالوا: والله ما نسمع منك ولا تحدّث العرب أنّه دخلها عنوة، ولا نقبل منه إلاّ أن يرجع عنّا، ثمّ بعثوا إليه بكر بن حفص وخالد بن الوليد وصدّوا الهدي.

وبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عثمان بن عفّان إلى أهل مكّة يستأذنهم في أن يدخل مكّة معتمراً، فأبوا أن يتركوه، واُحتبس عثمان، فظنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّهم قتلوه فقال لاَصحابه: «أتبايعونني على الموت؟» فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفرّوا عنه أبداً.

ثمّ إنّهم بعثوا سهيل بن عمرو فقال: يا أبا القاسم، إنّ مكّة حرمنا وعزّنا، وقد تسامعت العرب بك أنّك قد غزوتنا، ومتى ما تدخل علينا مكّة عنوة يطمع فينا فنتخطّف، وإنّا نذكرك الرحم، فإنّ مكّة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

قال: «فما تريد؟».

قال: اُريد أن أكتب بيني وبينك هدنة على أن اُخلّيها لك في قابل فتدخلها ولا تدخلها بخوف ولا فزع ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب، السيف في القراب والقوس.

فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأخذ أديماً احمراً فوضعه على فخذه ثمّ كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم.» ـ وسنذكر تمام ذلك في مناقب أمير المؤمنين ـ:

هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله بن عبد المطلب ومن معه من المسلمين سهيل بن عمرو ومن معه من أهل مكّة : على أنّ الحرب مكفوفة فلا إغلال ولا إسلال ولا قتال، وعلى أن لا يستكره أحد على دينه، وعلى أن يعبد الله بمكة علانية، وعلى أنّ محمداً ينحر الهدي مكانه، وعلى أن يخلّيها له في قابل ثلاثة أيّام فيدخلها بسلاح الراكب وتخرج قريش كلّها من مكّة إلاّ رجل واحد من قريش يخلفونه مع محمّد وأصحابه، ومن لحق محمّداً وأصحابه من قريش فإن محمداً يرده إليهم ، ومن رجع من أصحاب محمّد إلى قريش بمكّة فإنّ قريشاً لا تردّه إلى محمّد ـ وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إذا سمع كلامي ثمّ جاءكم فلا حاجة لي فيه» ـ وأن قريشاً لا تعين على محمّد وأصحابه احداً بنفس ولا سلاح ...إلى آخره.

فجاء أبو جندل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى جلس إلى جنبه، فقال أبوه سهيل: ردّه عليّ، فقال المسلمون: لا نردّه.

فقام صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخذ بيده وقال: «اللّهم إن كنت تعلم أنّ أبا جندل لصادقٌ فاجعل له فرجاً ومخرجاً» ثمّ أقبل على الناس وقال: «إنّه ليس عليه بأس، إنّما يرجع إلى أبيه واُمه، وإنّي أريد أن اتمّ لقريش شرطها».

ورجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وأنزل الله في الطريق سورة الفتح (اِنّا فَتَحنا لَكَ فَتحاً مُبيناً) (116).

قال الصادق عليه السلام: «فما انقضت تلك المدّة حتّى كاد الاسلام يستولي على أهل مكّة».

ولمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة انفلت أبو بصير بن اُسيد بن جارية (117)الثقفي من المشركين، وبعث الأخنس بن شريق في أثره رجلين فقتل أحدهما وأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مسلماً مهاجراً فقال <له صلّى الله عليه وآله وسلّم>: «مسعّر حرب لو كان معه احد» ثمّ قال: «شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت».

فخرج أبو بصير ومعه خمسة نفر كانوا قدموا معه مسلمين، حتّى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش مما يلي سيف البحر، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين رجلاً راكباً اسلموا فلحق بأبي بصير، واجتمع إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة حتّى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، لا تمرّ بهم عير لقريش إلاّ أخذوها وقتلوا أصحابها، فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله يسألونه ويتضرّعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم فيقدموا عليه، وقالوا: من خرج منّا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه. فعلم الذين كانوا أشاروا على رسول الله أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية (118)أنّ طاعة رسول الله خير لهم فيما أحبّوا وفيما كرهوا.

وكان أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما هم الذين مرّ بهم أبو العاص بن الربيع من الشام في نفر من قريش فأسروهم وأخذوا ما معهم ولم يقتلوا منهم أحداً لصهر أبي العاص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخلّوا سبيل أبي العاص فقدم المدينة على امرأته وكان أذن لها حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأبو العاص هو ابن اُخت خديجة بنت خويلد (119).

ثمّ كانت غزوة خيبر في ذي الحجّة من سنة ستّ ـ وذكر الواقديّ: أنّها كانت أوّل سنة سبع من الهجرة (120)ـ وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بضعاً وعشرين ليلة، وبخيبر أربعة عشر ألف يهوديّ في حصونهم، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يفتتحها حصناً حصناً، وكان من أشدّ حصونهم وأكثرها رجالاً القموص، فأخذ أبو بكر راية المهاجرين فقاتل بها ثمّ رجع منهزماً، ثمّ أخذها عمر بن الخطّاب من الغد فرجع منهزماً يجبّن الناس ويجبّنونه حتّى ساء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك فقال:

«لاعطيّن الراية غداً رجلاً كرّاراً غير فرّار، يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، ولا يرجع حتّى يفتح الله على يده».

فغدت قريش يقول بعضهم لبعض: أمّا عليّ فقد كفيتموه فإنّه أرمد لا يبصر موضع قدمه. وقال عليّ عليه السلام لمّا سمع مقالة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اللّهم لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت».

فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واجتمع إليه الناس. قال سعد: جلست نصب عينيه ثمّ جثوت على ركبتي ثمّ قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني، فقال: «ادعو لي عليّاً» فصاح الناس من كلّ جانب: إنّه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه فقال: «أرسلوا إليه وادعوه».

فاُتي به يقاد، فوضع رأسه على فخذه ثمّ تفل في عينيه، فقام وكأنَّ عينيه جزعتان (121)، ثمّ أعطاه الراية ودعا له فخرج يهرول هرولة، فوالله ما بلغت اُخراهم حتّى دخل الحصن.

قال جابر: فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا، وصاح سعد: يا أبا الحسن أربع يلحق بك الناس، فأقبل حتّى ركزها قريباً من الحصن فخرج إليه مرحب في عادية اليهود (122) فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط، وحمل علي والمسلمون عليهم فانهزموا (123).

قال أبان: حدّثنى زرارة قال: قال الباقر عليه السلام: «انتهى إلى باب الحصن وقد اُغلق في وجهه فاجتذبه اجتذاباً وتترّس به، ثمّ حمله على ظهره واقتحم الحصن اقتحاماً، واقتحم المسلمون والباب على ظهره. قال: فوالله ما لقي عليّ عليه السلام من الناس تحت الباب أشدّ ممّا لقي من الباب، ثمّ رمى بالباب رمياً.

وخرج البشير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنّ عليّاً دخل الحصن، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فخرج عليّ يتلقّاه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: قد بلغني نبأك المشكور وصنيعك المذكور، قد رضي الله عنك ورضيت أنا عنك. فبكى عليّ عليه السلام، فقال له: ما يبكيك يا علي؟

فقال: فرحاً بأنّ الله ورسوله عنّي راضيان.

قال: وأخذ عليّ فيمن أخذ صفيّة بنت حييّ، فدعا بلالاً فدفعها إليه

وقال له: لا تضعها إلاّ في يدي رسول الله حتّى يرى فيها رأيه، فأخرجها بلال ومرّ بها إلى رسول الله على القتلى، وقد كادت تذهب روحها فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لبلال: أنزعت منك الرحمة يا بلال؟! ثمّ اصطفاها صلّى الله عليه وآله وسلّم لنفسه، ثمّ اعتقها وتزوّجها».

قال: فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من خيبر عقد لواء ثمّ قال: «من يقوم إليه فيأخذه بحقّه؟» وهو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك، فقام الزبير إليه فقال: أنا، فقال له: «امط عنه» ثمّ قام إليه سعد، فقال: «امط عنه»، ثمّ قال: «يا عليّ قم إليه فخذه» فأخذه فبعث به إلى فدك فصالحهم على أن يحقن دماءهم، فكانت حوائط فدك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصّاً خالصاً. فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك تؤتي ذا القربى حقّه».

فقال: «يا جبرئيل ومن قرباي وما حقّها؟».

قال: «فاطمة فأعطها حوائط فدك، وما لله ولرسوله فيها».

فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاطمة عليها السلام وكتب لها كتاباً جاءت به بعد موت أبيها إلى أبي بكر وقالت: «هذا كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لي ولا بني» (124).

قال ولمّا افتتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة إلى المدينة، فقال: «ما أدري بأيّهما أنا أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» (125).

وعن سفيان الثوريّ، عن أبي الزّبير، عن جابر قال: لمّا قدم جعفر بن أبي طالب عليه السلام من أرض الحبشة تلقّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلمّا نظر جعفر إلى رسول الله حجل ـ يعني مشى على رجل واحدة ـ إعظاماً لرسول الله، فقبّل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بين عينيه (126).

وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا استقبل جعفراً التزمه ثمّ قبّل بين عينيه، قال: «وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث قبل أن يسير إلى خيبر عمرو بن اُميّة الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة ، ودعاه إلى الإسلام فأسلم ، وكان أمر عمراً أن يتقدم بجعفر وأصحابه، فجهّز النجاشي جعفراً وأصحابه بجهاز حسن، وأمر لهم بكسوة، وحملهم في سفينتين» (127).

ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما رواه الزهري ـ عبدالله بن رواحة في ثلاثين راكباً فيهم عبدالله بن أنيس إلى اليسير بن رزام اليهودي، لمّا بلغه أنّه يجمع غطفان ليغزو بهم. فأتوه
فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا به حتّى تبعهم في ثلاثين رجلاً مع كلّ رجل منهم رديف من المسلمين.

فلمّا ساروا ستّة أميال ندم اليسير فأهوى بيده إلى سيف عبدالله بن أنيس، ففطن له عبدالله فزجر بعيره ثمّ اقتحم يسوق بالقوم حتّى إذا استمكن من اليسير ضرب رجله فقطعها، فاقتحم اليسير وفي يده مخرش (128)من شوحط (129) فضرب به وجه عبدالله فشجّه مأمومة (130) ، وانفكأ كلّ المسلمين على رديفه فقتله، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدّا ، ولم يصب من المسلمين أحد، وقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فبصق في شجّة عبدالله بن أنيس فلم تؤذه حتّى مات (131).

وبعث غالب بن عبدالله الكلبي إلى أرض بني مرّة فقتل وأسر (132).

وبعث عيينة بن حصن البدري إلى أرض بني العنبر فقتل وأسر (133).

ثمّ كانت عمرة القضاء سنة سبع اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين شهدوا معه الحديبية، ولمّا بلغ قريشاً ذلك خرجوا متبدّدين، فدخل مكّة وطاف بالبيت على بعيره بيده محجن (134)يستلم به الحجر، وعبدالله بن رواحة أخذ بخطامه وهو يقول:


خلّوا بني الكفّار عن سبيلهِ * خلّوا فكلّ الخيرِ في رسولهِ
قد أنزل الرحمنُ في تنزيلهِ * نضربكم ضرباً على تأويلهِ
كـما ضربناكم على تنزيلهِ * ضربناً يزيلُ الهامَ عن مقيله
يا رب إني مؤمن بقيله

وأقام بمكّة ثلاثة أيّام، وتزوّج بها ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، ثمّ خرج فابتنى بها بسرف، ورجع إلى المدينة فأقام بها حتّى دخلت سنة ثمان (135).

وكانت غزوة مؤتة (136)في جمادى من سنة ثمان، بعث جيشاً عظمياً وأمّر عليه السلام على الجيش زيد بن حارثة ثمّ قال: «فإن اُصيب زيد فجعفر، فإن اُصيب جعفر فعبدالله بن رواحة، فإن اُصيب فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم» (137).

وفي رواية أبان بن عثمان عن الصادق عليه السلام: أنّه استعمل عليهم جعفراً، فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة.

ثمّ خرجوا حتّى نزلوا معان (138) ، فبلغهم أنّ هرقل قد نزل بمأرب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة (139).

وفي كتاب أبان بن عثمان: بلغهم كثرة عدد الكفّار من العرب والعجم من لخم وجذام وبلّي وقضاعة، وانحاز المشركون إلى أرض يقال لها: المشارف، وإنّما سمّيت السيوف المشرفيّة لاَنّها طبعت لسليمان بن داود بها، فأقوا بمعان يومين فقالوا: نبعث إلى رسول الله فنخبره بكثرة عدوّنا حتّى يرى في ذلك رأيه.

فقال عبدالله بن رواحة: يا هؤلاء إنّا والله ما نقاتل الناس بكثرة وإنّما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فقالوا: صدقت.

فتهيّؤوا ـ وهم ثلاثة آلاف ـ حتّى لقوا جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال لها: شرف، ثمّ انحاز المسلمون إلى مؤتة، قرية فوق الأحساء (140).

وعن أنس بن مالك قال: نعى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جعفراً وزيد بن حارثة وابن رواحة، نعاهم قبل أن يجيء خبرهم وعيناه تذرفان. رواه البخاري في الصحيح (141).

قال أبان: وحدّثني الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «اُصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة، خمس وعشرون منها في وجهه» (142).

قال عبدالله بن جعفر: أنا احفظ حين دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على اُمّي فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهرقان الدموع حتّى تقطر على لحيته، ثمّ قال: «اللهم إنّ جعفراً قد قدم إليك إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذرّيّته بأحسن ما خلّفت أحداً من عبادك في ذرّيّة».

ثمّ قال: «يا أسماء ألا اُبشّرك؟».

قالت: بلى بأبي أنت واُمّي يا رسول الله.

قال: «إنّ الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنّة».

قالت: فاعلم الناس ذلك.

فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتّى رقى المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى والحزن يعرف عليه، فقال: «إن المرء كثير بأخيه وابن عمّه، ألا إنّ جعفراً قد استشهد وجُعل له جناحان يطير بهما في الجنّة».

ثمّ نزل عليه السلام ودخل بيته وأدخلني معه، وأمر بطعام يصنع لأجلي، وأرسل إلى أخي فتغذينا عنده غذاء طيّباً مباركاً، وأقمنا ثلاثة أيّام في بيته ندور معه كلّما صار في بيت إحدى نسائه، ثمّ رجعنا إلى بيتنا، فأتانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا اُساوم شاة أخ لي فقال: «اللّهم بارك له في صفقته» قال عبدالله: فما بعت شيئاً ولا اشتريت شيئاً إلاّ بورك لي فيه (143).

قال الصادق عليه السلام: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لفاطمة عليها السلام: إذهبي فابكي على ابن عمّك، ولا (144)تدعي بثكل فما قلت فقد صدقت» (145).

وذكر محمّد بن إسحاق عن عروة قال: لمّا أقبل أصحاب مؤتة تلقّاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون معه، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرّار، فررتم في سبيل الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ليسوا بفرّار ولكنّهم الكرّار إن شاء الله» (146).

ثمّ كانت غزوة الفتح في شهر رمضان من سنة ثمان، وذلك أنّ رسول الله لمّا صالح قريشاً عام الحديبية دخلت خزاعة في حلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعهده، ودخلت كنانة في حلف قريش، فلمّا مضت سنتان من القضيّة قعد رجل من كنانة يروي ههجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال له رجل من خزاعة: لا تذكر هذا، قال: وما أنت وذاك؟ فقال: لئن أعدت لأكسرنّ فاك.

فأعادها، فرفع الخزاعي يده فضرب بها فاه، فاستنصر الكناني قومه، والخزاعي قومه، وكانت كنانة أكثر فضربوهم حتّى أدخلوهم الحرم، وقتلوا منهم، وأعانتهم قريش بالكراع والسلاح، فركب عمرو بن سالم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخبّره الخبر وقال أبيات شعر، منها:


لا هـــمّ أنّي ناشدٌ محمّداً * حلف أبينا وأبيه الأتـلدا
أنّ قـريشاً أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
وقتلونا ركعاً وسجداً

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «حسبك يا عمرو» ثمّ قام فدخل دار ميمونة وقال: «اسكبوا لي ماء» فجعل يغتسل ويقول: «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب».

ثمّ اجمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على المسير إلى مكّة، وقال: «اللّهمّ خذ العيون عن قريش حتّى نأتيها في بلادها».

فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش: أنّ رسول الله خارج إليكم يوم كذا وكذا. فخرجت وتركت الطريق ثمّ أخذت ذات اليسار في الحرّة، فنزل جبرئيل فأخبره، فدعا عليّاً عليه السلام والزبير فقال لهما: «أدركاها وخذا منها الكتاب».

فخرج عليّ عليه السلام والزبير لا يلقيان أحداً حتّى وردا ذا الحليفة، وكان النبي عليه السلام وضع حرساً على المدينة، وكان على الحرس حارثة بن النعمان، فأتيا الحرس فسألاهم فقالوا: ما مرّ بنا أحدٌ، ثمّ استقبلا حاطباً فسألاه، فقال: رأيت امرأة سوداء انحدرت من الحرّة. فأدركاها فأخذ عليّ عليه السلام منها الكتاب وردّها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال: فدعا <صلّى الله عليه وآله وسلّم > حاطباً فقال له: «انظر ما صنعت».

قال: أما والله إنّي لمؤمن بالله ورسوله ما شككت، ولكنّي رجلٌ ليس لي بمكّة عشيرة ، ولي بها أهل فأردت أن أتّخذ عندهم يداً ليحفظوني فيهم.

فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فوالله لقد نافق.

فقال عليه السلام: «إنّه من أهل بدر، ولعل الله اطّلع عليهم فغفر لهم، أخرجوه من المسجد».

فجعل الناس يدفعون في ظهره وهو يلتفت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليرق عليه، فأمر بردّه وقال عليه السلام: «قد عفوت عن جرمك فاستغفر ربّك ولا تعد لمثل هذه ما حييت» فأنزل الله سبحانه (يا أيُّها الَّذَينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذوا عَدوي وعَدوكُم أولياءَ) (147)ـ إلى صدر (148)السورة ـ (149).

قال أبان : وحدثني عيسى بن عبدالله القمي ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : لما انتهى الخبر إلى أبي سفيان ـ وهو بالشام ـ بما صنعت قريش بخزاعة أقبل حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد احقن دم قومك وأجر بين قريش وزدنا في المدة .

قال : «أغدرتم يا أبا سفيان ؟» .

قال : لا .

قال : «فنحن على ما كنا عليه» .

فخرج فلقي أبا بكر فقال : يا أبا بكر أجر بين قريش ، قال : ويحك وأحد يجير على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

ثم لقي عمر فقال له مثل ذلك .

ثم خرج فدخل على اُم حبيبة ، فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال : يا بنيّة أرغبةً بهذا الفراش عني ؟

قالت : نعم ، هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك .

ثم خرد فدخل على فاطمة فقال : يا بنت سيد العرب تجيرين بين قريش وتزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس ؟

قالت: «جواري في جوار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم».

قال: فتأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس؟

قالت: «والله ما يدري ابناي ما يجيران من قريش».

فخرج فلقي عليّاً عليه السلام فقال: أنت أمسّ القوم بي رحماً، وقد اعتسرت عليّ الاُمور، فاجعل لي منها وجهاً.

قال: «أنت شيخ قريش تقوم على باب المسجد فتجير بين قريش ثمّ تقعد على راحلتك وتلحق بقومك».

قال: وهل ترى ذلك نافعي؟

قال: «لا أدري».

فقال: يا أيّها الناس إنّي قد أجرت بين قريش، ثمّ ركب بعيره وانطلق فقدم على قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمّداً فكلّمته فوالله ما ردّ عليّ شيئاً، ثمّ جئت ابن أبي قحافة فلم أجد عنده خيراً، ثمّ جئت إلى ابن الخطّاب فكان كذلك، ثمّ دخلت على فاطمة فلم تجيبني، ثمّ لقيت عليّاً فأمرني أن أجير بين الناس ففعلت.

قالوا: هل أجاز ذلك محمد ؟

قال: لا أدري.

قالوا: ويحك، لعب بك الرجل، أوَأنت تجير بين قريش؟! (150).


قال: وخرج رسول الله يوم الجمعة حين صلّى العصر لليلتين مضتا من شهر رمضان، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، ودعا رئيس كلّ قوم فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم.

قال الباقر عليه السلام: «خرج رسول الله في غزوة الفتح فصام وصام الناس حتّى نزل كراع الغميم فأمر بالاِفطار فأفطر الناس، وصام قوم فسُمّوا العصاة لاَنّهم صاموا. ثمّ سار عليه السلام حتّى نزل مرّ الظهران ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ونحو من أربعمائة فارس وقد عميت الأخبار من قريش، فخرج في تلك الليله أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً، وقد كان العبّاس بن عبد المطّلب خرج يتلقّى رسول الله ومعه أبو سفيان بن الحارث وعبدالله بن أبي اُميّة وقد تلقّاه بنيق العقاب ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قبّته ـ وعلى حرسه يومئذ زياد بن اُسيد ـ فاستقبلهم زياد فقال: أمّا أنت يا أباالفضل فامض إلى القبّة، وأمّا أنتما فارجعا.

فمضى العبّاس حتّى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسلّم عليه وقال: بأبي أنت واُمّي هذا ابن عمّك قد جاء تائباً وابن عمّتك.

قال: «لا حاجة لي فيهما، إنّ ابن عمّي انتهك عرضي، وأمّا ابن عمّتي فهو الذي يقول بمكّة: لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً».

فلمّا خرج العبّاس كلّمته اُمّ سلمة وقالت: بأبي أنت واُمّي ابن عمّك قد جاء تائباً، لا يكون أشقى الناس بك، وأخي ابن عمّتك وصهرك فلا يكونّن شقيّاً بك.

ونادى أبو سفيان بن الحارث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: كن لنا كما قال العبد الصالح: لا تثريب عليكم، فدعاه وقبل منه، ودعا عبدالله بن أبي اُميّة فقبل منه.

وقال العبّاس: هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنوة، قال: فركبت بغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم البيضاء وخرجت أطلب الحطّابة أو صاحب لبن لعلّي آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يستأمنون إليه، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام، وأبو سفيان يقول لبديل: ما هذه النيران؟ قال: هذه خزاعة.

قال: خزاعة أقلّ وأقلّ من أن تكون هذه نيرانهم، ولكن لعلّ هذه تميم أو ربيعة.

قال العبّاس: فعرفت صوت أبي سفيان، فقلت: أبا حنظلة، قال: لبّيك فمن أنت؟ قلت: أنا العبّاس، قال: فما هذه النيران فداك أبي واُمّي؟ قلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عشرة آلاف من المسلمين، قال: فما الحيلة؟ قال: تركب في عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال: فأردفته خلفي ثمّ جئت به، فكلّما انتهيت إلى نار قاموا إليّ فإذا رأوني قالوا: هذا عمّ رسول الله خلّوا سبيله، حتّى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال: عدوّ الله الحمد لله الذي أمكن منك، فركَّضت البغلة حتّى اجتمعنا على باب القبّة، ودخل عمر على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: هذا أبو سفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه.

قال: العبّاس: فجلست عند رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: بأبي أنت واُمّي أبو سفيان وقد أجرته، قال: «أدخله».

فدخل فقام بين يديه فقال: «ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله؟».

قال: بأبي أنت واُمّي ما أكرمك وأوصلك وأحملك، أمّا الله لو كان معه إله لاَغنى يوم بدر ويوم أحد، وأمّا أنّك رسول الله فوالله إنّ في نفسي منها لشيئاً.

قال العبّاس: يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال: فإنّي أشهد أن لا إلاّ الله وأنّك رسول الله ـ تلجلج بها فوه ـ.

فقال أبو سفيان للعبّاس: فما نصنع باللات والعزّى؟ فقال له عمر: اسلح (151) عليهما.

فقال أبو سفيان: اُفّ لك ما أفحشك، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمّي؟

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «عند من تكون الليلة»؟

قال: عند أبي الفضل.

قال: «فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة واغد به عليّ».

فلمّا أصبح سمع بلالاً يؤذّن، قال: ما هذا المنادي يا أبا الفضل؟ قال: هذا مؤذّن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قم فتوضّأ وصلّ، قال: كيف أتوضّأ؟ فعلّمه.

قال: ونظر أبو سفيان إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يتوضّأ وأيدي المسلمين تحت شعره، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلاّ مسح بها وجهه، فقال: بالله إن رأيت كاليوم قطّ كسرى ولا قيصر.

فلمّا صلّى غدا به إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله إنّي اُحبّ أن تأذن لي <بالذهاب> إلى قومك فاُنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله، فأذن له، فقال العبّاس: كيف أقول لهم؟ بيّن لي من ذلك أمراً يطمئنّون إليه.

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «تقول لهم: من قال: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً رسول الله، وكفّ يده فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن.

فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فلوخصّصه بمعروف .

فقال عليه السلام: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

قال أبو سفيان: داري؟! قال: «دارك»، ثمّ قال: «من أغلق بابه فهو آمن».

ولمّا مضى أبو سفيان قال العبّاس: يارسول الله إنّ أبا سفيان رجلٌ من شأنه الغدر، وقد رأى من المسلمين تفرّقاً.

قال: «فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتّى يمرّ به جنود الله».

قال: فلحقه العبّاس فقال: أبا حنظلة! قال: أغدراً يا بني هاشم؟

قال: ستعلم أنّ الغدر ليس من شأننا، ولكن أصبر حتّى تنظر إلى جنود الله.

قال العبّاس: فمرّ خالد بن الوليد فقال أبو سفيان: هذا رسول الله؟ قال: لا ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدّمة، ثمّ مرّ الزبير في جهينة وأشجع فقال أبو سفيان: يا عبّاس هذا محمّد؟ قال: لا، هذا الزبير، فجعلت الجنود تمرّ به حتّى مرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأنصار ثمّ انتهى إليه سعد بن عبادة، بيده راية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا أبا حنظلة.


اليوم يوم الملحمة * اليوم تستحلّ (152)الحرمة

يا معشر الأوس والخزرج ثاركم يوم الجبل.

فلمّا سمعها من سعد خلّى العباس وسعى إلى رسول الله وزاحم حتّى مرّ تحت الرماح فأخذ غرزه (152)فقبّلها، ثمّ قال: بأبي أنت واُمّي أما تسمع ما يقول سعد؟ وذكر ذلك القول، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ليس ممّا قال سعد شيء» ثمّ قال لعليّ عليه السلام: «أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالاً رفيقاً»، فأخذها علي وأدخلها كما أمر.

قال: وأسلم يومئذ حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، وجبير بن مطعم.

وأقبل أبو سفيان حتّى دخل مكّة وقد سطع الغبار من فوق الجبال وقريش لا تعلم، وأقبل أبو سفيان من أسفل الوادي يركض فاستقبلته قريش وقالوا: ما وراءك وما هذا الغبار؟ قال: محمّد في خلق، ثمّ صاح: ياآل غالب البيوت البيوت، من دخّل داري فهو آمن، فعرفت هند فأخذت تطردهم، ثمّ قالت: اقتلوا الشيخ الخبيث، لعنه الله من وافد قوم وطليعة قوم.

قال: ويلك إنّي رأيت ذات القرون، ورأيت فارس أبناء الكرام، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمن آخر النهار، ويلك اسكتي فقد والله جاء الحقّ ودنت البليّة» (153)

وكان قد عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكّة إلاّ من قاتلهم، سوى نفر كانوا يؤذون النبي صلوات الله عليه وآله، منهم: مقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعبدالله بن خطل، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة».

فاُدرك ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمّار بن ياسر فسبق سعيد عمّاراً فقتله، وقتل مقيس بن صبابة في السوق، وقتل علي عليه السلام إحدى القينتين وأفلتت الاُخرى، وقتل عليه السلام أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب.

وبلغه أنّ اُمّ هانىء بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بني مخزوم منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب، فقصد نحو دارها مقنّعاً بالحديد، فنادى: «أخرجوا من آويتم» فجعلوا يذرقون كما يذرق الحبارى خوفاً منه.

فخرجت إليه اُمّ هانىء ـ وهي لا تعرفه ـ فقالت: يا عبدالله، أنا اُمّم هانىء بنت عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واُخت عليّ بن أبي طالب، انصرف عن داري.

فقال علي عليه السلام: «أخرجوهم».

فقالت: والله لاَشكونّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتدّ حتّى التزمته، فقالت: فديتك حلفت لاَشكونّك إلى رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم؟

فقال لها: «فاذهبي فبرّي قسمك، فإنّه بأعلى الوادي».

قالت اُمّ هانئ: فجئت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو في قبّة يغتسل ، وفاطمة عليها السلام تستره ، فلمّا سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كلامي قال: «مرحباً بك يا اُمّ هانىء».

قلت: بأبي واُمّي ما لقيت من عليّ اليوم!

فقال عليه السلام: «قد أجرت من أجرت».

فقالت فاطمة عليها السلام: «إنّما جئت يا اُمّ هانىء تشكين عليّاً في أنّه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله؟!».

فقلت: احتمليني فديتك.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «قد شكر الله لعليّ سعيه، وأجرت من أجارت اُمّ هانىء لمكانها من عليّ بن أبي طالب» (153).

قال أبان : وحدثني بشير النبّال ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال :«لمّا كان فتح مكّة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عند من المفتاح ؟

قالوا: عند اُمّ شيبة.

فدعا شيبة فقال: إذهب إلى اُمّك فقل لها ترسل بالمفتاح.

فقالت: قل له: قتلت مقاتلينا وتريد أن تأخذ منّا مكرمتنا.

فقال: لترسلنّ به أو لاَقتلنّك. فوضعته في يد الغلام فأخذه ودعا عمر فقال له: هذا تأويل رؤياي من قبل.

ثمّ قام صلّى الله عليه وآله وسلّم ففتحه وستره، فمن يومئذ يستر، ثمّ دعا الغلام فبسط رداءه فجعل فيه المفتاح وقال: ردّه إلى اُمّك.

قال: ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم البيت وأخذ بعضادتي الباب ثمّ قال: لا إله إلاّ الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده. ثمّ قال: ما تظنّون وما أنتم قائلون؟

فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً، ونظنّ خيراً، أخ كريم وابن عمّ.

قال: فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ألا إنّ كلّ دم ومال ومأثرة كان في الجاهليّة فإنّه موضوع تحت قدمي، إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنّهما مردوتان إلى أهليهما، ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم الله، لم تحلّ لاَحد كان قبلي ولم تحلّ لي إلاّ ساعة من نهار، فهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة ، لا يختلي خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحلّ لقطتها إلاّ لمنشد.

ثمّ قال: ألا لبئس جيران النبيّ كنتم، لقد كذبتم وطردتم، وأخرجتم وفللتم، ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء.

فخرج القوم كأنّما انشروا من القبور، ودخلوا في الاِسلام.

قال: ودخل رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم مكّة بغير إحرام وعليهم السلاح، ودخل البيت لم يدخله في حجّ ولا عمرة.

ودخل وقت الظهر فأمر بلال فصعد على الكعبة وأذّن، فقال عكرمة: والله إن كنت لاَكره أن أسمع صوت ابن رباح ينهق على الكعبة، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبا عتّاب من هذا اليوم من أن يرى ابن رباح قائماً على الكعبة، قال سهيل: هي كعبة الله وهو يرى ولو شاء لغيّر ـ قال: وكان أقصدهم ـ وقال أبو سفيان: أمّا أنا فلا أقول شيئاً، والله لو نطقت لظننت أنّ هذه الجدر تخبر به محمّداً.

وبعث صلوات الله عليه وآله إليهم فأخبرهم بما قالوا، فقال عتّاب: قد والله قلنا يا رسول الله ذلك فنستغفر الله ونتوب إليه، فأسلم وحسن إسلامه وولاّه رسول الله مكّة.

قال: وكان فتح مكّة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا» (154)