كسر الأواني وإيقاد النار موروث شعبي في الثلاثين من صفر

ما أحلى تلك السنين التي تعبق ذكراها لجيلنا نحن ، وما أشهى وقت الأصيل فيها ، وما أزهى منظرها الفتان حين تلامسك حلول موسمها أو وقتها ، لنا عادات وتقاليد وطقوس لازالت قائمة لم تندثر ، ولم تنتهي ممارسات تقليد وطقوس مساء اليوم الأخير من شهر صفر،وهذه التقاليد أخذت بالانحسار في مناطق المدنية ، تآكل في المساحة المكانية ( البر ) ، موت الحياة الفطرية وإحلال المساكن ، لكنها استمرت موروثة بين سكان القرى والجنوب بشكل خاص في بلاد وادي الرافدين ،ومن بين الطقوس المشهورة بين العراقيين وغيرهم هو قيام النساء بكسر الأواني الزجاجية والطرق على الجدران ، ويقاد مشاعل من النار لتملا الأزقة والساحات بتصاعد السنة النيران لنبا بمغادرة صفر _شهر النحس والكدر والشؤم والألبسة السوداء إمام قدوم شهر ربيع الأول حيث السرور والأفراح والرزق ولباس الألوان المزركشة خصوصا بين النساء وديكورات المنازل وواجهاتها، ربما يتصور البعض إن هذه الطقوس وممارستها خرافة أو بدعة إن ليس كذلك بل أنها حقيقة متواترة منذ مئات السنين والقرون اعتاد الناس وحرصه على ممارستها لأنها مرتبطة بحياتهم خصوصا وان صفر لونه كالح وأيامه كلها إحزان وعلل وجمود نفسي مر، ولازال الكثير من العوائل بخروج صفر يقذفون أثاثهم وملابسهم الى الخارج ويجلبون غيرها حديثة الى البيت ظن منهم إن النحس والفقر وقلة الحظ والوساوس قد ولت ورحلت.
ماذا يعني حرق صفر ؟!
إن أجيال القرون السابقة توارثوا هذه العادة وهي ( حرق صفر وما تحمله هذه التقاليد والعادة ) من آبائهم وأجدادهم وأوصلوه إلى جيل منتصف الثمانينات من القرن المنصرم بما يمتلكون من حب المحافظة على الموروث ساعدهم في ذلك تباطؤ دخول التكنولوجيا والحضارة المادية بمقوماتها .
إن حرق المشاعل وكسر الأواني ودفع الشيطان والطرق على جدران المنازل يعني التخلص من أعباء الحزن المخيم شهرين متتاليين قضيناهما في أيام شهر محرم الحرام حيث أحيينا عاشوراء الإمام الحسين(ع) وأحيينا طقوس الحزن ومظاهر واقعة كربلاء الاليمة، وما جرى لسبط الرسول الأعظم وأهل بيته وأصحابه حتى الأربعينية في العشرين من صفر ، حتى يأتي شهر ربيع الأول بعد صفر بغية التخلص من الحالة النفسية المنضغطة والنزعة على دخول عالم جديد وجميل ببهاء وصفاء ، ويتخذ إجراءات عملية خاصة عند النساء بنزع الثياب السوداء القاتمة ولبس الثياب والملابس الزاهية ورمي بعض الأدوات القديمة كبعض من أواني الطبخ والأواني الفخارية بكسرها أو رميها في البحر ، أو تجميع من بعض الملابس البالية وصرها في صرة من القماش الكبيرة أو خريطة ورميها خارج البيت اعتقادا التخلص من الوات الحزن والتوتر النفسي ، إن ربة البيت تقوم بتطييب بيتها بواسطة البخور تدور به في أرجاء البيت لطرد الشياطين والحسد وقتل الآفات والأوهام والحشرات وغيرها ،وتقوم أثناء دورانها في الحجرات والممرات والزوايا بذكر النبي الأعظم (ص) وأهل بيته الطاهرين(ع)

كيفية إشعال السعفة وطقوسها :
إن شكل السعفة التي يطلق عليها بالقرى الريفية بالقمبارة ،حيث توقد القمبارة من كومة الشجر أو مجموعة السعف المشتعلة بوضع رأس القمبارة المحاطة بالليف ، حيث إن مادة الليف تنتشر فيها النار بسرعة فائقة فتشري في جسدها مكونة كتلة من النار . تأخذ النساء والفتيات والأولاد القمبارة المشتعلة وتحركها على شكل دائري تبدأ بمحاذاة البطن من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين وبكلتي اليدين تتجانس تلك القمبارة مع بعضها البعض مكونة دائرة نارية مشعة مركزها رأس الشخص ، فإذا شعر الشخص بالتعب يتناولها بين حين وحين بيد واحدة مرة لليمين ومرة لليسار ومرة أخرى بجمع اليدين وهكذا حتى تأتي النار على الجزء المتبقي في آخرها وهم يرددون :
اطلع ياصفر – والشر مشى وياك
اطلع بالحزن والمرض اخذ آوياك.. ثم يرددون الأطفال أهزوجة آخرة " يارب أحفظ أبونه – من عاد الصفر وجانه وأحفظ أمنه الربتنه _من عاد الصفر وجانه وأحفظ أختي واخوي – بعمتي وعمي لمتنه واحفظ خالي وخالتنه –وجدي وبيبي فرحتنه من عاد الصفر وجانه . وهكذا حتى تمر أسماء الأهالي والجيران والأصدقاء والمؤمنين والمؤمنات لتنالهم عبارات الدعاء من الله بإطالة أعمارهم كي يدركوا هذه الأيام والشهور . ومن الأهازيج الأخرى الأكثر تداولا في السابق، حين تبدأ مراسيم الاشتعال وتدوير القمبارة على الرأس والتي تمثل فيها حنق الجميع على هذا الشهر الذي تكثفت فيه وفيات الأئمة عليهم السلام وأخرهم جدهم سيد الكونين الرسول الأكرم(ص) وأبعدهم عن ملذات أيامهم وكأن الموعد في إشعال فتيل الدواعي عليه ووصمه بأبي المصائب قد تجمع ككتلة نارية الكل يريد إطفائها فها هم يرددون :
حرقناك يا صفر ،،، يا بو المصايب والكدر
حرقناك يا صفر،،، على أعريس واحترق
حرقناك ياصفر ،،، يا بو المصايب والكدر
اطلع – اطلع ياصفر ،،،شهر الشؤم والضجر
إن الشباب والصبيان فلهم عملهم الخاص وذلك بتجميع الأشجار اليابسة والأخشاب والسعف وجمع الأوراق وأكياس الأسمنت والكل لا التفات له إلا العمل الدءوب السريع في عمل جبل من تلك الخامات ‘ فإذا شعروا بارتفاع علوها بدأو بإشعالها ، فكل واحد لديه وسيلة إيقاد ..
وهكذا تمتد طقوس صفر بعد صلاة العشاء منظرها لا يبارح مخيلة الذين عاشوا تلك الفترات ، فكيف تبدو الظلمة في تلك الليلة ، كيف تبدو روائح الثياب المختمرة فيها عطر الدخان ، كيف تبدو الوجوه المحمرة من الحرارة ، كيف تتراقص الأضواء في مخيلة الناس وقد عرجوا بأحلامهم ليواجهوا أمل سعيد ، لتتحول الأجواء السرور والمرح ، والأمل والفرح يشدوا مرسوما على وجنات الجالسين من أفراد العائلة وكأن الصور القاتمة المخيمة على سقوف البسطاء والفقراء بالخروج محملة من بفصول كثيرة من المتاعب والأرق والمنغصات والإمراض ومراجعات الأطباء وكثرة المشاكل لدى البعض من هؤلاء المنكوبين حزنا دائم في الريف والمدينة ،

الأطفال يحتفلون بمشاعل النيران:
إن مجاميع الأطفال وتجمهرهم حول أكوام النيران لازالت مستمرة كل نهاية صفر وتحديدا الساعات الأخيرة من مساء الثلاثين من الشهر،حيث يبدأ الأطفال بحمل المشاعل وإيقاد اكبر مساحة من النيران لتشع المنطقة إضاءة من اتساع رقعة النيران المشتعلة ، وهنالك مجاميع أخرى من الأطفال تقوم بمساعدة إلام من خلال طرق جدران الدار من الخارج أو كسر قطع الزجاج وبصوت عال لغرض إن يتهشم وتتناثر شظاياه ، الى قدوم ظلمة الليل وسكونه الجميل ،نأمل إن تتحقق أمنيات وطموحات
أقف أتأمل منظرك البهي ، أسحب الظلمة رداءك الأسود ، ارسم مدخنه تحويها النيران المتصاعدة ، ألون رقصات الحرائق كي اسمع تغريد الأعواد وتهشمها حزمة بعد حزمة ، أشم قوائم الجريد المتباهي احتراقا وأكوام الأنقاض من الملابس الرثة المحترقة( القديمة والسوداء) ، فأرجع للنشيد وصدى الترنيم وكلما زادت النيران أعطت منظرا مكثفا في التوهج والإثارة خاصة عندما تقرب الشمس من المغيب ، فحين تدير عينيك متلفتا في كل اتجاه تجد شعلة من النار المتأججة لعبة في أيدي الكبار والصغار والشباب ، وكأن هذه اللعبة مدار التداول الميسر قد احتموا بدعاء : اللهم أعطنا خيرها وابعد عنا شرها برحمتك يا أرحم الراحمين ..