سور بغداد الكبير .. والمدافع العراقية القديمة

كانتْ بغداد محاطة بسور أطلق عليه سور بغداد الكبير، وبعد ان عمّر دهراً طويلاً ، لم يبق منه غير أثر شاخص في الشمال الشرقي من بغداد دلالة على ضخامة ذلك السور ومتانته.وقد شيّده الخليفة العباسي المستظهر وأكمل بناءه الخليفة المسترشد (512 ـ 529هـ).. وان الأثر الشاخص من سور بغداد هو الباب الوسطاني الذي كان يسمى (باب الظفرية).. وهو مؤلف من برج عالٍ محزوم بنطاق من الكتابة بالخط النسخي وبعض الزخارف منقوشة على الآجر. ويقطعه جزء من الخندق المائي العميق الذي كان محيطاً بالسور، ثم دفن وبقي منه هذا الجزء الذي يمر بباب الظفرية.وكان من المتوقع لهذا البرج العظيم ان يتلاشى مع بقية أجزاء السور فيذهب كما ذهب باب السلطان، وباب البصلية، وباب الطلسم..
لولا ان تداركته مديرية الآثار العامة التي قامت بصيانته وترميمه ثم اتخذت منه متحفاً للأسلحة القديمة.كانت في هذا المتحف نماذج كثيرة من الأسلحة القديمة لعل أبرزها المدفع.. فمنذ ان اخترع الصينيون القدماء البارود كان العمل مستمراً على ايجاد الوسائل والأدوات الفعالة للاستفادة من هذه المادة في الحرب. وكان من الطبيعي ان تكون الأمة العربية هي السباقة الى اكتشاف هذه الوسيلة بسبب مركزها الحضاري الممتاز في التأريخ القديم.وهكذا.. حدثنا التأريخ عن أقدم الاستعمالات للأسلحة النارية.. فقال المستشرق الاسباني (كوندي): ان أهل مراكش استعملوا الأسلحة النارية في محاربتهم لسرقوسة وهجومهم عليها سنة (512هـ).ونقل ابن خلدون عن أبي يوسف سلطان مراكش عندما فتح حصن سجلماسة سنة (672هـ) فقال: (ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعدادات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانة أمام النار الموقدة بالبارود بطبيعة غريبة).والمقصود بهندام النفط هو المدفع وبحصى الحديد (القنبلة) واستمرت المدافع بالتطور بمرور الزمن، وأهم ما مرت به من التطورات مرحلتان.. تدل عليهما النماذج التي كانت موجودة في متحف الباب الوسطاني.. فقد كانت المدافع في أول أمرها تطلق بادخال القنبلة من فوهة المدفع ثم الحاقها بالفتيل حتى اذا حصل الاحتكاك بين النار والبارود انطلقت القذيفة.. ومن هذا الطراز كان يوجد في المتحف مدفع كبير طوله (182سم) وقطر فوهته (25سم).. وفي المرحلة الثانية توصلوا الى احداث الثقب في مؤخرة المدفع والغرض منه ان يكون طريقاً يوصل بين القنبلة والفتيلة وبذلك استغنى عن وضع الفتيلة من الفوهة.
كان يوجد في المتحف نماذج آثارية من المدافع المتنوعة الأشكال والأحجام والمصادر، ضمنها الفارسي، والتركي، ومنها الغربي.. ويوجد أيضاً مجموعة من المدافع العراقية الصنع.
ان أقدم مدفع عراقي في الباب الوسطاني مصنوع سنة (1806م) طوله (125سم) وقطر فوهته (22سم) وهو محمول على عجلة متينة مغلفة بالحديد، كتب على هذا المدفع بعض الكتابات منها أبيات من الشعر باللغة التركية، واسم صانع هذا المدفع والحاكم الذي صنع له، وفي المؤخرة رسم هلال يحتضن كوكباً ذا ثمانية رؤوس.وأضخم هذه المدافع العراقية هو مدفع (اسطة رجب الراوندوزي) الذي صنعه لحاكم الموصل (محمد باشا العلمدار).. طوله (323سم) وقطر فوهته (45سم) ويتميز هذا المدفع بكثرة الكتابات والزخارف عليه، فقريباً من فوهته خطت آيات قرآنية وتحتها ثلاثة أبيات من الشعر يليها اسم صانع المدفع وسنة الصنع وهي (1259هـ) وفي مؤخرته ختم باسم السلطان عبدالحميد خان ابن السلطان محمد خان الذي سبك المدفع في عهده.ان مبدع هذا المدفع هو الأسطة رجب الراوندوزي وهو من المتخصصين القديرين في صناعة المدفعية.. وكانت في المتحف مدافع عديدة تحمل اسمه مؤرخة ما بين سنة 1234هـ ـ و1259هـ.وان أهم المراكز التي كانت تصنع فيها المدافع في ذلك الوقت هي بغداد، والموصل، وراوندوز،، ويبدو انها كانت تنتج بكثرة. ويدل ان حاكم الموصل (محمد باشا العلمدار) كان يملك وحده نحو ثمانين مدفعاً.. وهذه النماذج كانت موضوعة في متحف الباب الوسطاني في بغداد تعطينا صورة واضحة لمهارة وكفاءة وعظمة الأيدي العراقية التي كانت وفي عهد مظلم كالعهد العثماني.. قادرة على ممارسة أثقل وأدق الصناعات كالمدافع.. ثم جاء بعدهم الاستعمار البريطاني الى العراق وحاولوا فرض القيود على حرية الفكر والابداع والعمل والاختراع ليجعلوا من أهله عاجزين عن عمل أي شيء يحتاجونه في حياتهم.ونتيجة هذا الظلم والتسلط والاضطهاد ثار الشعب العراقي ليحطم القيود والاغلال في ثورته الكبرى المعروفة لينطلق الى الامام في رحاب الحرية والعلم والابداع والاستقلال