نقد كتاب تنقيح المناظرة في تصحيح المخابرة
الكتاب من تأليف محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة المتوفى 733هـ وأما سبب تأليفه الكتاب فهو حسب قول المؤلف:
"فقد تقدم من تجب طاعته وتتعين إشارته بشرح مسألة المزارعة والكلام عليها لعموم حاجة الناس إليها وذكر ما فيها من الاختلاف وما رجح كل طائفة من الخلاف فانتهيت إلى كريم تلك الإشارة وتحريت الاختصار بحذف الإسناد، وتلخيص العبارة ونبهت على حجة المانع لها والمجيز، وما يظهر ترجيحه عند النظر والتمييز, والله تعالى يعصم في ذلك وفي غيره من الخطأ والزلل ويوفق للإخلاص في القول والنية والعمل, إنه جواد كريم رءوف رحيم."
وقد استهل الكتاب بتعريف المزارعة والمخابرة في اللغة فقال:
"فأقول مستعينا بالله معتصما به: المزارعة: مفاعلة من الزرع، والمخابرة: مفاعلة من الخبار وهي الأرض اللينة ومنه قيل للأكار المخابر هذا هو الأصح، وقيل:المخابرة مأخوذة من معاملة أهل خيبر حين أقرهم النبي(ص)عليها وقيل: مأخوذة من الخبرة وهي النصيب قاله الماوردي لأن كل واحد من العامل وصاحب الأرض يأخذ نصيبا من الزرع وهذا فيه نظر، لأنه يلزم منه أن نسمي القراض مخابرة والله أعلم. "

ثم ذكر التعريف الاصطلاحى للاثنتين فقال:
"تعريف المزارعة والمخابرة في الاصطلاح:
"واختلف الناس في المزارعة والمخابرة فقال قوم: هما بمعنى واحد وهو دفع الأرض إلى من يزرعها ببعض ما يخرج منها سواء كان البذر من صاحب الأرض أو من العامل والأصح الذي هو ظاهر نص الشافعي أن معناهما مختلف فالمزارعة إذا كان البذر من صاحب الأرض والمخابرة إذا كان البذر من العامل."
والمستفاد مما سبق هو :
أن الاثنتين مشاركة بين صاحب الأرض ومن يعمل بها لزراعتها
ثم ذكر ابن جماعة نوعا المزارعة والمخابرة فقال:
"ضربا المزارعة والمخابرة:
والمزارعة والمخابرة ضربان: ضرب مجمع على بطلانه وفساده, وضرب مختلف في صحته وجوازه.
الضرب الأول: المجمع على فساده, وهو أن يكون حصة أحدهما أو حصة كل واحد منهما منفردة بالتعيين بوجه من الوجوه إما بالنسبة إلى الأرض مثل أن يقول: زارعتك على أن لك ما على الجداول ولي ما عداه أو على أن ذلك ما على الروابي ولي ما في الأودية، أو بالنسبة إلى الزرع مثل أن يقول على أن لك الحنطة ولي الشعير أو بالنسبة للسقي كقوله: على أن لك ما سقي بالنواضح ولي ما سقي بالسماء، أو بالنسبة إلى الحصة كقوله: على أن لي مائة قفيز ولك ما بقي, فهذا كله باطل بإجماع العلماء لما روى سعيد بن المسيب عن سعد قال: "كنا نكري الأرض بما على السواقي وما سقي منها بالماء فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو ورق". رواه أبو داود ولأنه ربما تلف ما عين لأحدهما، أو لم ينبت فينفرد أحدهما بالغلة دون الآخر."

من قول ابن جماعة يتبين أن المشاركة فى ناتج الزرع بحصص غير متساوية أو بحصص مجهولة أمر باطل محرم عمله
ثم تناول النوع الثانى فقال :
"الضرب الثاني: المختلف في صحته, وهو أن يعامل صاحب الأرض من يعمل عليها بنصيب معلوم مما يخرج منها من نصف، أو ثلث أو ربع أو نحو ذلك. وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: جواز ذلك مطلقا سواء كان البذر من المالك أو من العامل وسواء كان فيها شجر أو لم يكن - (والكلام الآن أولا) في الأرض البيضاء - وممن روى ذلك عنه من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وسعد ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل وابن عباس رضي الله عنهم ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز (والقاسم، وطاووس، وعبد الرحمن بن أبي ليلى والزهري وغيرهم ) .ومن الفقهاء محمد بن أبي ليلى، والليث، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل في رواية, ومن أصحاب الشافعي: ابن المنذر وابن خزيمة، وقيل: إنه صنف فيه جزءا، وابن سريج والخطابي ، والماوردي ، وغيرهم ومن أصحاب مالك يحي بن يحي ، والأصيلي.

المذهب الثاني: المنع مطلقا وأنها باطلة سواء كان البذر من المالك أو من العامل، وممن روي ذلك عنه من الصحابة، ابن عمر، وجابر ورافع بن خديج، وابن عباس في رواية ومن التابعين عكرمة ، ومجاهد
والنخعي، ومن الفقهاء الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة .
المذهب الثالث: إن كان البذر من المالك جاز وهي المزارعة وإن كان البذر من العامل لم يجز وهي المخابرة وبه قال ابن عباس في رواية وأحمد بن حنبل في أظهر روايتيه، وإسحاق بن راهويه (وقد روي عن سعد) وابن مسعود وابن عمر إن البذر من العامل والرواية الأولى عنهم أصح قال صاحب المغني: "ولعلهم أرادوا أنه يجوز أن يكون البذر من العامل كقول عمر لا أن ذلك قول آخر".

هذا كله في الأرض البيضاء التي لا شجر فيها (أما التي فيها شجر) فيأتي تفصيل المذاهب فيها- إن شاء الله تعالى بعد ذلك-."
ذكر الرجل المذاهب فى أحكام المزارعة والمخابرة فانتهى إلى ثلاثة أراء:
1-إباحتهما على الإطلاق 2- منعهما على الإطلاق 3 -إباحة المزارعة وحرمة المخابرة"
وبالقطع حكم الله واحد فى القضية ولكن الروايات المنسوبة للنبى(ص) متناقضة فهى تبيح كليا وتمنع كليا وتبيح وتمنع فى نفس الوقت وهو كلام لا يمكن أن يقوله النبى(ص) كله وقد ذكر الرجل أدلة كل فريق من الروايات فقال :
"احتج المجوزون مطلقا بحديث ابن عمر- رضي الله عنهما- "أن رسول الله (ص)عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر، أو زرع". أخرجه البخاري، ومسلم. وفي رواية "أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها، ويزرعوها ولهم شطر" ما يخرج منها أخرجاه واللفظ
للبخاري. وفي رواية لمسلم: "دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر، وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولرسول الله (ص)شطر ثمرها".
وحكى البخاري عن أبي جعفر قال: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث، والربع قال: وزارع علي، وسعد ابن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم وعروة، وآل أبي بكر، وآل علي. قال: "وعامل عمر الناس على أن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا" ولأنها معاملة على أصل ببعض نمائه فصحت كالمضاربة والمساقاة

احتج المانعون مطلقا بحديث رافع بن خديج: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله (ص)فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى فجاءنا ذات يوم
رجل من عمومتي فقال: "نهانا رسول الله(ص)عن أمر كان لنا نافعا وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمى وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها، وكره كراءها". أخرجه مسلم.

وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: "كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع بن خديج أن نبي الله(ص)نهى عنه فتركناها من أجله". رواه مسلم .
وعن جابر قال: "نهى رسول الله(ص)عن المخابرة" متفق عليه وعن زيد قال: "نهى رسول الله (ص)عن المخابرة", قلت: "وما المخابرة؟ قال: "أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث". أخرجه أبو داود .
وعن ثابت بن الضحاك أن رسول الله (ص)"نهى عن المزارعة". رواه مسلم وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص)"من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه" .
وعن جابر: "كنا في زمن رسول الله (ص)نأخذ الأرض بالثلث، والربع، والماذيانات فقام رسول الله (ص)فقال: "من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسك أرضه" رواهما مسلم.

ولأنها أصول تصح إجارتها فلا تصح المعاملة عليها ببعض كسبها. واحتج من جوز المزارعة دون المخابرة بأنه عقد يشترك رب العين والعامل في نمائه فوجب أن يكون الأصل (من رب المال) كالمضاربة والمساقاة .
فإذا عرفت حجة كل مذهب فالذي رجحه البخاري والخطابي واختاره جماعة من المحققين إنما هو قول الجواز مطلقا قال صاحب المغني: "وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لما تقدم من حديث (معاملة) أهل خيبر".
(قال) البخاري: "قال أبو جعفر: عامل رسول الله(ص)أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع". وقال: "ما في المدينة أهل بيت هجرة إلا ويزرعون على الثلث والربع" إلى آخر ما تقدم وهذا أمر مشهور عمل به رسول الله (ص)بخيبر حتى مات ثم الخلفاء الراشدون بعده حتى ماتوا ثم أهلوهم، وعمل به أزواج النبي (ص)فروى ابن عمر أن " النبي (ص)عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع فكان يعطى أزواجه مائة وسق ثمانون وسقا تمرا وعشرون وسقا شعيرا فلما قسم عمر خيبر خير أزواج النبي (ص)بين أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الوسق وكانت عائشة وحفصة ممن اختار الأرض" رواه البخاري ومسلم ولم ينقل أن عائشة وحفصة أجرتا ما اقتطعتاه ولا أنه كان لهما غلمان يعملون الأرض فالظاهر أنهما كانا تزارعان عليها"

ونتيجة التناقض فى الروايات حاول الرجل أن يحل التناقض بالناسخ والمنسوخ ولكنه رفض نسخ خبر خيبر بحديث رافع وجابر فقال :
"فإن قيل يحتمل أن يكون حديث خيبر منسوخا بالنهي الوارد في حديث رافع وجابر وأبي هريرة. قلنا لا يجوز لوجوه:
الأول: أن النسخ إنما يكون في حياة النبي (ص)ولو كان هذا منسوخا لما عمل به النبي (ص)إلى أن مات وعمل به الخلفاء الراشدون بعده ولم يخالف أحد منهم.
الثاني: أنه لو كان منسوخا لما خفي النسخ عنهم هذه المدة الطويلة مع بحثهم وجدهم وقد روى البخاري ومسلم عن نافع أن ابن عمر كان
يكري مزارعه على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من خلافة معاوية حتى بلغه قال مسلم في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي(ص)فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله (ص)ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد وكان إذا سئل عنها بعد قال زعم رافع ابن خديج أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - نهى عنها. ولا خفاء في بعد عدم إطلاعهم على الناسخ هذه المدة مع أن هذا الأمر مما تعم به البلوى وتتكرر الحاجة العامة إليه في كل عام. فإن قيل فكيف ترك ابن عمر ذلك مع قيام الاستبعاد الذي ذكرتموه؟ قلنا الذي تركه ابن عمر كان احتياطا وتورعا فإنه روى خبر خيبر وقد رأى النبي (ص)أقرهم عليه أيام حياته ثم أبا بكر ثم عمر حتى أجلاهم عنها وكذلك كانت (عادته في تورعه) رضي الله عنه. ويؤيد ذلك أنه ورد في بعض طرق البخاري أن ابن عمر قال: كنت أعلم في عهد رسول الله (ص)أن الأرض تكرى. ثم خشي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئا لم يكن يعلمه فترك (كراء) الأرض وأيضا فابن عمر ترك كراء الأرض مطلقا فدل على أنه إنما تركه تورعا، لأن الكراء جائز باتفاق .

وبعد أن رفض حكاية النسخ عاد إلى الجمع بين الروايات فقال :
"الثالث: أن النسخ إنما يصار إليه عند تعذر الجمع بين الأحاديث والجمع بين حديث خيبر وحديث رافع ممكن ظاهر كما سنذكره إن شاء الله تعالى فكيف يعدل إلى النسخ ووجه الجمع بينهما ما ذكره الخطابي وغيره وهو أن أحاديث رافع وجابر، وثابت مجملة تفسرها الأخبار التي وردت عن رافع نفسه، وعن غيره، فإن رافعا قد فسر حديثه في بعض طرقه بما لا يختلف في فساده فيحمل النهي المطلق على ذلك المقيد فمن ذلك قول رافع: "كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك". أخرجه البخاري ومسلم من طرق وقال جابر- -: "كنا نأخذ الأرض بالثلث والربع والماذيانات" رواه مسلم .
وعن حنظلة ابن قيس الأنصاري قال: "سألت رافعا عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: "لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بما على (الماذيانات وأقبال) الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس (كراء إلا هذا) فلذلك زجر عنه فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس (به) " رواه مسلم وأبو داود وعن رافع عن عمه ظهير قال سألني يعني النبي (ص)"كيف تصنعون بمحاقلكم؟ " قلت: "نؤاجرها يا رسول الله على الربيع" وفي رواية "على الربع والأوسق من التمر، أو الشعير" قال: "فلا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوا أرضكم" رواه البخاري ومسلم. قال الخطابي- بعد إيراده حديث حنظلة بن قيس-: "فقد أعلمك رافع نفسه في هذا الحديث أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطا فاسدة ويستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول فيكون خاصا بالمالك وقد يسلم ما على السواقي، ويهلك ساير الزرع فيبقى المزارع لاشيء له وهذا غرر، وخطر كما إذا اشترط رب المال على المضارب دراهم معلومة زيادة على حصته الربح المعلومة فهذا، وذاك سواء" قال: "وأصل المضاربة من السنة المزارعة، والمساقات فكيف يصح الفرع ويبطل الأصل".

وبعد ذلك ذكر ابن جماعة الحل إن لم ينفه حل التوفيق بين الروايات فقال:
"الرابع: أنه لو تعذر الجمع بين أحاديث خيبر، وأحاديث رافع وجابر (وامتنع التأويل) وتعين المصير إلى النسخ كان نسخ حديث رافع أولى من نسخ حديث خيبر لأن حديث خيبر قد عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حين موته وعمل به الخلفاء الراشدون، وعلماء الصحابة، والتابعين فاستحال لذلك نسخه قبل موت النبي(ص)وبعد موته فلا نسخ وإذا بطل نسخ حديث خيبر لما ذكرناه، ولم يكن بد من نسخ أحد الخبرين تعين نسخ خبر رافع واعلم أن بعض الأئمة قد أعلوا حديث رافع وإن كان صحيح النقل، ودفعوه بوجوه:
الأول: شدة اختلافه وكثرة اضطرابه قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله-: "وله القدح المعلى في إمامة الحديث والمعرفة غير مدافع, حديث رافع كثير الألوان"، وقال أيضا: "حديث رافع ضروب". قال الخطابي: "يريد اضطراب حديثه واختلاف الروايات عنه, فمرة يقول: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-, ومرة يقول: حدثني عمومتي عنه".
قال غير الخطابي: "ومرة يشعر حديثه بالنهي عن كراء الأرض مطلقا, ومرة يصرح بجوازه بالذهب والفضة، ومرة يشعر بالنهي عن المزارعة مطلقا، ومرة يصرح بالشروط المفسدة" . قال ابن المنذر: "قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك".
الثاني: أن فقيهين كبيرين من أكابر فقهاء الصحابة أنكرا على رافع: ابن عباس وزيد بن ثابت.
قال الخطابي: "وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأنه ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما يخرج منها وإنما أريد أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم ببعض فإن عمرو بن دينار لما ذكر حديث رافع لطاووس قال: "يا عمرو أخبرني أعلمهم- يعني ابن عباس- أن رسول الله (ص)لم ينه عنه ولكن قال: "لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ خراجا معلوما". رواه البخاري ومسلم قال الخطابي: "وقد ذكر زيد بن ثابت العلة والسبب الذي خرج عليه الكلام في ذلك وهو ما رواه عروة بن الزبير قال زيد بن ثابت: "يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه وإنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا فقال رسول الله (ص)"إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع" "فسمع قوله لا تكروا المزارع" . رواه أبو داود قال الخطابي:- بعدما سمى بعض من منع المزارعة -: "وإنما صار هؤلاء إلى ظاهر الحديث من رواية رافع ولم يقفوا على علته كما وقف عليها أحمد". وذكر أن ابن خزيمة صنف مسألة ذكر فيها علل أحاديث المزارعة.
الثالث: أن أحاديث رافع تضمنت ما لا يختلف في صحته وهو كراء المزارع مطلقا. وكراؤها بالذهب والفضة لا يعلم فيه خلاف إلا ما نقل عن الحسن. وتضمنت ما لا يختلف في فساده وهو المعاملة على ما على السواقي والجداول (وهذا الاختلاف والاضطراب يثبت وهنا كما قال أحمد) بخلاف أخبار خيبر فإنها جارية مجرى التواتر في الصحة والثبوت وعمل النبي (ص)بها والخلفاء الراشدون بعده."

وحاول ان يضع حلا اخر فقال :
الرابع: أن حديث رافع لا دلالة فيه على صريح المزارعة التي (فيها النزاع) وصححناها وورد في الكراء بثلث أو ربع فكان حمل حديثه الذي فيه المزارعة على الكراء كما ذكره أولى، لأن القصة واحدة رويت بألفاظ مختلفة يرد أحدهما إلى ما يوافق الآخر جمعا بين الروايات كما تقدم, فإن
قيل فيجوز حمل أحاديث خيبر على الأرض التي بين النخيل خاصة دون البيضاء (فتكون المزارعة فيها تبعا للمساقاة كما قال الشافعي رحمه الله) ويحمل حديث رافع وجابر على الأرض البيضاء (ويكون جمعا بين الحديثين أيضا، أو أنه ساقى قوما منهم وزارع آخرين بالشروط المجوزة للمزارعة) قلنا هذا ضعيف لوجوه:
الأول: أن خيبر كانت بلدا كبيرا يأتي منها أربعون ألف وسق أو أكثر، وخلو مثل هذا البلد عن أرض بيضاء منفردة بعيد وقد نقل الرواة معاملة خيبر على العموم من غير تفصيل فدل على أن حكم الأرض البيضاء وغيرها سواء.
الثاني: أن حمل حديث خيبر على هذه التأويلات تحكم ليس عليه دليل سوى الجمع بين الحديثين بخلاف ما ذكرناه من تأويل حديث رافع ورد بعضه إلى بعض فإنه ورد في طرقه ما يدل عليه ويفسره.
الثالث: أن ما ذكرناه من الإطلاق في كل الأراضي موافق لظاهر حديث خيبر، ولعمل الخلفاء الراشدين وغالب فقهاء الصحابة والتابعين، وكانوا أعلم بسنة رسول الله (ص)فكان الرجوع إليه أولى من الرجوع إلى تلك الاحتمالات.
قال الخطابي- لما رجح جواز المزارعة-: "وهي عمل المسلمين في بلاد الإسلام وأقطار الأرض شرقها وغربها لا أعلم أني رأيت أو سمعت أهل بلد أو صقع من نواحي الأرض التي يسكنها المسلمون يبطلون العمل بها".
وقال الماوردي في الحاوي - بعدما حكى المذاهب في المزارعة ومآخذها -: "ولما اقترن بدلايل الصحة عمل أهل الأمصار مع الضرورة الماسة إليها وكان ما عارضها محتملا أن يكون خارجا على ما فسره زيد بن ثابت وقاله ابن عباس كان صحة المخابرة أولى من فسادها مع شهادة الأصول لها في المساقات والمضاربة ولا خفاء فيما ذكره الخطابي والماوردي فإن القياس وشهادة الأصول المذكورة، والقواعد المصلحية تشهد للمزارعة بالصحة، فإن الأرض عين تنمى بالعمل عليها توجب أن تجوز المعاملة عليها ببعض نمائها كالدراهم في المضاربة، والشجر في المساقاة، ولأن الحاجة ماسة إليها جدا، لأن أصحاب الأرض قد لا يحسنون العمل أو لا يقدرون عليه والعمال قد لا يكون لهم أرض كما هو الغالب في أقطار الأرض فوجب أن تقتضي حكمة الشرع الرفق بالطائفتين وحصول المصلحة للجهتين بجواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة، فإن العلة في الجميع سواء بل الحاجة هنا أمس لضرورة الناس إلى القوت؛ ولأن الأرض لا تصلح لغير العمل عليها بخلاف المال والشجر وقد قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ولا يخفى أن القول بمنع المزارعة عسرا وحرجا, ومن كلام الشافعي "إذا
ضاق الشيء اتسع". وأي ضيق أشد على أرباب الأراضي من منع المزارعة والمخابرة. هذا كله في الأرض البيضاء التي لا شجر فيها.
أما الأرض التي بين الشجر فقد جوز المزارعة عليها كل من جوزها في الأرض البيضاء سواء أفردها بالعقد أو جمع بينها وبين المساقاة. واختلف في ذلك الذين منعوها في الأرض البيضاء فقال أبو حنيفة وزفر: "لا تجوز المزارعة عليها لا منفرد ولا مع المساقاة" وقال الشافعي: "يجوز ذلك بشرط اتحاد العامل وتعذر أفراد النخل بالسقي والأرض بالعمارة" واختلف في اشتراط اتحاد العقد وتساوى الحصة من التمر والزرع وعدم كثرة البياض وجواز كون البذر من العامل. وظاهر حديث خيبر حجة لمن جوزه مطلقا فإن قيل لعله ساقى في خيبر قوما وزارع آخرين بالشروط المجوزة، أو كانت الأرض المزارع عليها بين النخيل فجاز تبعا. قلنا: تقدم الجواب عن ذلك فإنه خلاف الظاهر وعمل الناس فلا يعول عليه من غير دليل فإن قيل: فهل لمن منع المزارعة طريق إلى أن يكون الزرع بينهما على وجه مشروع بحيث لا يرجع أحدهما
على الآخر بشيء؟ قلنا: نعم وتفصيل ذلك: أن البذر إما أن يكون منهما أو من أحدهما إما المالك أو العامل, فإن كان البذر بينهما فلهما ثلاث طرق:
أحدها: قاله الشافعي وهو أن يعير صاحب الأرض نصفها للعامل ويتبرع العامل بمنفعة بدنه وآلاته فيما يخص صاحب الأرض.
الثاني: عن المزني رحمه الله أن يكري صاحب الأرض (نصفها)
للعامل بدينار مثلا ثم يكتري العامل ليعمل على نصيبه بنفسه وآلاته بدينار ثم يتقاصان.
الثالث: وهو أحوطها أن يكري صاحب الأرض نصف أرضه للعامل بنصف منافع العامل ومنافع آلاته في تلك الزراعة.
وإن كان البذر من صاحب الأرض فله طرق:
أحدها: أن يعير العامل نصف الأرض ويستأجره بنصف البذر على العمل في النصف الآخر بنفسه وآلاته.
الثاني: أن يستأجره بنصف البذر ونصف منفعة الأرض على بذر النصف الآخر في نصف الأرض الآخر.
الثالث: أن يقرضه نصف البذر ويكريه نصف الأرض بنصف عمله وعمل آلاته فلا يبقى عليه إلا رد القرض خاصة.
وإن كان البذر من العامل فله طرق:
الأول: أن يكتري نصف الأرض بمنافعه ومنافع آلاته، ويقرض صاحب الملك نصف البذر.
الثاني: أن يكتري نصف الأرض بنصف البذر ونصف عمله ومنافع آلاته في النصف الآخر.
الثالث: أن يكتري العامل نصف الأرض بنصف البذر وبتبرع بعمله ومنافع آلاته في النصف الآخر.
والطريق الأوسط أحوط والله تعالى أعلم. واختلف العلماء في إجارة الأرضين, فنقل عن الحسن أنه منعها فلا تجوز عنده بحال. وقال الشافعي وأبو حنيفة: "تجوز مطلقا بالذهب والفضة والطعام وغير ذلك من سائر الأعيان والمنافع". وقال مالك: "تجوز بالذهب والفضة وغيرهما من الأعيان إلا الحنطة والشعير وما ينبت فيها" واحتج المانعون مطلقا بإطلاق حديث ابن عمر عن رافع" واحتج المجوزون مطلقا بحديث حنظلة بن قيس عن رافع وبالقياس. واحتج مالك بحديث رافع عن عمومته وقد تقدم جميع ذلك."

مما سبق يتبين أن الفقهاء حاولوا أن يجدوا حلا لتناقضات الروايات التى يبدو أن كلها موضوعة لأنها تخالف القرآن فى كون الأرض فى دولة المسلمين كلها ملك مشترك للمسلمين لا يملك أحدهم شىء فيها لوحده كما قال تعالى :
"ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون"
ومن ثم فثمرة الأرض يقتسمها المسلمون ومن يسكنون معهم من المعاهدين الكفار بينهم بالعدل كما يقتسمون كل أقوات الأرض بالعدل كما قال تعالى :
"وقدر فيها أقواتها فى أربعة ايام سواء للسائلين"
ومن ثم فلا مؤاجرة ولا مزارعة ولا مخابرة وإن كان هذا جائز الوقوع قبل قيام دولة المسلمين فى المدينة لأن الأنصار اقتسموا الأرض والدور مع المهاجرين كما قال تعالى :
"والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"