المرأة بين التحرير والتغرير
المراْه بين التحرير والتغرير msword.gif
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وبعد ،
لقد أخذت قضية تحرير المرأة حيزاً مهماً من تفكير الناس في العصر الحالي حتى عُقدت من أجل هذه القضية المؤتمرات والندوات التي تطالب برفع الظلم عن المرأة وإعطائها حقوقها التي حرمتها منها الأديان والأعراف والتقاليد .

وقد استفحل هذا الأمر حتى خرج عن إطار اللهو والتسلية لبعض النساء الفارغات عن أي عمل لتنعكس آثاره الخطيرة على المرأة بالدرجة الأولى ، وإذا كنَّا في لحظة من اللحظات أُعجبنا بامرأة شابة تعمل شرطية على الطريق أو جندية تحمل السلاح ووجدنا في هذا الأمر قوة إرادة وتحدٍّ عند من فعلن هذا ، فإن الأمر خرج عن إطار التسلية عندما أصبحنا نرى امرأة أخرى عجوزاً تبحث في القمامة أو تجوب الشوارع تجر عربتها الثقيلة لتؤمن رغيف خبزها .

إن الأمر ، لم يعد لعبة ومزحة تتسلى بها الفتاة التي تخرجت من الجامعة لتثبت للناس أنه لا فرق بينها وبين الرجل في الذكاء والعطاء فتنافس الرجل في وظيفة وتتساوى معه في أجر أو حتى تسلبه وظيفة بأجر أقل لتنفق ما تقبضه على الزينة والتبرج والترف بينما يكون الرجل الذي نافسته مسؤولاً عن أسرة ، أو على الأقل يسعى لبناء أسرة .

إن العمل بالنسبة للفتاة يبقى في إطار تمضية الوقت وإثبات الذات فترة طويلة من الزمن ، حتى تصبح ذات يوم فتجد أن الوظيفة التي كانت تتسلى بها أصبحت تأخذ منها كل وقتها (من الفجر إلى النجر ) فلا حياة اجتماعية ولا أصدقاء ولا فرصة حتى للتعرف على فتى الأحلام ، فهي تعود من العمل متعبة فتنام كالقتيل ، هذا الأمر لم يعد يرضي أحداً ! كيف ستمضي بقية عمرها ! وكيف ستتعرف على فتى أحلامها الآتي على حصان أبيض ! الأمر قد يطول على هذه الحالة ! ولكن لا بديل آخر ، فهي لا تستطيع أن تترك العمل وقد اعتادت أن تجد المال بين يديها ولا تستطيع أيضاً أن تعيش الفراغ في المنزل تنتظر فارس الأحلام الذي قد يتأخر في المجيء أو حتى لا يجيء ! أما إذا جاء فانه يجيء بشروط ، ففيما كان هو الذي يأتي على حصان أبيض لينقذ المرأة من وضعها الأسري، اختلف الوضع اليوم فأصبحت المرأة هي التي تأتي على حصان أبيض لتقدم للرجل حلولاً لمشاكله المادية ، فيعملان معاً ( من الفجر إلى النجر ) لكي يصبح العمل بالنسبة للمرأة واجباً وليس تطوعاً .
ما ورد كان نموذجاً عن وضع من أوضاع المرأة المتحررة اليوم ، ذكرتها كمقدمة للحديث عن قضية تحرير المرأة .

أصل القضية
بدأت القضية مع المرأة الغربية ، وهذا لا يعني أن المرأة المسلمة لم تكن تعاني من المشاكل والهموم ، فلو كان هذا الأمر صحيحاً لما وجد هؤلاء الغربيون ثغرة يدخلون بها إلى مجتمعاتنا، ولكن الفرق بين الشرق والغرب شاسع ، ذلك أن المرأة في العالم الإسلامي لم يكن لها قضية خاصة إنما كانت القضية الحقيقية هي تخلف المجتمع وانحرافه عن حقيقة الإسلام ،" وما نتج عن هذا التخلف في جميع مجالات الحياة ، وما تحقير المرأة وإهانتها وعدم إعطائها وصفها الإنساني الكريم إلا مجال من المجالات التي وقع فيها التخلف عن الصورة الحقيقة للإسلام " .
إن الصورة الحقيقية للإسلام ممكن أن تُقرأ واضحة في كتب السِّيَر والتاريخ الإسلامي التي ذكرت كيف كان للمرأة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كيان مستقل عن الرجل تطالب بحقها الذي أعطاها إياه الإسلام بكل جرأة ، فها هي تقف في وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه تطالب بحقها في صلاة الجماعة في المسجد كما فعلت عاتكة بن زيد ، وها هي تمارس حقها بإدارة أموالها بمعزل عن زوجها كما فعلت ميمونة أم المؤمنين بجاريتها دون علم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكما فعلت أم سليم بنت ملحان التي أهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرسه هدية باسمها لا باسم زوجها ، فقالت : " يا أنس ، اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي ، وهي تقرؤك السلام وتقول : إنّ هذا منّا قليل يا رسول الله " .
هذا في الإسلام أما في الغرب فإنه كان للمرأة بالفعل قضية ومعاناة ، إذ أنها كانت " في اعتقاد وعقيدة الأوروبيين حتى مئتي سنة مطيّة الشيطان، وهي العقرب الذي لا يتردد قط عن لدغ أي إنسان ، وهي الأفعى التي تنفث السم الرعاف ... في أوروبا ( أيتها الأخوات ) انعقد مؤتمر في فرنسة عام 568م ، أي أيام شباب النبي صلى الله عليه وسلم ، للبحث هل تعدّ المرأة إنساناً أم غير إنسان ؟ وأخيراً قرروا : إنها إنسان خلقت لخدمة الرجل فحسب !
والقانون الإنكليزي حتى عام 1805 م كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته بستة بنسات فقط، حتى الثورة الفرنسية التي أعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة لم تشمل المرأة بحنوِّها ، والقاصرون في عرفها : الصبي والمجنون والمرأة ، واستمر ذلك حتى عام 1938 م ، حيث عُدِّ لت هذه النصوص لصالح المرأة " .
إن أصل القضية في الغرب يعود لاحتقار الكنيسة النصرانية للمرأة احتقاراً جعل رجالها يبحثون إذا كان ممكناً أن يكون للمرأة روح ، وهذا ما حصل " في مؤتمر " ماكون Macon " وما شفع بالمرأة آنذاك هو كون مريم أم يسوع امرأة ولا يجوز أن تكون أم يسوع بلا روح " .
إن أصل القضية إذاً بدأ من الديانة النصرانية حيث أساءت الكنيسة كمؤسسة في فهم الدين المسيحي في روحيته وأخذت تطبقه وفقاً لذهنية القائمين عليها ، ومن هؤلاء القديس بولس الذي قال : إن المرأة خُلقت للرجل، والقديس توما الأكويني الذي ذهب إلى أبعد من ذلك إذ صنّف المرأة بعد العبيد .
ولقد استمرت الكنيسة النصرانية في تغيير التعاليم الدينية وَفْقاً للمفاهيم والاعتبارات السائدة في البلدان التي كانت تريد السيطرة عليها فقدّست " مفهوم الأمومة مثلاً عندما أرادت السيطرة على الحضارة اليونانية ، وألغت هذا التقديس عندما انتقلت إلى السيطرة على الحضارة الجرمانية ، واستبدلته بالاعتبارات المعمول بها في هذه الحضارة حيث كان التقديس للملكية الخاصة ولاعتبار المرأة ملك الرجل وفي مصاف القاصرين " .
من هنا يمكن أن نستشف أن الفرق بين المرأة الغربية والمرأة المسلمة يعود إلى الجذور ، ومن هنا عدم صحة إسقاط الحلول الغربية على الوضع الإسلامي ، فالوضع بين الحضارتين مختلف ، والمرأة هنا غير المرأة هناك ،وقد أكدت الراهبة "كارين أرمسترونغ "هذا الاختلاف بين ماضي المرأتين بما يلي: " إن رجال الغرب النصراني حين حبسوا نساءهم ومنعوهم من مخالطة الرجال ووضعوهن في غرف منعزلة في جوف البيوت إنما فعلوا ذلك لأنهم يكرهونهن ويخافونهن ولا يأمنون لهن وَيَرَوْنَ الخطيئة والغواية كامنة فيهن ، فهم يخرجوهن من الحياة بهذا الحبس إلى خارجها أو هامشها ، بينما حجز المسلمون نساءهم في البيوت ولم يخرجوهن إلى الشوارع تقديراً لهن ولأنهم يعتبرون زوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم حَرَماً خاصاً وذاتاً مصونة وجواهر مقدسة يصونونهن ويحملون عنهن عبء الامتهان في الأسواق والطرق " .
إن هذا الاختلاف لم يفهمه دعاة التحرر الذين حاولوا إسقاط حلول المجتمع الغربي على المجتمع الإسلامي ، فلم يفهموا حرص الرجل على زوجته وحمايته لها بل اعتبروا أن حجاب المرأة وعدم اختلاطها بالرجل يعود إلى عدم ثقة الرجل بالمرأة وخوفه منها ، الأمر الذي جعلهم يرون أن المرأة مظلومة قد ظلمها الرجل عندما فرض عليها الحجاب وحرمها من إنسانيتها وقد تناسوا أنه " لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع المرأة قضيتها ضده لتتخلص من الظلم الذي أوقعه عليها ، كما كان وضع القضية في أوروبا بين المرأة والرجل ، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك إن كانت مؤمنة أن تجادله سبحانه فيما أمر به ، ويكونَ لها الخِيَرَةُ من الأمر " .

تطور القضية
ساعدت الثورة العلمية التي حصلت في أوائل القرن الماضي الإنسان بشكل عام والمرأة بشكل خاص على المطالبة بالتحرر من الظلم الذي وقع عليها من الكنيسة ، حيث كان لاستعانة الثورة الصناعية بالنساء من أجل التحرر من مطالب الرجال المالية دور مهم في خروج المرأة من قمقمها وسعيها لتغيير واقعها المعاش ، فلم تجد عدواً تواجهه وتعتبره سبباً مباشراً لمعاناتها إلا الكنيسة التي كانت تحمي الرجال وتحثهم على ظلم النساء ، مما جعل عدو النساء الأول هو الدين ، فالمرأة هي التي " تدفع ضريبة الانتماء الديني في هذا الواقع وتتحمل مآسيه أكثر من الرجل" . ومن هنا جاءت ضرورة نبذ الدين وتأييد النظريات العلمانية الحديثة التي تعتبر أن " الدين هو أفيون الشعوب"، وأن السبيل للنهوض بالأمم يكون بفصل الدين عن الدولة ، هذا الأمر الذي دعا إليه المسيح عليه السلام نفسه عندما قال : " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " .
فالعلمنة إذاً هي نبذ الدين و " إحلال العلم ، في نموذجه الطبيعي ، محل النص والإله في تفسير كل ما يختص ويتصل بالإنسان " ، وقد بالغ كثير من العلماء في تقديس العلم إلى حد أَن اعتبروه ديناً جديداً ، فقال أحدهم : " العلم الحديث هو إنجيل الحضارة الحديثة " ، وقال آخر : "العلم الصحيح ، أي العلم الاختياري ، دين أيضاً" .
وهكذا وجاءت نظرية التطور لـ " دارون " لتقول أن أصل الإنسان قرد تطور مع الزمن إلى أن وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن ، لتعتمد على إيحاءين خطيرين كان لهما أثر في نصر نظرية المرأة الغربية الداعية إلى نبذ الدين ، وهذان الإيحاءان هما :
1- الإيحاء بالتطور الدائم الذي يلغي فكرة الثبات .
2- الإيحاء بحيوانية الإنسان وماديته وإرجاعه إلى الأصل الحيواني وإغفال الجانب الروحي إغفالاً تاماً .