في معنى الشاهد

دلائل القدرة القاهرة علي انوار الولاية الباهرة


من خلال قول المولى«عليه السلام» :

فَرسول الله«صلّى الله عليه وآله» عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ، وَأَنَا الْشَّاهِدُ مِنْهُ أَتْلُوْهُ.


قال المولى أمير المؤمنين صلوات الله عليه:

وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسْمَةَ، لَوْ كُسِرَتْ لِيَ وِسَادَةٌ فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا لَحَكَمْتُ بَيْنَ أَهْلِ التَوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِم وَبَيْنَ أَهْلِ الإِنْجِيلِ بإنْجِيِلهِم، وَبَيْنَ أَهْلِ الزَّبُورِ بِزَبُورِهِم، وَبَيْنَ أَهْلِ الْفُرْقَانِ بِفُرْقَانِهِم. وَالَّذِيْ فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسْمَةَ مَا مِنْ رَجُل مِنْ قُرَيْش جَرَتْ عَلَيْهِ المَوَاسِي إِلاّ وَأَنَا أَعْرِفُ لَهُ آيَةً تَسُوْقُهُ إلى جَنَّة أَوْإلى نَار... ثُمَّ قال صلوات الله عليه: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْ رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ) فَرَسُولُ اللهِ«صلى الله عليه وآله» عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وأَنَا الشَّاهدُ مِنْهُ أَتْلُوْهُ(

إعلم، هداك الله إلى حقّ اليقين، وجعلك من المتقين ، ودوّن اسمك في زمرة الصادقين محمّد وآله صلوات الله عليهم أجمعين، إنّ الدلائل والآيات الربّانية على أنوار وأسرار الولاية العلويّة مما يعجز عن ذكرها اللسان، ويكلّ عن معرفتها الجنان. وهل يُعرف أو يوصف أو يعلم أو يفهم أو يدرك أو يملك شأن من هو نقطة الكائنات وقطب الدائرات وسرّ الممكنات؟!

لا وألف لا! فكلامنا إذن، من باب التقريب والإشارة لفضائل ومناقب وحقيقة المولى صلوات الله عليه، لا من باب الإحاطة والمعرفة التامّة، وكلّ ما نقل يحمل على ذلك.

روى الطبرسي«رحمه الله» بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي«رحمه الله» أنّه قال: سأل رجل عليّ بن أبي طالب«عليه السلام» فقال ـ وأنا أسمع: أخبرني بأفضل منقبة لك؟

قال: ما أنزل الله في كتابه.

قال: وما أنزل الله فيك؟ قال: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِّنْ رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ) أنا الشاهد من رسول الله«صلى الله عليه وآله» وقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)( إيّاي عنى بمن عنده علم الكتاب، فلم يدع شيئاً أنزله الله فيه إلاّ ذكره... .

تمعّن جيداً في مدلول هذه الآية الشريفة، وكيف أنّ الله عزّ شأنه يأمر رسوله الكريم«صلى الله عليه وآله» بهذه الآية أن يقول للكافرين، بأنّ الله تعالى وعليّ بن أبي طالب«عليه السلام» هو الشهيد بيني وبينكم، أُنظر كيف قرن الله تعالى اسمه الشريف باسم وليّ الله المطلق في هذه الآية المباركة_ مع حفظ المقام فالله خالق والإمام عليّ مخلوق_ وهذا سرّ الأسرار وغاية الأنوار، وكشف الحجاب عن سرّ هذه الآية المباركة يحتاج إلى مسيرة طويلة، نعرج فيها إلى هدايته، وإلى نقطته، وإلى سرّه، وإلى ملكوته من خلال هذه الآية، فهي رحلة عروجية بالأرواح والعقول والأفئدة الّتي مالت إلى السرّ، وعرفت أنّ النقطة هي السرّ، وتنحصر المعرفة التامّة بمعرفة النقطة، وأنّها هي المعلَم الذى بدأ به التكوين ويختتم به، كيف ؟

هذا ما نريد برهانه وبيانه، فإنّ القرآن قد تصدّى لذلك، بقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) .

لاحظوا أوّلاً قوله تعالى «قل» نداء الله، وخطاب السماء للمصطفى عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وماذا بعد «قل» وماذا يوجد من أسرار هناك؟

هذا الّذي سنتوصّل إليه، ونتمتّع بزاد الهداية، ونعمة الولاية إن شاء الله، قال تعالى: (...وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج...) عندما ينزل الماء إلى الأرض الجرز فإنّ الأرض تهتز وينبت فيها ما ينبت، والقلب أفضل ما ينبت فيه أسرارهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فعندما يعبر القرآن الكريم بكلمة «كفى» فبأيّ شيء يكتفي الخلق ؟

يكتفي بمن عنده علم الكتاب. الكفاية والهداية كلّها في أسرار صاحب الولاية«عليه السلام» الكفاية حينما يقف الإنسان عند تلكم النقطة.

قال خاتم الأنبياء«صلى الله عليه وآله» في ولاية المولى صلوات الله عليه_ كما تقدّم_ لو لم اُبلّغ ولايته، ولم أقرّ له بالولاية لحبط عنّي عملي! عمل المصطفى«صلى الله عليه وآله» لا يوازن به عمل، فكلّ شيء لا يمكن أن يساوي آهة من آهات المصطفى، ولا تكبيرة من تكبيراته، ولا ركعة من ركعاته«صلى الله عليه وآله» كيف وقد نزل القرآن في بيان عظمته حيث قال: (طه مَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى) ذلك أنّه قد تورّمت قدماه من القيام والوقوف بين يدي الله، كان لا ينام ليله، كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، على الرغم من كلّ هذا كان يقول: كلّ ما عندي وكلّ أعمالي _الّتي هي فوق أعمال الخلق جميعاً من أنبياء مرسلين وملائكة مقربين وغيرهم_ متوقّفة على ولاية عليّ بن أبي طالب«عليه السلام» والإقرار له، والقرينة على ذلك قوله تعالى: (وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...).

هذه آيات قرآنية وليست كلمات جرائد، عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبّك نصيباً، ومن لا نصيب ولا حظّ له في القرآن فما له من نصيب، ولا حظّ له في الحياة أبداً، وما ينالها إلاّ ذو حظّ عظيم.

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...). فرسالة الله، وكلّ ما فيها من أسرار، وكلّ ما فيها من أخبار، وكلّ ما فيها من مضامين، كلّها لم تبلّغ، ولم تكن شيئاً إلاّ بإبلاغ ولاية عليّ«عليه السلام».

المولى صلوات الله عليه، يقول: «أنا النقطة تحت الباء

وبالنقطة ظهر العابد من المعبود، وامتاز كلّ شيء بالنقطة، والنقطة هي الولاية، والولاية بانت منزلتها في قوله جلّ جلاله:

(وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.. وقال تعالى في آية اُخرى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) فالّذي عنده علم الكتاب، هو الّذي يشهد شهادته مع شهادة الله، هذه الكلمة كم يراد لها من تعقّل وتأمّل؟ هذه الكلمة فيها معنى عميق، ذلك أنّ الله عزَّ وجلَّ أتى بمن عنده علم الكتاب شاهداً معه؟ فالشهادة المراد بها البرهان القاطع، والنور الساطع على إثبات نبوّة محمّد بن عبد الله«صلى الله عليه وآله» الشهادة هي البرهان، والبرهان يساوق آيات القرآن، والقرآن في حقيقته وجوهره بيان مراتب الولاية، وهو مرآة انعكست فيها تلكم الصفات العلويّة، وتلكم الحقائق النورانية للمولى أمير المؤمنين«عليه السلام».

فالله عزّ شأنه عندما يقرن في القرآن المجيد شهادته بشهادة وليّ الله المطلق فكيف تكون تلك الشهادة؟ الله تعالى شهادته بلا إشكال قطعيّة وليست ظنيّة، وبالتالي فإنّ من عنده علم الكتاب شهادته قطعيّة أيضاً; لأنّه حاشا لله! أن يضمّ إلى جنب القطع الظن، وإنّما هي قطع في قطع، ويقين في يقين.

فإذا كانت شهادته يقين، فماذا تعتبر مسألة الخلافة والولاية وما أشبه؟

هذه كلّها مظاهر، وأمّا حقيقة المولى عليّ بن أبي طالب«عليه السلام» فهي فوق كلّ هذه المراتب، فوق كلّ هذه الحقائق والكلمات، وحقّاً ما نطق به المولى، صلوات الله عليه: «والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم»

لم يقل المولى«عليه السلام» شيئاً زائداً على القرآن، وإنّما كلّ ما قاله فهو من القرآن، ومبرهن عليه منه، فالذي عنده علم الكتاب ينبغي أن يكون عارفاً بالتوراة والإنجيل والزبور، والصحف والكتب، وما كان وما يكون وما هو كائن فعلا. حتّى تكون شهادته كشهادة الله، وحتّى يكون قوله كقول الله عزَّ وجلَّ، قطع في قطع، لو كان عنده أدنى زلّة ما يمكن أن يتّخذه الله شهيداً.

إذن، شهادته صلوات الله عليه، قولاً وفعلاً مطابقة للواقع، وأمّا أفعاله فإقامة المعجزات في عوالم التكوين والتشريع، فكلّ ما يريده أمير المؤمنين«عليه السلام» يتحقق،وهنا نضرب الأمثال للتقريب و ليس للتحديد، ونستغفر عن تحديد مقامات أمير المؤمنين«عليه السلام»; لأن الّذي يحدّه أنزله عن المرتبة الّتي رتّبه الله فيها، وهذا خروج عن الدين.

روي أنّ أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: مررت بعمّار بن ياسر، وقد لازمه بعض اليهود في ثلاثين درهماً كانت له عليه، فقال عمّار: يا أخا رسول الله«صلى الله عليه وآله» هذا يلزمني ولايريد إلاّ أذاي وإذلالي لمحبّتي لكم أهل البيت، فخلصني منه بجاهك.

فأردت أن اُكلّم له اليهوديّ، فقال: ياأخا رسول الله، أنا اُجلّك في قلبي وعيني من أن أبذلك لهذا الكافر، ولكن إشفع لي إلى من لا يردك عن طلبة، فلو أردت جميع جوانب العالم أن يصيرّها كأطراف السفرة لفعل، فاسأله أن يعينني على أداء دينه، ويغنيني عن الاستدانة. فقلت: اللّهم! إفعل ذلك به، ثمّ قلت له: إضرب إلى ما بين يديك من شيء حجر أو مدر، فإنّ الله يقلّبه لك ذهبا ابريزاً. فضرب يده، فتناول حجراً فيه أمنان، فتحوّل في يده ذهباً، ثمّ أقبل على اليهودي، فقال: وكم دينك؟ قال: ثلاثون درهماً. قال: فكم قيمتها من الذهب؟ قال: ثلاثة دنانير. فقال عمّار: اللّهمّ! بجاه من بجاهه قلّبت هذا الحجر ذهبا، ليّن لي هذا الذهب لأفصل قدر حقّه. فألانه الله عزّ وجلّ له، ففصل ثلاثة مثاقيل وأعطاه، ثمّ جعل ينظر إليه، وقال: اللّهمّ! إنّي سمعتك تقول: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى)([13]) ولا اُريد غنىً يطغيني، اللّهمّ! فأعد هذا الذهب حجراً بجاه من بجاهه جعلته ذهباً بعد أن كان حجراً فعاد حجراً، فرماه من يده، وقال: حسبي من الدنيا والآخرة موالاتي لك يا أخا رسول الله(

لو يتأمّل الإنسان في كتاب الله، وفي خطبة المولى الروحيّة، أو التطنجية، أو الكاهلية، أو الافتخارية، أو النورانية، لما قضى عجباً، ولقال، هذا أدون مراتبه.

روى الحضرمي _وهو من علماء العامّة_ حكاية، عن ميمون بن مهران رضي الله عنه، قال: كان بالكوفة رجل يكنى أبا جعفر، كان حسن المعاملة، وكان إذا أتاه أحد من العلوية يطلب ما عنده لا يمنعه، فإن كان معه ثمنه أخذه وإلاّ قال لغلامه: اكتب ثمن ما أخذه على عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فعاش كذلك زماناً، ثمّ افتقر وجلس في بيته، وكان ينظر إلى دفتره، فان وجد فيهم حيّاً بعث من يقبضه منه، وان وجد ميّتاً ضرب على اسمه. فبينما هو ذات يوم جالس على باب داره ينظر في ذلك الدفتر، إذ مرّ به رجل، فقال له: _كالمستهزىء به_ ما فعل غريمك الكبير؟ يعني عليّاً رضي الله عنه، فاغتمّ الرجل لذلك ودخل منزله.

فلما كان الليل رأى النبي«صلى الله عليه وآله» وكأنّ الحسن والحسين يمشيان بين يديه، فقال لهما: ما فعل أبوكما، فأجابه عليّ كرم الله وجهه من ورائه، فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال: مالك لا تدفع إلى هذا الرجل حقّه، فقال: يا رسول الله، هذا حقّه قد جئت به. قال فأعطه. قال: فناولني كيساً من صوف، وقال هذا حقّك. فقال لي رسول الله«صلى الله عليه وآله»: خذه ولا تمنع من جاءك من ولده يطلب ما عندك، فامض لا فقر عليك بعد اليوم. قال: فانتبهت والكيس بيدي، فناديت امرأتي: أنائم أنا أم يقظان؟ فقالت: بل يقظان. قال: فاسرجت فناولتها الكيس، فإذا فيه ألف دينار. فقالت: يا رجل، اتق الله! لا يكون الفقر حملك على أن خدعت بعض هؤلاء التجار، فأخذت ماله. قلت: لا والله، ولكن القصّة كيت وكيت. قالت: فان كنت صادقاً فاُنظر في حساب عليّ بن أبي طالب، فدعا بالدفتر فلم يجد به لا قليلاً ولا كثيراً من ما كتب على عليّ بن أبي طالب ( .

و هذا عين الحقيقة، لأنّه وجه الله، ونور الله...، آتاه الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، هل يعجز الله، وهو الخالق العظيم أن يعطي الكون عليّاًوآل عليّ صلوات الله عليهم؟

قال تعالى: (لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ)

وقال جلّ جلاله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)

فالحقيقة هي أن تسلّم أن سرّ التكوين، وسرّ التدوين منطو في المولى أمير المؤمنين«عليه السلام».

جعلنا الله تعالى من المسلّمين لهذه الحقيقة ومن العاملين بها بحقّ محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.