آل طيار اسرة وائلية
11-03-2011 08:33
بقلم نايف الفقير


من المعلوم ان قبائل البادية تتوارث النسب بالشيوع والاستفاضة بالتواتر وليس بالنسب أباً عن أب ، عرف ذلك كل النسابين عبر التاريخ ، قال ابن حزم في الجمهرة :
( جميع العرب يرجعون إلى ولد ثلاث رجال: وهم عدنان، وقحطان، وقضاعة. فعدنان من ولد إسماعيل بلا شك في ذلك، إلا أن تسمية الآباء بينه وبين إسماعيل قد جهلت جملة وتكلم في ذلك قوم بما لا يصح؛ فلم نتعرض لذكر ما لا يقين فيه)
وماينطبق على عدنان ينطبق على كل قبائل العرب من عقبه ومنها قبيلة عنزة ، والفائض والمتواتر لدى قبيلة عنزة ان الطيايرة الاسرة المعروفة (والنسبة لهم الطيار) هم من المشادقة من ضنا ذري من ولدعلي من ضنا مسلم من عنزة الوائلية ، ولم يقل احد غير هذا ، والطيايرة كعائلة تصدرت الزعامة في هذه القبيلة لايوجد مايشير الى نسبتها لغير عنزة من القبائل الاخرى سواء بني جعفر الطيار او غيره ، قال كنعان الطيار في أحد أشعاره :
يقول الوائلي قيل وكاديمعاني مالها شي يشادي
فهو يعني نفسه عندما قال ( الوائلي) كغيره من عظماء القبيلة عبر تاريخها الطويل ونتحدى من ياتي بأشارة من قدماء الطيايرة تؤكد انتسابهم لغير المشهور عنهم ، فليس الانتساب لغير عنزة وارد في تاريخ هذه الاسرة حتى جاء عصرنا الحالي لنجد من يقول ان الطيايرة هم من عقب جعفر بن علي ابن ابي طالب والملقب بالطيار ، وقد كان ذلك على سبيل روايات شعبية اثيرت منذ سنوات بسيطة واذ بها تتحول الى حقيقة في كتاب عبد الله العبار .

حقيقة : النسبة لبني جعفر الطيار هي جعفري وليس الطيار

واقول : في فيما قال ابن عبار خطأ كبير فالنسبة الى اولاد جعفر الطيار هي ( جعفري ) وليس ( الطيار ) قال السمعاني في الانساب:
"الجعفري: بفتح الجيم وسكون العين المهملة وفتح الفاء وفي آخرها الراء، هذه النسبة إلى رجلين أولهما جعفر بن أبي طالب الطيار رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم"
وقال السمعاني ايضاً عن لقب الطيار:
"الطَّيَّار: بفتح الطاء المهملة، وتشديد الياء المنقوطة بنقطتين تحتها، وفي آخرها الراء.هذه الكلمة لقب جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب الطيَّار رضي الله عنه، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قُطع يداه يوم مؤتة وأخذ اللواء بعضديه: "لقد أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة فسمي الطَّيار". انتهى كلام السمعاني .

وهذا يكفي لرد القول لمن يزعم ان تسمية الطيار بهذا الاسم اتت من لقب جعفر الطيار لأنهم اصلا لم يعرفوا بآل الطيار كما المح ابن عبار في كتابه ، بل عرفوا بالجعافرة (والنسبة اليهم جعفري) وهم أقدم بكثير من اسرة الطيار المعروفة في قبيلة عنزة التي ذكرت في نجد لأول مرة في القرن التاسع الهجري وخاصة ان علمنا ان بني جعفر قبيلة كبيرة بمقابل اسرة الطيار الوائلية ، .
فقبيلة عنزة وقبائل وربيعة هي قبيلة مواطنها القديمة اليمامة الى اعالي نجد قد ولم تمتد غرباً حتى تتاخم المدينة المنورة الا بعد القرن السادس الهجري ، وليس في التاريخ مايشير الى علاقة خاصة لقبيلة عنزة في صدر الاسلام مع بني جعفر وغيرهم الا ماذكر عن وفود ربيعة وقبائلها الى الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل كان امتدادها شمالا وشرقاً نحو اقاليم البحرين والعراق ، وهي العلاقة التي على الرغم من بساطتها بالغ فيها ابن عبار حتى جعلها التحام أبدي بين بني جعفروعنزة !

أخطاء في التاريخ

ولم يكتفي العبار سلمه الله في تضخيم هذه العلاقة ، بل قام بتخطئة المؤرخين والنقل منهم بخلاف ماكتبوا ونسب ماكتبه اليهم فقط لتاكيد ماهو مشتبه ، حيث نقل نصاً طويلاً في الصفحة 47 عن المجلة العربية يتحدث عن حملة بغا الكبير على المدينة هي حملة وجهها الخليفة العباسي الواثق في سنة 231 هـ لقتال الاعراب الذين ثاروا على الجعفريين بسبب معاملتهم القاسية للاعراب من بني سليم وهلال وفزارة وغيرهم واشترك مع بغا من بني جعفر عميدهم في ذلك الوقت المدعو محمد بن يوسف الجعفري الذي طلب معونة الخلفاء العباسيين ضد قبائل سليم وبني هلال .
علق ابن عبار على هذه الاحداث قائلاً في صفحة 48:
" ولنا وقفة تصحيح لمعلومات الكاتب سلمه الله وهو ان من طلب النجدة من الخلافة العباسية هو محمد بن صالح العباسي " أ.ه
وأنكر عبد الله العبار ان يكون محمد بن يوسف الجعفري قد اشترك في حملة بغا على المدينة المنورة وزعم انه قد يكون محمد بن يوسف بن ابراهيم العلوي . ولست اعلم لماذا انكره وعلاقة محمد بن يوسف الجعفري بالقائد بغا مشهورة عند المؤرخين ومنهم الطبري حيث قال في حوادث سنة 231ه :
"وفي هذه السنة سارالى بغا من بطون غطفان وفزارة واشجع جماعة وكان وجه اليهم والى بني ثعلبة فلما صاروا اليه فيمن ذكر أمر محمد بن يوسف الجعفري فاستحلفه الايمان المؤكدة ان لايتخلفوا عنه" أ.ه ( تاريخ الرسل والموك للعلامة الطبري المتوفى سنة 310هـ)
ولم تكن تلك الحملة الوحيدة التي اشترك فيها محمد بن يوسف للفتك بالأعراب فقد أورد الطبري أيضاً في حوادث سنة 232ه مايؤكد ان محمد بن يوسف رافق بغا التركي للفتك ببني النمير وكان محمد بن يوسف الجعفري دليلاً لهم في مضيهم نحو اليمامة ، فلاصحة اذن لما قاله ابن عبار من أن محمد بن يوسف الجعفري لم يشترك في تلك الحملة على الاعراب حول المدينة.
وهذا يهون عندما نرى عبد الله العبار وبكل سهولة يغير اسم ( محمد بن يوسف الجعفري ) الى الاسم الذي يراه مناسبا وهو ( محمد بن يوسف الطيار ) ثم ينسب هذا الى كتاب الطبري وكتب المؤرخين الذين اوردوه باسم الجعفري !!!!
وعموما نفهم - من كلام الطبري طبعاً - ان الجعفريين لم يكونوا على وئام مع اعراب المدينة من بني سليم وغيرهم كما قال ابن عبار حيث يحاول ان يرسم لهم صورة حسنة في علاقتهم مع البدو . الامرالذي تطلب تدخل السلطة العباسية بد ان طلب منهم محمد بن يوسف وارسالها لحملة بقيادة بغا التركي المذكور ، وليس هناك مايدل على ان لقبيلة عنزة او ربيعة كلها دور في تلك الاحداث أو حتى مجرد اشارة لعلاقتها مع الجعفرييين عند المؤرخين القدامى المعاصرين لتلك الاحداث وعلى رأسهم الطبري .
بمعنى واضح ابن عبار ينفي حقيقة تاريخية ثبتها المؤرخون ، لأثبات ان محمد بن يوسف الجعفري لم يكن مع حملة بغا التركي ، ومراده اثبات صلة المذكور بالبادية التي سيثبت لنا بالدليل ان قبيلة عنزة لم يكن لها دور أو وجود حقيقي فيها.
الجعفريين وجلائهم لمصر وعلاقاتهم مع قبيلة عنزة


قال ابن عبار:
"اما عن جلاء قبيلة عنزة واسرة الطيار الى صعيد مصر فيكفي ان يعلم القاريء الكريم ان قبائل عنزة واسرة الطيار لايزال تواجدها متواصلاً في الحجاز ونجد وشمال الجزيرة العربية"
واقول : لادخل لعنزة بنزوح الجعافرة الى مصر بعد صراعاتهم مع بني عمومتهم العلويين ، ولم يذكر أي مصدرأن هناك عناصر من عنزة نزحت مع الجعفريين ولو صح ذلك فان من نزح من عنزة هي عناصر فردية لا بطون وعشائر ومن المؤكد جداً ذوابنهم في مصر مع غيرهم من أعراب غطفان وفزارة وسليم وهي القبائل التي جندها الجعافرة ضد خصومهم وذكرتها المصادر التاريخية ، قال الدكتور عبد الله خورشيد بري عن قبيلة عنزة في مصر :
" يبدوا انها جاءت مع الفتح "
وقال ايضاً :
"تاريخ مصر خال تماماً من شخصياتها" . ( انظر القبائل العربية في مصر للدكتور (عبد الله خورشيد بري) ص140)

واريد أن انبه القارئ الكريم لهذا المبحث أن بني جعفر هم اضعف بطون الطالبيين اذ خاضو صراعاً طويلاً مع ابناء عمومتهم العلوييين (بني حسن والحسين)على النفوذ في الحجاز وخاصة المدينتين المقدستين (مكة والمدينة) ، وبدأت ملامح هذا الصراع سنة 251ه عندما انتهت امارة المدينة الى اسحاق بن محمد بن يوسف الجعفري بعد ان ابدى هذا بسالة نادرة في التصدي لغارت المجرم اسماعيل بن يوسف الحسني العلوي ربيب البادية والملقب بالسفاك ، وقد اكرم العباسيون موقف اسحاق بن محمد بن يوسف فجعلوه اميراً على المدينة ، وشهدت تلك الفترة التي تلت هذه الاحداث ضعف الخلافة في بغداد واستاء العلويين من امارة الجعفريين للمدينة المتمثلة باسحاق بن محمد الجعفري ، وبدأت الفتنة هنا بين الطرفين (العلوي والجعفري) وزعم عبد الله العبار أن العباسيين هم من حرض العلويين على الجعفريين (آل طيار كما حد قوله) حيث قال :
"فبعد ان بدا نفوذ آل الطيار يتعاظم في الحجاز من المدينة الى مكة ،أخذ أشراف مكة من الحسينيين يعملون للقضاء عليهم فاتصلوا بالعباسيين للعمل على ذلك كما استعانوا بالقبائل المحيطة بمكة ، وكان العباسيون قد نقموا على بني الطيار اثر خروج بعض بني جعفر في العراق سنة 250 ه" أ.ه ص51
في ماقاله ابن عبار أخطاء كبيرة لابد من توضيحها لكي تكتمل الصورة في ذهن من يقرأ:

اولاً- من الخطأ وصف بني جعفر بـ( آل الطيار) لأن نسبتهم هي جعفري كما ورد في كل مصادر التاريخ وكتب الانساب والترجمات عنهم وعن رجالهم .

ثانياً- لم يحرض العباسيين بني الحسين او غيرهم على بني جعفر ، بل العكس هو الصحيح وهو قيام العباسيين بتنصيب اسحاق بن محمد بن يوسف الجعفري اميراً على المدينة مما أثار نقمة العلويين عليهم .

ثالثاً- لم يكن الذين ثاروا في العراق من بني جعفر كما قال عبدالله العبار بل أن من ثار في العراق وتحديداً في الكوفة سنة 250 ه هو يحيى بن عمر بن يحيى العلوي ، فهو لم يكن من الجعفريين كما قال ابن عبار ، ليبرر قيام العباسيين باعتقال علي بن عبد الله الجعفري وارساله للعراق ،اما سبب اعتقال علي بن عبد الله الجعفري فانه لما ولي خلافة المسلمين أمير المؤمنين وناصر السنة محمد المتوكل ساءه مفاسد الطالبيين في الحجاز وصراعات ( العلوية والجعفرية) والفظاعات التي ارتكبوها في مدينة الرسول ، فوجه اليهم عمر بن الفرج الرخجي واستعمله على مكة والمدينة سنة 250 ه وقام الرخجي بارسال الكثير من المفسدين منهم الى العراق ليسجنوا هناك ومن هولاء علي بن عبد الله الجعفري ألذي وصفه بن عبار بالطيار في كتابه ص51
وكان لحملة الرخجي وامارته في الحجاز الفضل بعد الله بعودة الهدوء والاستقرار لارض الحرمين بعد ان عاث فساداً فيها أدعياء الخلافة من (العلويين والجعفريين) وهم بلا شك أفراد قلائل من الأسرة الهاشمية الكريمة ساءت نشأتهم وشذوا عن أخلاق هذه الأسرة وعاشوا بين قطاع الطرق أو مع المفسدين وصاروا مثلهم.

عودة الصراع الجعفري العلوي سنة 266ه
بعد وفاة الخليفة المتوكل وبسبب ضعف الخلافة في بغداد عاد الصراع المرير بين الجعفريين والعلويين سنة 266ه وكانت الامارة لاتزال بيد الجعفريين منذ حملة بغا التي ذكرناها سابقا واميرهم اسحاق بن محمد بن يوسف الجعفري واخذ بني حسين يشنون عليهم الغارات ، قال ابن كثير عن حوادث هذه السنة (266ه) :
"وفيها وقعت فتنة في المدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية ، وتغلب عليها رجل من سلالة الحسن بن زيد القائم بطبرستان وجرت شرور كثيرة هناك" أ.هـ ( تاريخ ابن الاثير لحوادث سنة 266هـ)

والغريب هو تناول عبد الله العبار لهذه الاحداث ، وحشره لقبيلة عنزة في صراعات لاناقة لهم فيها ولاجمل ، فضلاً عن خلطه بين حوادث سنة 266 وسنة 271 للهجرة حيث قال العبار هداه الله في صفحة 51 :
" واخذ العباسيون يتربصون بآل الطيار حيث قاموا بامداد الحسينين واعطوا لمحمد بن الحسن الثائر امارة الموسم من العراق وتمكنوا من قتل الامير موسى بن محمد بن يوسف الطيار عقب قتل أخيه عام 266 ه وقتل آنذاك عدد كبير من آل الطيار وسميت تلك الاحداث بالفتنة الكبرى وعقب ذلك سلم الحسينيين ولاية الحرمين الشريفين لأخي الخليفة العباسي المعتمد والذي بدوره عقد ولاية الحرمين لمحمد بن ابي الساج عام 266ه" أ.ه

وهذه ملاحظات على هذا السرد التاريخي الخاطيء ويتضح كما يلي :
اولاً- سبق ان اشرت الى خطأ استخدام ابن عبار لفظ (الطيار) لوصف الجعفريين ، وهي محاولة من العبار لتاكيد أن اسرة الطيار العنزية هم من عقب هولاء الجعفريين ، كما ان ميول العبار لأن يكون الحق معهم دون الآخرين غير مبررة فضلاً عن التلميح لعداوة العباسيين لهم .

ثانياً : كان امر المدينة في هذه السنة بيد اسحاق بن محمد الجعفري وليس بيد موسى أخوه ، وماحدث هو ان الاعراب في وادي القرى قتلوا عمال اسحاق واخوانه فذهب اسحاق اليهم وترك امر المدينه لاخيه موسى وهنا انتهز العلويين الفرصة (لغياب اسحاق في وادي القرى) ودخلوا المدينة وقتلوا موسى بينما توفي أخوه اسحاق وفاة طبيعية ولم يقتل كما قال عبد الله العبار .

ثالثاً- لم يقم العباسيين بدعم أي طرف من اطراف الصراع كما قال العبار ، ولم يولو امر المدينة لمحمد بن الحسن كما قال العبار ، بل ان حقيقة ماحدث هي أن الفوضى انتشرت في المدينة المنورة حتى تولى أمرها أحمد بن محمد بن اسماعيل العلوي ، فضبط المدينة المنورة وكان قد غلا بها السعروضمن للتجار أموالهم ، ورفع الجباية فرخصت الاسعار وسكنت المدينة ، وبهذا خرجت المدينة من حكم الجعفريين للعلويين حتى جاء محمد بن ابي الساج وعين على ادارتها الحارث بن سعد وانقضت الفتنة بين الفريقين وعاد الهدوء الى مدينة الرسول (ص).

ويستمر ابن عبار في تشريقاته وتغريباته ويقول مفصلاً عن تلك الاحداث:
"وتفصيل ذلك أن محمدا وعليا بني الحسن بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، دخلا المدينة المنورة بمن معهما وقتلوا جماعة من اهلها ،وطالبوا أهلها بالأموال " أ. هـ

قلت : دخول الاخوين محمد وعلي العلويين الى المدينة المنورة لم يحدث سنة 266ه ، بل حدث في سنة 271ه وابن عبار يفصل حوادث سنة 266هـ بحوادث سنة 271هـ !
وليس هناك من داع لان يتعاطف ابن عبار مع بني جعفر ويخبر عن عدد قتلاهم في تلك الاحداث فقد كانوا ايضاً مسؤولين عن الفوضى في مدينة الرسول جنباً الى جنب مع ابناء عمومتهم العلويين .
فقد انفجر الهدوء الذي ساد المدينة منذ عام 266ه وعاد عام 269 ليتصارع الجعفريون والعلويون مرة اخرى وعلا امر الجعفريين في ذلك العام بحسب ما أورد الطبري في تاريخه عن حوادث تلك السنة واصبحت المدينة ومكة مستباحة للمفسدين من العلويين ومنهم محمد وعلي ابناء الحسين بن جعفر الحسيني ألذين دخلوا المدينة عام 271ه وعاثوا فيها فساداً ومنعوا الصلاة في المسجد النبوي قرابة الشهر ، ولم يمنع انشغال العباسيين عنهم بفتنة الزنج وخروج الطولونيين أن يرسلوا أحمد بن محمد الطائي الى ارض الحرمين في رمضان 271ه ، فاستطاع أن يثبت الأمن في المنطقة فعادت السكينة إلى المدينة ، وصارت واحة للأمن وسط الاضطرابات الكثيرة في المناطق الأخرى ، وازدهرت فيها حلقات العلم ثانية وكثر الوافدون من طلاب العلم والمجاورين الذين يقيمون فيها مدة من الزمن، وبعضهم يؤثر أن يقضي بقية عمره في رحابها أملاً في أن يحظى بمثوى في مقبرة البقيع.
وبهذا اسدل الستار على الفتنة العلوية الجعفرية مرة اخرى فترة من الزمن لم تستمر طويلاً. ونلاحظ عدم وجود أي ذكر لقبيلة عنزة في خضم هذه الاحداث حيث كانت قبائل ربيعة في العراق .

والعبار يسوق هذه الاحداث بطريقة مغلوطة ويقحم عنزة بتاريخ ليس لها وجغرافيا بعيدة عنها ، فلم يشر اي مؤرخ تناول هذه الاحداث الى قبيلة عنزة او حتى لقب ( آل طيار) ومن اراد التأكد فعليه مراجعة كتاب ( تاريخ الرسل والملوك ) للطبري وتحديدا حوادث سنة 230هـ و 266هـ و 271هـ علما بأن الطبري معاصر لتلك الاحداث ، ومع هذا تجد العبار يكرر تحريف اسم الجعفري الوارد عند الطبري ويستبدله باسم الطيار ، ويظهر تعاطفاً مع الجعفريين الهواشم في صراعهم مع العلويين وكأنهم بالفعل اصبحوا من عنزة .

عودة الصراع بين بين بني جعفر والعلويين عام 348ه وجلاء الجعافرة الى مصر

ضعف امر الخلافة العباسية كثيراً بعد قيام الدولة الفاطمية في المغرب سنة 297ه ، واستيلاء البوهييين على مقاليد الامر في بغداد سنة 334ه ، واصبحت الحجاز بما ذلك المدينة المنورة خالصة للعلويين دون الجعفريين ، واستقل بني الحسن بمكة وبني الحسين بالمدينة ، واصبح امراء العلويين سادة الحرمين بلا منازع ، ولم يسكت الجعفريون على هذا اذ حملوا على الحسينيين واقتتلوا معهم قتالاً شديداً قتل فيه الكثير من الطرفين واستغل ذلك الصراع المعز لدين الله الفاطمي وراى فيه فرصة لوضع يده على الحرمين الشريفين فجمع الجعفريين والعلويين للصلح بالمسجد الحرام عام 348ه ودفع دية القتلى وانتهت الازمة بانتصار العلويين وسيطرتهم على الحجاز ومن ثم دخولهم تحت الطاعة الفاطمية سنة 359ه .
اما بني جعفر ، فبعد هزيمتهم في المدينة رحلوا عنها الى بعض القرى ومنها خيبر ووادي القرى حتى اخذت عنزة منهم خيبر بالقوة وهذا سيأتي تفصيله في هذا المبحث ، وتلاه جلاء الجعافرة الى مصر وهم فيها الى يومنا هذا .

علاقة الجعافرة بقبيلة عنزة


ولنا وقفة مع ماقاله ابن عبار حول جلاء الجعفريين الى مصر حيث قال سلمه الله في صفحة 53:
" أما ماذهب اليه البعض من اجلاء الطيار وقبائل عنزة الى صعيد مصر فان فيه من التحريف التاريخي الشيء الكبير"

واقول : لم تذكر مصادر التاريخ قبيلة عنزة عندما تناولوا الحرب بين الجعفريين والعلويين ، ولم تكن عنزة قد اشتركت مع غيرها من الاعراب من قبائل غطفان وسليم وفزارة في تلك الصراعات ، بل كانت عنزة في تلك الفترة داخلة في بكر بن وائل ومساكنها في العراق بعيداً عن الحجاز وخيبر يدلك على ذلك ان المؤرخ الطبري ذكر حوادث لعنزة في نفس الفترة الزمنية كانت مسرحها في ديار ربيعة ، ومنها معركة الزابيين مع الازد سنة 253هـ والتي قاد بني شيبان وعنزة فيها القائد برهومة العنزي ، كما ان الاعراب من بني سليم وفزارة القيسيين لم يثبتوا في ولائهم لاحد فتارة مع العلويين وتارة مع الجعفريين بحسب الاقوى والاغنى منهم ، ولهذا السبب تجاهل المؤرخون تفصيلات القبائل المتورطة في ذلك الصراع الذي أدى الى جلاء الجعفريين عن الحجاز الى مصر،فلم تذكر قبيلة عنزة في كتب المؤرخين في الوقت الذي يبالغ فيه ابن العبار ويجعل تلك العلاقة المحتملة التحاماً أبدياً!
فعندما رحل الجعفريون الى مصر بعد خلو الحجاز للعلويين ،اصطحبوا معهم الكثير من الاعراب فكونوا هناك بطوناً واحلافاً من بني امية وعنزة وبني عثمان بن العفان وبني سليم ، وكما اشرنا سابقاً فان عنزة الذين جلوا مع بني جعفر- ان صح ماذكره المقريزي عن تواجد عنزة في مصر - كانوا اقلية بسيطة ولم يكن لهم أي حظور في تاريخ مصر بعد ذلك والى يومنا هذا ، بعكس الجعفريين الذين بقي اسمهم ونسبهم في مصرمدة طويلة وتزعموا أعراب مصر من القبائل الاخرى واشتركوا مع الامير ثعلب بن علي الجعفري ضد المماليك ، وزعم العبار ان بني عنزة تواجدوا في مصر بحثاً عن الكلأ والمرعى وهو غير صحيح بدليل ان الطريق مفتوح لهم ولسائر ربيعة نحو الشمال حيث الهلال الخصيب وهي المواطن التي صالت وجالت فيها قبيلة عنزة وبكر بن وائل في الفترة التي حصلت فيها حملة بغا الكبير..

علاقة عنزة بخيبروبدايتها

لم تعد عنزة بن اسد التي لايزالاسمها حياً الى اليوم بطناً مستقلاً من ربيعة ، بل دخلت في بكر بن وائل منذ حرب البسوس واصبحت بطناً بكرياً وائلياً ولاتزال تحمل هذا اللقب الى اليوم ، وقد اوضحت سابقاً ان لادخل لقبيلة عنزة في صراعات محمد بن يوسف الجعفري وبغا الكبير حيث كانت تقطن في العراق مع قومها بكر بن وائل ، ومع حلول القرن السابع الهجري او اواخر القرن السادس بدات بطون عنزة ترحل من العراق الى الحجاز مستهدفة خيبر الارض ذات النخل والزرع ، فالسجلات التاريخية التي كتبها معاصرون لانتقال عنزة من العراق الى الحجاز لاتضع سببا لنزوح قبيلة عنزة من العراق ، التي يبدو انها من ضغط قبيلة غزية من طيء ، اذا اضفنا اليها تقلص دور القبائل العربية في التنظيمات الحكومية، قال ابن خلدون نقلاً عن البيهقي وابن سعيد ان عنزة كانوا في عين التمر العراقية ثم انتقلوا الى خيبروورثت ديارهم غزية بن طيء ، الا ان علاقة عنزة بخيبر والتي لاتزال معروفة لدى عامة عنزة اليوم ، لم تبدأ قبل القرن السادس الهجري وفي اواخره تحديداً ، ولا صحة لمن يقول ان عنزة بخيبر او بالحجاز منذ اوائل قرون الهجرة ، فلم يشر أي مؤرخ او رحالة او جغرافي الى تواجد عنزة في الحجاز الا بعد الربع الاخير من القرن السادس ، فحملة بغا الكبير سنة 231هـ كانت تقاتل قبائل غطفان وسليم في جهات خيبروالمدينة المنورة وفدك كما ذكر الطبري ومن المعلوم ان الطبري فصل " دون المؤرخين الآخرين" كثيرا في القبائل التي اشتركت في الافساد والتي انشغل بغا في تاديبها ، ولم يذكر الطبري أي شيء يشير الى ان لقبيلة عنزة صلة بتلك الاحداث بل ان القبائل التي قاتلها بغا في خيبر هم من فزارة الغطفانية حيث ذكر الطبري ان بغا توجه الى خيبر لقتال من تجمع بها من فزارة وسليم ، وعندما نقفز لمؤلفي القرن السابع مثل ياقوت الحموي( ت628هـ) الذي انتهى من مسودة كتابه ( معجم البلدان) سنة 626هـ نجده يتحدث عن حرة ليلي قرب خيبر ويؤكد ان سكانها كانوا من غطفان حيث يقول :
" حرة النار بين وادي القُرى وتيماء من ديار غطفان وسكانها اليوم عنزة" أ.هـ
ومن نص ياقوت وقوله ( ان سكانها اليوم عنزة) يتضح ان علاقة عنزة بخيبر بدات بعد نزوح غطفان وغيرهم من الحجاز الى مصر والعراق ، وياقوت الحموي معاصر للشاعر الشهير ابن المقرب العيوني الذي ذكر ظروف انتقال عنزة الى خيبر في شرح ديوانه ، وقد اسفت لما رأيته من بتر عبد الله العبار لقصة الحرب الدائرة بين بني جعفر وعنزة والتي ذكرها شارح الديوان المقربي كاملة ، ففي كتاب ( تاريخ اسرة الطيار وولد علي ) طبعة 1418هـ ذكر ابن عبار القصة كما يلي في صفحة 60:
" ان لعيباً رجل من عنزة وابن ذكاء الصبح ، وخيبر بلد يسكنها بنو جعفر الطيار ابن ابي طالب ، وكان الحديث ان قوما من أسد ابن ربيعة اكثروا الغارات على خيبر وهي ارض ذات انهار ونخيل وزروع وظهروا عليها لكثرتهم وقوتهم ومل اهلها الحرب ، ودخل عليهم خراب الثمار فصالحوهك على شطرين من ثمار نخلها ، فصاروا ينزلون عليها مدة القيض واقاموا على ذلك مدة مديدة ، ثم صاروا كل عام يحولون بينهم وبين الثمار حتى لايزيد لهم شيء ، فمازال ذلك دابهم حتى لم يبقى لبني جعفر الا القليل ، ثم أنهم لم يرضوا منهم بذلك ، فحاربوهم حربا حالوا فيه بينهم وبين الثمار .
وصاروا يصبحونهم الحرب ويراوحونهم ، فقالو : ياسبحان الله ماذا تطلبون عندنا ؟ّ فقالوا : نطلب ان نجعل فيها رجلاً يكون معكم من قبلنا ، فاجتمع بعضهم الى بعض وتشاوروا في أمرهم فلم يجدوا من ذلك بداً ، فبعثوا اليهم ان حبا وكرامة لما دعوتم اليه ، فولوها رجلاً من قبلهم يقال له ( لعيب) وجعلوا معه 400 رجل من مقاتلتهم وشجعانهم ورحلوا حتى تباعدوا لطلب المرعى لمواشيهم ، ثم ان بني جعفر مشى بعضهم الى بعض وتشاكوا الامر فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : الموت اسهل وألذ مما نحن فيه ، وضربواللقيام على لعيب واصحابه ، فقبضوا عليهم فلم يفلت منهم انسان ، فصالحوهم ودفنوا ماكان بينهم ورجعوا الى العادة الاولى " أ.هـ
هذه قصة الحرب التي استولى ابناء قبيلة عنزة الوائلية فيها على خيبر من اهلها كما اوردها عبد الله العبار ، وقد اورد ابن عبار قصيدة علي ان المقرب التي كان من ضمن ابياتها :
تركوا لعيبا فـي مئيـن أربـعجزرا قبيـل تنـور ابـن ذكـاء
فهناك طابت خيبر واستبدلتمن بعدها السراء بالضـراء
واقول : ان الامانة العلمية تستوجب النظر حيال هذا البتر من قبل الاديب عبد الله العبار ، فالقصة التي اوردها لم تكن كما جاءت في ديوان ابن المقرب ( الطبعة الهندية) ، لان القاري لما كتب ابن عبار يستنتج ان نوعا من السلم قد حل بين بني جعفر وعنزة وانتهى الى اندماج الفرع الجعفري والتحامه داخل عنزة القبيلة البكرية الوائلية !!
ولعمري كيف يقتل الجعفريين أربع مئة فارس من عنزة ثم يسالموهم عنزة على هذا وهم- أي عنزة- الطرف القوي في هذه المواجهة ؟!
انها اساءة واضحة لقبيلة عنزة وطمس متعمد لحقيقة وردت في كتب التاريخ ويراد لها ان لاتظهر ، اما القصة الحقيقية الكاملة كما وردت في الديوان وتحديدا في الجزء الاول من الطبعة المحققة ، ان قبيلة عنزة عندما علموا بما حدث لرجلهم لعيب الذي تركوه في خيبر وان الجعفريين قد قتلوه لم يسكتوا على ذلك وهذه ردة فعل عنزة كما وردت في نفس الكتاب ولم ينقلها ابن عبار وكأ نه لم يقرأها :
" فبلغ الخبر الى عنزة ( أي خبر قتل لعيب) فأقبلوا حتى حلوا على البلد ، واغاروا عليها فتحصن ( الجعفريين) عنهم فمالوا الى الارض يخربونها ، فأرسلوا لهم بأن ان اردتم خرابها أخرجنا لكم الفؤوس لتقطعوا نخلها ، فصالحوهم ، ودفنوا ماكان بينهم ، ورجعوا الى العادة الاولى" أ.هـ
قوله : رجعو للعادة الاولي بمعنى انهم حالوا بين بني جعفر وثمار خيبر كما ورد في بداية القصة ، بل أن محققي ديوان ابن المقرب انفسهم انتقدوا مدح ابن المقرب لبني جعفر رغم ان عنزة هي الطرف المنتصر ، لتصبح خيبر منذ ذلك الوقت والى اليوم ملكا لقبيلة عنزة خالصاً، ويصبحوا اهل مدر بعد ان كانو اهل وبر فقط ، وهذا الجزء من القصة ( اعني انتقام عنزة لقتل لعيب) لم يورده عبد الله العبار وتجاهله وهذا اخلال بقواعد الامانة العلمية ، واضرار واضح بتاريخ القبيلة العربية البكرية الوائلية التي تعد اشهر واعرق قبائل العرب قاطبة .

الخلاصة من المبحث

1- أن اسرة الطيار المعروفة بهذا الاسم في قبيلة عنزة هم شيوخ بني وهب من عنزة الوائلية ، وان بني جعفر بطن من الاشراف الطالبيين من قريش ينقسم الى فخذين هم الزيانبة والثعالبة وهم ينزلون مصر ومة المكرمة وجدة والمدينة المنورة في وقتنا الحالي ، ولاتوجد بينهم وبين قبيلة عنزة اية نوع من العلاقة لاتجاور او احتكاك ..

2-أن قبيلة بني جعفر الهاشمية لما حكمت في المدينة وتحاربت مع ابناء عمومتها من العلويين في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري ، لم تكن لقبيلة عنزة وبطون ربيعة أي دور او ذكر في تلك الصراعات ، حيث كانت قبائل ربيعة ومنها عنزة في ذلك الوقت في العراق في ديار ربيعة وبكر والموصل وعين التمر والبصرة والكوفة والانبار. والقبائل التي حول خيبر في ذلك الوقت هي سليم وفزارة وغطفان ، وليس لعنزة صلة بخيبر قبل ان يحتلوها في القرن السادس ويطردوا بني جعفر منها .

3-أن قبائل ربيعة ذاب اسمها مع مطلع القرن الخامس الهجري تحت مسمى قبيلة عنزة الوائلية الحالية وهاجروا من العراق الى جهات خيبر ، ثم تصارعوا مع سكان خيبر الجعفريين واجلوهم عن خيبر ولم تنتهي الحرب بين الطرفين الا بخلاص الثمار والنخيل لعنزة ، ولاصحة لمن يقول ان هذه الحروب انتهت بوئام وسلام بين الطرفين !

4- ان لقب اسرة آل طيار العنزية الوائلية لايدل على انهم من ذرية جعفر الطيار ، لان ابناء جعفر انفسهم لم يتلقبوا به فكيف بمن يفترض انه جلا عنهم الى قبيلة اخرى ؟!
وختاما ارجو من اخواني قراءة المبحث بتمعن واحضار المصادر ومضاهاتها بكتاب عبد الله العبار ( موجز تاريخ الطيار ) ليتبين لهم ان التاريخ الوائلي يتعرض لتسويف وضرب ومحاولة نسبته لغير اهله وورثته ونسأل الله ان يوفقنا لما يحب ويرضى .

منقول من موقع مركز الدراسات الوائلية