بقلم كاظم المسعودي




معركة الرارنجية (*)
من المعارك التي يتناقلها أبناء العراق جيلا بعد جيل ، لما تحتويه من حب الوطن والجهاد في سبيل الله من شعب تنقصه الكثير من المستلزمات العسكرية ، من خطط وسلاح ومؤن وغيرها ، ألا أن أبناء الرافدين من عشائر ورجال دين ومثقفين استطاعوا هزيمة القوات البريطانية المدججة في العدة والعدد ، ألا إن سلاح الأيمان تفوق على ذلك كله وهي أحدى حلقات ثورة العشرين الخالدة التي حدثت في 24/ 7 / 1920م .
ترك الثوار الكوفة وأودعوا امرمقاومة القوة الانكليزية المحصورة فيها إلى قبائل بني حسن (1) التي يرأسها الشيخ علوان الحاج سعدون (2) وأستقر رأيهم على أن يقطعوا خطوط المواصلات البرية والنهرية على هذه القوة فتضطر إلى التسليم من تلقاء نفسها ... فاضطربت الحكومة الانكليزية لهذا القرار وصارت تحسب له ألف حساب .
كانت الحلة (بابل ) خالية من قوة مهمة تستطيع مقاومة الثوار فيما لو عاجلوها بالزحف عليها بيد ، أن تأخر العشائر عن هذا الزحف حمل الميجر بولي حاكم لواء الحلة السياسي يومئذ على أن يقرر إرسال قوة من حاميته إلى الكفل وفك الحصار عن الميجر نوريدي والقوة المحاصرة عن خاناتها من جهة أخرى ، وفي الوقت الذي كانت الباخرة الانكليزية ( فاير فلاي ) تعيش في الكوفة وتدوي مدافعها في شطها ، كانت الحلة لاتزال تتظاهر بهدوء والسكينة مما حمل الميجر بولي بوجوب الإسراع في إرسال هذه القوة فألح كل الإلحاح على قائد الحلة الكولونيل لوكن (lukin ) ، بلزوم إرسالها على عجل واخذ في الوقت نفسه بحصن الحلة ويحشد القوات اللازمة فيها استعدادا للطوارئ .
وفي 23 تموز بعد الظهر تحرك رتل مانجستر بقيادة الكولونيل ( مارد كاستل ) وقد بات ليلته في منطقة تبعد عن الحلة بخمسة أميال في منطقة ( أمام بكر ) (3) ، والقوة الانكليزية تعدادها 8 آلاف جندي ومؤلفة من :-
1- سريتين من كتيبة السند الخيالة (35) .
2- البطرية 39 (r.f.a )
3- الفوج الثاني من آلاي مانجستر .
4- سرية من فوج السيك الفتي 32 .
5- سرية واحدة من آلاي مانجستر .
6- حضيرة من سرية المستشفى السيار 24 .
وقد صدرت الأوامر إلى هذا الرتل بأن يحذر من القبائل التي يصادفها في طريقه وأن لايتأخر في أطلاق النار عليها إذا شم رائحة العداء للحكومة وأن يحصن المعسكر الذي يقضي فيه ليلته وان يتريث في حركته ، آملا بوصول نجدات من الديوانية (القادسية ) ، غير أن الميجر بولي كان يلح على الرتل بسرعة التقدم إلى الكفل قبل أن يتمكن الثوار من احتلال سدة الهندية فيكون أمر الفرات وإنقاص مياهه وتعطيل الحركات النهرية فيه بيدهم ويتعذر على الانكليز و الاستفادة من هذا الخطر ، وقد نجح الميجر بولي في إلحاحه ، فصدرت الأوامر إلى الحملة بالتقدم إلى الأمام حتى وصلت عند قناة الرارنجية في المقاطعة المسماة باسمها فكانت هذه القناة بمقام خطر دفاعي نظرا لانخفاضها (4) .
بدأ الجنود الانكليز يحفرون الخنادق ويقيمون السدود ويحصنون المعسكر حسب الأوامر الصادرة إليهم إذ كانوا ينوون أن يقضوا الليلة الثانية في هذه القناة ( الرارنجية ) ، إذ بقوة الاستطلاع تنبئ عن زحف الثوار من الكفل بقوة تتراوح بين 2500 – 3000 مقاتل فذعرت الحملة لهذا النبأ وأراد ضباطها أن يصدروا الأوامر بالعودة إلى الحلة ولكن التعب كان قد أعيا أفرادها حتى قرر طبيبها الخاص أنهم بحاجة إلى استراحة لمدة 24 ساعة غير أن الكولونيل ( هارد كاستل ) قد شاهد الثوار وهم يتقدمون فاصدر أمره إلى البطرية 39 بإطلاق النار على الثوار وتوارد الثوار على القوة الانكليزية من كل مكان حتى صاروا على مسافة 300 قدم فيها فألتحم الفريقان في معركة هائلة ومجزرة بشرية فظيعة حمل فيها السلاح الأبيض على المدفع التي كانت البطرية 39 قد استعملتها في بادئ الأمر (5) .
وبينما المعركة كانت حامية الوطيس تقدم الشيخ مرزوك العواد رئيس عشيرة العوابد من الجهة الأخرى بتقديم الدعم العسكري للثوار من محور ثاني وصار الإنكليز بين نارين حاميتين واظهر الثوار من الفنون الحربية والخطط العظيمة ماحير العقول .
وقد حدثني المرحوم السيد هادي الحسيني عن والده السيد بخيت الحسيني أن الشيخ مرزوك العواد جاء بعشائره من منطقة الهندية التابعة إلى كربلاء حاليا ، وأضاف السيد هادي حيث تناول هذا الجيش التمر واللبن في دارهم الواقعة في منطقة (أم طوب ) – والطوب هو المدفع لان قذائفه كانت تسقط في هذه المنطقة وبقى اسمها لهذا اليوم - بعد ذلك سلكت هذه القوة جدول الكفل ثم دخلت المعركة وقامت بالالتفاف حول معسكر الإنكليز .
واضطربت صفوف القوة المعادية فتفرقوا أيدي سبأ وصار الجندي يقتل بعضهم بعضا ظنا منهم بأنهم من الثوار المجاهدين وعندما جني الليل كانت الهزيمة الفظيعة ، ولم ينجح من المعركة إلا القليل وهكذا خسر رتل مانجستر في هذه المعركة 20 قتيلا و60 جريحا و318 مفقودا وعدد كبير من العجلات والخيل والبغال وقد أسر الثوار من المفقودين 160 جنديا بينهم 79 إنكليزيا والباقي من الجنود وغنموا مدفعا من عيار 18 باوند وقد أستخدمه الثوار في ضرب وإغراق الباخرة ( فاير فلاي ) في شط الكوفة كما غنموا 59 رشاشا مع كميات هائلة من الرصاص والعتاد ، ويمكن القول أن معركة الرارنجية مونت الثوار بكل ماتحتاج إليه الثورة من أنواع العتاد فضلا عما كان في أيديهم من سلاح .
المراجع :-
(*) – الرارنجية أسم لمناطق زراعية واسعة بين الحلة والكفل تبعد عن الأولى 12 ميلا وعن الثانية 8 أميال ، وتبلغ مساحتها 4000 دونم ، تروى بواسطة جداول ونهيرات صغيرة تتفرع من نهر الفرات ( شط الحلة )
1- قبائل بني حسن فيهم رأيين الأول هم بقايا بني هلال أصحاب التغريبة والثاني هم من قبائل عبادة والكل عدنانية .
2- مرزوك العواد من أشهر شيوخ القبائل المجاهدين آنذاك وهؤلاء عباسيين أي بقايا بني العباس في العراق ، ( ولكن ياللأسف إن أحد أحفاده دعا الحاكم المدني للعراق بول بريمر إلى بيته واخذ يشرح له تاريخ عائلته .. عندها قال بريمر أنا (بريمر العباسي ) .
3- وهي منطقة فيها قبر أبو بكر بن علي بن أبي طالب ( رض ) وهي بجانب جامعة بابل على طريق حلة - كفل .
4- بابل بين الماضي والحاضر تأليف نخبة من مؤرخي العراق ص 58 -59 ط بغداد لمهرجان بابل الرابع .
5 – مجلة البراق – العدد الخامس – السنة الأولى 2003 م - بقلم الأستاذ هاشم الطرفي