شاول: عاش الإسرائيليون غنمًا متبددة، ولم تستطع عوامل الخطر وانعدام الأمن التي أحاطت بهم من كل جانب أن توحد صفوفهم، وبلغ بهم الانحلال والتردي غايته، حتى إن حادثة زنا بسرية أحدهم تتسبَّب في حرب طاحنة بين سبط بنيامين وبقية أسباط إسرائيل، يسقط فيها من كلا الجانبين - حسب الأعداد التي تذكرها الأسفار - ما يزيد على أربعين ألف رجل!

ونلخص القصة بلغة الأسفار، فنقول:

"وكان رجل لاوي اتخذ له امرأة سرية من بيت لحم يهوذا، فزنت عليه سريته، وذهبت من عنده إلى بيت أبيها، فقام رجلها وسار وراءها؛ ليطيب قلبها ويردها ومعه غلامه وحماران، فأدخلته بيت أبيها، فلما رآها أبو الفتاة، فرح بلقائه.

ثم بكر في اليوم الخامس للذهاب هو وسريته وغلامه، فعبروا وذهبوا، وغابت لهم الشمس عند جبعة التي لبنيامين، فمالوا إلى هناك؛ لكي يدخلوا ويبيتوا في ساحة المدينة، وإذا برجل شيخ جاء من شغله من الحقل، فقال: السلام لك، لا تبيت في الساحة، وجاء به إلى بيته، وفيما هم يطيبون قلوبهم، إذا برجال المدينة رجال بني بليعال أحاطوا بالبيت، وكلموا الشيخ قائلين: أخرج الرجل الذي دخل بيتك، فنعرفه (نضاجعه)، فخرج إليهم صاحب البيت، وقال لهم: بعدما دخل هذا الرجل بيتي، لا تفعلوا هذه القباحة، هو ذا ابنتي العذراء وسريته، دعوني أخرجهما، فأذلوهما وافعلوا بهما ما يحسن في أعينكم، وأما هذا الرجل، فلا تفعلوا به هذا الأمر القبيح، فلم يرد الرجال أن يسمعوا له، فأمسك الرجل سريته وأخرجها إليهم خارجًا، فعرفوها (زنوا بها)، وتعلَّلوا بها الليل كله إلى الصباح، وعند طلوع الفجر أطلقوها.

فجاءت المرأة عند إقبال الصباح وسقطت عند باب بيت الرجل؛ حيث سيدها هناك إلى الضوء، فقام سيدها في الصباح، وفتح أبواب البيت، وخرج للذهاب في طريقه، وإذا بالمرأة سريته ساقطة على باب البيت ويداها على العتبة، فقال لها: قومي نذهب، فلم يكن مجيبًا، فأخذها على الحمار، ودخل بيته وأخذ السكين وأمسك سريته، وقطعها مع عظامها إلى اثنتي عشرة قطعة، وأرسلها إلى جميع تخوم إسرائيل - قضاة 19".

"وأرسل أسباط إسرائيل رجالاً إلى جميع أسباط بنيامين، قائلين: ما هذا الشر الذي صار فيكم؟ فالآن سلموا القوم بني بليعال الذين في جبعة؛ لكي نقتلهم، فلم يرد بنو بنيامين أن يسمعوا لصوت أخواتهم بني إسرائيل.

فاجتمع بنو بنيامين، لكي يخرجوا لمحاربة بني إسرائيل - قضاة 20: 12 - 14 ".

وقتل الآلاف في تلك الحرب من كلا الجانبين:

« خرج بنو بنيامين من جبعة، وأهلكوا من إسرائيل في ذلك اليوم اثنين وعشرين ألف رجل، وخرج بنيامين للقائهم في اليوم الثاني، وأهلك من بني إسرائيل أيضًا ثمانية عشر ألف رجل، وصعد بنو إسرائيل على بني بنيامين، وأهلك بنو إسرائيل من بنيامين في ذلك اليوم خمسة وعشرين ألف رجل ومائة رجل، ورجعوا أمام بني إسرائيل في طريق البرية، ولكن القتال أدركهم، فسقط من بنيامين ثمانية عشر ألف رجل، فداروا وهربوا إلى البرية، فالتقطوا منهم في السكك خمسة آلاف، وقتلوا منهم ألفي رجل، ورجع رجال بني إسرائيل إلى بني بنيامين وضربوهم بحد السيف من المدينة بأسرها، حتى البهائم، حتى كل ما وجد، وأيضًا جميع المدن التي وجدت أحرقوها بالنار - قضاة 20 ».

وازداد الأمر سوءًا، وهدد بنيامين بالانقراض حين قرر بقية أسباط إسرائيل ألا يزوجوهم، "وحلفوا قائلين: لا يسلم أحد منا ابنته لبنيامين امرأة".

وبعد أن هدأت نفوس بقية أسباط إسرائيل، تفتقت أذهان شيوخهم عن حيلة يستطيعون بها الاحتفاظ بنسل لبنيامين في الوقت الذي يبرون بقسمهم، وكان ذلك بدعوة رجال بنيامين إلى اختطاف الكنعانيات والزواج بهن:

"فقال شيوخ الجماعة: قد انقطعت النساء من بنيامين، وقالوا: ميراث نجاة لبنيامين، ولا يمحى سبط من إسرائيل، ونحن لا نقدر أن نعطيهم نساءً من بناتنا".

ثم قالوا: هوذا عيد الرب في شيلوه، أمضوا واكمنوا في الكروم، فإذا خرجت بنات شيلوه؛ ليدرن في الرقص، فأخرجوا أنتم من الكروم، واخطفوا لأنفسكم كل واحد امرأته من بنات شيلوه، ففعل هكذا بنو بنيامين، واتخذوا نساءً حسب عددهم من الراقصات اللواتي اختطفوهن، في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل - كل واحد عمل ما حسن في عينيه - قضاة 21 ».

ومنذ أمد بعيد امتلأت أرض فلسطين وما حولها بالممالك، من قبل أن يكون للإسرائيليين فيها موطئ قدم، فلقد عرف هذا منذ عهد إبراهيم، وعرف الإسرائيليون ذلك عن كثب حين بدأ احتكاكهم بتلك الممالك أيام موسى، الذي جاء بعد إبراهيم بنحو 400 عام.

ففي أثناء تجوالهم في الصحراء بقيادة موسى، «أرسل موسى رسلاً من قادش إلى ملك أدوم، هكذا يقول أخوك إسرائيل، فقد عرفت كل المشقة التي أصابتنا.

إن آباءنا انحدروا إلى مصر، وأقمنا في مصر أيامًا كثيرة، وأساء المصريون إلينا، دعنا نمر في أرضك، لا نمر في حقل، ولا في كرم، ولا نشرب ماء بئر، في طريق الملك نمشي، لا نميل يمينًا ولا يسارًا، حتى نتجاوز تخومك.

فقال له أدوم: لا تمر بي؛ لئلا أخرج للقائك بالسيف، فقال له بنو إسرائيل: في السكة نصعد، وإذا شربنا أنا ومواشي من مائك، ندفع ثمنه، لا شيء، أمر برجلي فقط، فقال لا تمر، وخرج أدوم للقائه بشعب غفير وبيد شديدة، وأبى أدوم أن يسمح لإسرائيل بالمرور في تخومه، فتحول إسرائيل عنه.

ولما سمع الكنعاني ملك عراد الساكن في الجنوب أن إسرائيل جاء في طريق أتاريم، حارب إسرائيل وسبى منهم سبيًا - عدد 20: 14 - 21، 21: 1 ».

ولقد كانت المملكة عبارة عن شعب يسكن رقعة من الأرض، يقيم بها المدن والحصون، ويقوم على رأسه ملك يتولى القيادة وشؤون الحكم في الحرب والسلم؛ ولذلك كثرت الممالك، حتى إن يشوع - خليفة موسى - استطاع أن يحارب واحدًا وثلاثين ملكًا، ينتمي مواطنهم إلى ستة شعوب:

«وهؤلاء هم ملوك الأرض الذين ضربهم يشوع: الحثيون، والأموريون، والكنعانيون، والفرزيون، والحويون، واليبوسيون، ملك أريحا واحد، ملك عاي التي بجانب بيت أيل واحد، ملك أورشليم واحد، ملك مجدو واحد، ملك قادش واحد، جميع الملوك واحد وثلاثون - يشوع 12: 7 - 24 ».

ولقد نظر الإسرائيليون حولهم، فوجدوا أن الشعوب الفلسطينية قد سبقتهم في تنصيب الملوك وإقامة الممالك، واستطاعت بذلك أن تجمع شملها، وتحافظ على كيانها، وهنا تطلعت نفوس الإسرائيليين إلى شيء من ذلك.

« فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاؤوا إلى صموئيل إلى الرامة، وقالوا له: هو ذا أنت شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك - (وكان صموئيل قد عينهما قاضيين) - فالآن اجعل لنا ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل ».

ورغم ما قد يبدو لأول وهلة من صواب فكرة الملك والمملكة، فإنها كانت في الواقع نكسة أصابت الإسرائيليين؛ لأنهم اختطوا لأنفسهم طريقًا محفوفًا بالمخاطر.

فعندما «صلى صموئيل إلى الرب: فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك؛ لأنهم لم يرفضوك، بل إياي رفضوا؛ حتى لا أملك عليهم، ولكن اشهدن عليهم وأخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم.

فكلم صموئيل الشعب، وقال: هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم، يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه، فيركضون أمام مراكبه، ويجعل لنفسه رؤساء ألوف، ورؤساء خماسين، فيحرثون حرثه ويحصدون حصاده، ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيتونكم، ويأخذ عبيدكم وجواريكم، وشبانكم الحسان، وحميركم يستعملهم لشغله، وأنت تكونون له عبيدًا، فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب لكم الرب.

فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل، وقالوا: لا، بل يكون علينا ملك.

فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوتهم ومَلِّك عليهم ملكًا - صموئيل الأول 8 ».

واختار صموئيل رجلاً من أقل عشائر الإسرائيليين ومسحه ملكًا عليهم، وقد قوبل ذلك من أول يوم بالهزء والسخرية:

«والرب كشف أذن صموئيل قبل مجيء شاول بيوم قائلاً: غدًا في مثل الآن أرسل إليك رجلاً من أرض بنيامين، فامسحه رئيسًا لشعبي إسرائيل.

فتقدم شاول إلى صموئيل، وقال: أين بيت الرائي؟

فأجاب صموئيل شاول، وقال: أنا الرائي، اصعد أمامي إلى المرتفعة، فتأكلا معي اليوم، فأجاب شاول، وقال: أما أنا فبنياميني من أصغر أسباط إسرائيل وعشيرتي أصغر كل عشائر أسباط بنيامين، فلماذا تكلمني بمثل هذا الكلام؟

فأخذ صموئيل قنينة الدهر، وصب على رأسه وقبله، وقال: أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا؟

وكان عندما أدار كتفه؛ لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر، وإذا بزمرة من الأنبياء لقيته، فحل عليها روح الله، فتنبأ في وسطهم.

ولما رآه جميع الذين عرفوه منذ أمس، وما قبله أنه يتنبأ مع الأنبياء، قال الشعب الواحد لصاحب: ماذا صار لابن قيس، أشاول أيضًا بين الأنبياء، ولذلك ذهب مثلاً أشاول أيضًا بين الأنبياء - صموئيل الأول 9، 10 ».

وما لبث الإسرائيليون أن اكتشفوا من أول يوم أنهم قد ضلوا بطلبهم إقامة مملكة له:

« وقال جميع الشعب لصموئيل: صل عن عبيدك إلى الرب إلهك؛ حتى لا نموت؛ لأنا قد أضفنا إلى جميع خطايانا شرًّا بطلبنا لأنفسنا ملكًا – صموئيل الأول 12: 19 ».

وكان من عادة شاول حين ينزل عليه الوحي، أن يتجرد من ملابسه:

«أرسل شاول رسلاً لأخذ داود، ولما رأوا جماعة الأنبياء يتنبؤون وصموئيل واقفًا رئيسًا عليهم، كان روح الله على رسل شاول، فتنبؤوا هم أيضًا، وأخبروا شاول، فذهب إلى هناك، فكان عليه أيضًا روح الله، فكان يذهب ويتنبأ حتى جاء إلى نايوت في الرامة.

فخلع هو أيضًا ثيابه وتنبأ هو أيضًا أمام صموئيل، وانطرح عريانًا، ذلك النهار كله وكل الليل، لذلك يقولون: أشاول أيضًا بين الأنبياء - صموئيل الأول 19: 20 - 24 ».

ولكن سرعان ما قضى على ملك شاول بعد أن رفضه الله بسبب خطيئة اكتسبها، وعندئذ فارقه روح الله وحل عليه روح شرير، فكان لا يهدأ إلا إذا عملت له حفلة موسيقية تخصص فيها أحد خدمه، وهو داود:

«قال صموئيل لشاول: قد انحمقت، لم تحفظ وصية الرب إلهك التي أمرك بها؛ لأنه الآن كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد، وأما الآن فمملكتك لا نقوم - صموئيل الأول 13: 13 - 14».

«وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلاً: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا؛ لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي - صموئيل الأول 15: 10 ».

« وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح رديء من قبل الرب، فأرسل شاول رسلاً إلى يسي يقول: أرسل داود ابنك الذي مع الغنم، فجاء داود إلى شاول ووقف أمامه، فأحبه جدًّا، وكان له حامل سلاحٍ.

وكان عندما جاء الروح (الرديء) من قبل الله على شاول، أن داود أخذ العود وضرب بيده، فكأن يرتاح شاول ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء - صموئيل الأول 16: 14 - 32 ».

وعرف عن شاول بذاءة لسانه، فكان حين يوبخ ابنه يتعرض بالسفه لعورة أمه:

«فحمى غضبه شاول على يوناثان (ابنه)، وقال له يا ابن المتعوجة المتمردة، أما علمت أنك قد أخترت ابن يسي لخزيك وخزي عورة أمك – صموئيل الأول 20: 30 ».



ثم أصيب شاول بنوبات من الجنون كانت تعتريه كلما باغته الروح الشرير:

«وكان في الغد أن الروح الرديء من قبل الله اقتحم شاول وجن في وسط البيت - صموئيل الأول 18: 10 ».

ولم يكن شاول - أول ملك في إسرائيل - يملك على شعب مستقر في أرض ذات حدود، بل كان كل نصيبه من ذلك مجرد اسم فقط.

فقد كان الإسرائيليون يعيشون جماعات متناثرة بين شعوب فلسطين التي كثيرًا ما قاتلتهم وانتصرت عليهم:

« وتجمع الفلسطينيون لمحاربة إسرائيل ثلاثون ألف مركبة وستة آلاف فارس وشعب؛ كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة، ولما رأى رجال إسرائيل أنهم في ضنك؛ لأن الشعب تضايق، اختبأ الشعب في المغاير والغياض، والصخور والصروح والآبار، وبعض العبرانيين عبروا الأردن إلى أرض جاد وجلعاد - صموئيل الأول 13: 5 - 7 ».

ولم يكن ضعف الإسرائيليين وهزيمتهم يرجع إلى تفوق أعدائهم كمًّا ونوعًا، بقدر ما كان يرجع إلى تخلف نوعية الإسرائيليين فنيًّا، لدرجة أنهم حتى ذلك الحين لم يوجد بينهم أي صانع يستطيع صنع أسلحتهم وعدتهم، أو حتى شحذها، بل كانوا يلجؤون في ذلك العمل إلى أعدائهم:

« خرج المخربون من محلة الفلسطينيين في ثلاثة فرق، ولم يوجد صانع في كل أرض إسرائيل؛ لأن الفلسطينيين قالوا: لئلا يعمل العبرانيون سيفًا أو رمحًا، بل كان ينزل كل إسرائيل إلى الفلسطينيين؛ لكي يحد كل واحد سكته ومنجله، وفأسه ومعوله، وعندما كلت حدود السكك والمناجل والمثلثات الأسنان، والفؤوس ولترويس المناسيس.

وكان في يوم الحرب أنه لم يوجد سيف ولا رمح بيد جميع الشعب الذي مع شاول ومع يوناثان – صموئيل الأول 13: 17 – 22 ».

وفي أحد المعارك بين الفلسطينيين والإسرائيليين قتل شاول وثلاثة من أبنائه، وقطعت رأسه، ومثل بجثته أسوأ تمثيل:

« وحارب الفلسطينيون إسرائيل، فهرب رجال إسرائيل من أمام الفلسطينيين وسقطوا قتلى في جبل جبلوع.

فشد الفلسطينيون وراء شاول وبنيه، وضرب الفلسطينيون أبناء شاول، واشتدت الحرب على شاول، فمات شاول وبنوه الثلاثة، وحامل سلاحه، وجميع رجاله في ذلك اليوم معًا.

ولما رأى رجال إسرائيل الذين في عبر الوادي والذين في عبر الأردن أن رجال إسرائيل قد هربوا، وأن شاول وبنيه قد ماتوا، وتركوا المدن وهربوا، فأتى الفلسطينيون وسكنوا بها.

وفي الغد لما جاء الفلسطينيون ليعروا القتلى، وجدوا شاول وبنيه الثلاثة.



فقطعوا رأسه، وأرسلوا إلى أرض الفلسطينيين في كل جهة، لأجل التبشير في بيت أصنامهم وفي الشعب، وسمروا جسده على سور بيت شان - صموئيل الأول 31».

داود: مسح صموئيل داود بن يسي خلفًا لشاول، وقد تم ذلك بناءً على أمر إلهي:

«قال الرب لصموئيل: املأ قرنك دهنًا، وتعال أرسلك إلى يسي؛ لأني قد رأيت لي في بنيه ملكًا.

فأخذ صموئيل قرن دهن مسحه في وسط إخوته، وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا - صموئيل الأول 16».

كان داود كريمًا مع سيده وملكه شاول، رغم أن الأخير كان يجد في الطلب لقتله بعد أن حقد عليه بسبب التفاف الإسرائيليين حوله، وفي أحد المطاردات تمكن داود من شاول إلا أنه لم يقتله توقيرًا له بصفته مسيحًا من قبل الله:

«أخذ شاول ثلاثة آلاف رجل، وذهب يطلب داود ورجاله، وكان هناك كهف، فدخل شاول، فقال رجال داود له: هو ذا اليوم الذي قال لك عنه الرب، ها أنذا أدفع عدوك ليدك، فتفعل به ما يحسن في عينيك، فقال لرجاله: حاشا لي من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي بمسيح الرب، فأمد يدي إليه؛ لأنه مسيح الرب - صموئيل الأول 24: 2 - 6».

وتفتق ذهن شاول عن حيلة ماكرة يقتل بها داود، وذلك بتزويجه إحدى بناته في نظير مهر يعرض داود للمخاطر، ألا وهو قتل 100 من الفلسطينيين، وقطع أعضاء ذكورتهم، والإتيان بغلفها للملك.

ومن العجيب والغريب أن تذكر الأسفار أن داود رحب بالفكرة، وأتم التنفيذ، وجاء بصيد ثمين هو 200 غلفة من الفلسطينيين مهرًا لزوجته:

«وميكال ابنة شاول أحبت داود، فأخبروا شاول فحسن الأمر في عينيه، وقال شاول: أعطيه إياها، فتكون له شركًا، وتكون يد الفلسطينيين عليه.

وأمر شاول عبيده، تكلموا مع داود سرًّا، قائلين: هو ذا قد سربك الملك، فالآن صاهر الملك، فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام.

فقال داود: هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك، وأنا رجل مسكين وحقير.

فقال شاول: هكذا تقولون لداود: ليست مسرة الملك بالمهر بل بمائة غلفة من الفلسطينيين للانتقام من أعداء الملك.

فأخبر عبيده داود بهذا الكلام، فحسن الكلام في عيني داود أن يصاهر الملك.

ولم تكمل الأيام حتى قام داود وذهب هو ورجاله وقتل من الفلسطينيين مائتي رجل، وأتى داود بغلفهم لمصاهرة الملك.

فأعطاه شاول ميكال ابنته امرأة - صموئيل الأول 18: 20 - 27».



قد يسمع الإنسان عن بعض القبائل التي توصف بالتخلف والهمجية، أنه حين يرغب أحد الشبان في الزواج، فإن عليه أن يذهب إلى الغابة ويقتل أحد السباع، ثم يأتي بجلده أو ذيله، ويقدمه مهرًا لعروسه.

أما أن يقتل داود - مسيح الله - مائتي رجل ويأتي بغلفهم مهرًا لابنة شاول - مسيح الله كذلك - فإن هذه فعلة لا يمكن أن تمر دون تأمُّل وتفكير يقطع يقينًا بسقم خيال كَتَبَةِ الأسفار المقدسة.

واستمر شاول في محاولاته لقتل داود والتخلص منه؛ ولذلك لم يجد الأخير بُدًّا من الهرب، بعيدًا عن سطوة عدوه، ولم يجد له من ملجأ يحتمي به هو وأتباعه إلا بين الفلسطينيين أعداء الإسرائيليين؛ حيث بقي داود عندهم لاجئًا أكثر من عام:

«وقال داود في قلبه: إني سأهلك يومًا بيد شاول، فلا شيء خير لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين، فييئس شاول مني، فلا يفتش عليّ بعدُ.

فقام داود وعبر هو والست مائة رجل الذين معه إلى أخيش بن معوك ملك جت، وأقام داود هو ورجاله كل واحد وبيته، داود وامرأتاه، فأخبر شاول أن داود قد هرب إلى جت، فلم يعد أيضًا يفتش عليه.

وكان عدد الأيام التي سكن فيها داود في بلاد الفلسطينيين سنة وأربعة أشهر - صموئيل الأول 27: 1 - 7».

وفي تلك الفترة تذكر لنا الأسفار أن داود ورجاله كانوا يعيشون على السطو على الشعوب والقبائل المجاورة أصحاب الأرض الأصليين، فيغزونها بعنف وقسوة، ويقتلون كل نفس حية؛ حتى لا يبقى من يخبر بمذابحهم:

«وصعد داود ورجاله، وغزوا الحشوريين والجرزيين والعمالقة؛ لأن هؤلاء من قديم سكان الأرض، وضرب داود الأرض، ولم يبق رجلاً ولا امرأة، وأخذ غنمًا وبقرًا، وحميرًا وجمالاً وثيابًا، وجاء إلى أخيش، لم يستبق داود رجلاً ولا امرأة حتى يأتي إلى جت، إذا قال: لئلا يخبروا عنا قائلين: هكذا فعل داود.

وهكذا عادته كل أيام إقامته في بلاد الفلسطينيين.

• صموئيل الأول 27: 8 - 11».

ويؤكد كتبة الأسفار أن هذه كانت عادة داود دائمًا حتى من قبل أن يتحول إلى لاجئ في بلاد الفلسطينيين، فقد اعتاد على فرض الإتاوة على الناس، واغتصاب أموالهم وثرواتهم بالقوة، ثم استباحة دمائهم أن أبدوا شيئًا من التبرم والضيق بأعمال العصابات التي مارسها هو ورجاله، وقصة نابال خير شاهد على ذلك.

وتتلخص القصة في أن داود طمع في شيء من خبز نابال وذبائحه في نظير أنه لم يسلب شيئًا من ممتلكاته من قبل، فأرسل غلمانه ليستجدوه، لكن نابال رفض ذلك أنه لم تكن له سابق معرفة أو علاقة بداود، فما كان من داود إلا أن خرج على رأس جيش من 400 محارب يطلب قتل نابال وأهله.

ولما علمت زوجته أسرعت بهدية ترد بها غضب داود، وبعد فترة قصيرة مات نابال، فأسرع داود إلى أرملته الجميلة إبيجايل وضمها إليه زوجةً، وفي هذا تقول الأسفار:

«كان رجل في معون وأملاكه في الكرمل، وكان الرجل عظيمًا جدًّا، وله ثلاثة آلاف من الغنم، وألف من الماعز، وكان يجز غنمه في الكرمل، واسم الرجل نابال واسم امرأته إبيجايل، وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة.

فسمع داود أن نابال يجز غنمه، فأرسل عشرة غلمان، وقال: ادخلوا إلى نابال واسألوا باسمي عن سلامته، وقولوا: هكذا حييت وأنت سالم وبيتك سالم وكل مالك سالم، حين كان رعاتك معنا لم نؤذهم ولم يُفقَد لهم شيء، فليجد الغلمان نعمة في عينيك؛ لأننا قد جئنا في يوم طيب، فأعطِ ما وجدته يدك لعبيدك ولابنك داود، فجاء الغلمان وكلموا نابال، فأجاب نابال، وقال: من هو داود، قد أكثر اليوم العبيد (الشحاذون) الذين يفحصون كل واحد من أمام سيده آخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازي، وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم.

فتحول غلمان داود إلى طريقهم وأخبروه حسب كل هذا الكلام.

فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه، وتقلد داود أيضًا سيفه، وصعد وراء داود نحو أربع مائة رجل.

فأخبر إبيجايل امرأة نابال غلام من الغلمان قائلاً: انظري ماذا تعملين؛ لأن الشر قد أعد على سيدنا وعلى بيته.

فبادرت إبيجايل وأخذت مائتي رغيف خبز وزقي خمر وخمسة خرفان، وخمس كيلات من الفريك، ومائتي عنقود من الزبيب، ومائتي قرص من التين، ووضعتها على الحمير، وفيما هي راكبة على الحمار، إذا بداود ورجاله منحدرون.

وقال داود: إنما باطلاً حفظت كل ما لهذا في البرية، هكذا يصنع الله لأعداء داود، أن أبقيت من كل ماله إلى ضوء الصباح بائلاً بحائط.

ولما رأت إبيجايل داود أسرعت، وسقطت على وجهها، وسجدت إلى الأرض، وسقطت على رجليه، وقالت: علي أنا يا سيدي هذا الذنب، لم أر غلمان سيدي الذين أرسلتهم، والآن هذه البركة (الهدية) التي أتت بها جاريتك إلى سيدي، فلتعط للغلمان السائرين وراء سيدي واصفح عن ذنب أمتك.

فقال داود لإبيجايل: مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلك هذا اليوم لاستقبالي؛ لأنك منعتني من إتيان الدماء وانتقام يدي لنفسي، إنك لو لم تبادري وتأتي لاستقبالي، لما أبقى لنا بال إلى ضوء الصباح بائل بحائط.

فأخذ داود من يدها، ما أتت به إليه، وقال لها: اصعدي بسلام إلى بيتك.

وبعد عشرة أيام ضرب الرب نابال فمات، فأرسل داود وتكلم مع إبيجايل؛ ليتخذها له امرأة، وقامت إبيجايل وركبت الحمار، وسارت وراء رسل داود، وصارت له امرأة - صموئيل الأول

وقد لطخ كتبة الأسفار تاريخ داود ببقع سوداء كبيرة ترجع - حسب زعمهم - إلى سلوكه وسياسته التي أقامها على مبدأ لا أخلاقي يقضي بأن «الغاية تبرر الوسيلة»، بصرف النظر عما وراء ذلك، فلكي يحافظ داود على حياته، فإنه كان على استعداد تام للحرب في صفوف الفلسطينيين هو ورجاله، كجنود مرتزقة ضد بني جلدته من الإسرائيليين، ولما استنكر رؤساء الفلسطينيين ذلك بغضًا منهم له بسبب عداوته القديمة، كان داود يتوسل إلى أحد ملوكهم - وهو أخيش ملك جت الذي عاش في كنفه - أن يخرج معه للحرب ويعده بالنصر على أعدائه الإسرائيليين ويقول له:

«ستعلم ما يفعل عبدك، ماذا وجدت في عبدك من يوم صرت أمامك إلى اليوم، حتى لا آتي وأحارب أعداء سيدي الملك؟».

المصدر : موقع الألوكة