قانون المغول الذي يطلق عليه اسم الياسا أو الياسة، ياسة، يسق، يساق، اليساق، ياصاي، السياسة الكبيرة، السياسا، كتاب القواعد الكبير أو الحكم والقاعدة والقانون.. كلها أسماء «لميثاق الشرف المغولي»، الذي هو عبارة عن مجموعة من القواعد والأنظمة التي وضعها جنكيز خان باني الإمبراطورية المغولية، هذه القواعد التي شبهها الصينيون بالوصايا العشر، تحولت إلى الكتاب المقدس عند المغول وبعض من تلاهم من الحكام ومنهم بعض الحكام المسلمين، الذين تبنوا أجزاءً من «ياسا» جنكيز خان بما يساعدهم على تثبيت سلطتهم.
تعريف قانون الياسا
يقول مؤرخ المغول، عطا ملك الجويني، في أصل قانون الياسا والهدف من وضعه: «حين منح الله تعالى جنكيز خان العقل والمعرفة وفاق بهما أقرانه، ووهبه القدرة والتسلط على ملوك الدنيا، شرع يبحث عن عادات الأكاسرة والجبابرة ورسوم الفراعنة والقياصرة، ثم أخذ يقتفي في الوقت نفسه عن قانون وعرف يحفظ بهما نظام مملكته وينتصر على خصومه، يجمعهما من العادات ويستنبطها من الخاطر. وكل من قابله أو قاتله استقبله بالأحكام التي وضعها والقوانين التي قننها، آمرًا بها أولاده وأشياعه وأجناده، وبرأيه أن لكل عمل قانونًا، ولكل مصلحة دستورًا، ولكل جرم حدًا».
وبغض النظر عما أورده الجويني حول الأصول التي استنبط منها جنكيز خان قانونه، إلا أنه لم يستطع أن يفرض نظامًا جديدًا لا يستسيغه شعبه، فأخذ العبر من أسرة هيونج نو الصينية، التي كانت قد حكمت القبائل المغولية من قبل، كما تعلم من تجارب بعض الزعماء من مغول وتتار، وأضاف تجاربه الشخصية التي مر بها في وضع مثل هكذا قانون.
كما عمد جنكيز خان إلى قوننة عدد كبير من آداب وأعراف وتقاليد المغول التي كانت سائدة في عصره، وهو ما يؤكده المؤرخ فاسيلي بارتولد في تعريف كتاب الياسا: «هي العرف والتقاليد الشعبية التي أكسبها جنكيز خان صبغة القانون».
الهدف من قانون الياسا
كنا قد أوردنا قول الجويني عن هدف جنكيز خان من قانونه: «.. قانون وعرف يحفظ بهما نظام مملكته وينتصر على خصومه..».
أما المقريزي في خططه، فيعرف الياسا قائلا إن «ياسة كلمة مغولية حرفها أهل مصر، وزادوا بأولها سينا فقالوا: سياسة». ويشرح المقريزي كلمة سياسة بقوله: «ويقال ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به، وهو سائس من قوم ساسة وسوس. وسوسه القوم: جعلوه يسوسهم».
في الواقع، إن جنكيز خان أراد من جهة ومن خلال قانون ياسا، أن يلغي بعضا من العادات الفاسدة التي كانت منتشرة عند القبائل المغولية، كي يستطيع أن «يسوسهم». وهذا ما أكده الجويني عندما ذكر: «.. وفي بواكير هذه المرحلة، والقبائل البدوية ينضم بعضها إلى بعض كانوا على عادات ذميمة، فأخذوا بإزاحتها من أعرافهم، فما كان يقبله العقل أمر جنكيز خان بإثباته». ويضيف ابن فضل الله العمري أن الياسا الجنكيزية قد نسخت «ما كان لهم من قديم عوائد مذمومة بتسليكات محمودة مفهومة».
وهذا ما نلاحظه حيث إن جنكيز خان لم يستطع إلغاء كل العادات والتقاليد المذمومة عند القبائل المغولية، بل حاول تهذيبها شيئا ما، مع الإبقاء على البعض منها كما هي كون بعض هذه العادات من المستحيل تغييرها من خلال قانون واحد وفي فترة زمنية محدودة.
وبذلك عمد جنكيز خان إلى تدوين هذه الآداب والأعراف والتقاليد، فهذب ونقح منها ما يفي بمتطلبات دولته الجديدة، وردّ الآخر، وأضاف بعض الأحكام والقواعد لتصبح قانونًا رسمياً، وأراد من جهة ثانية أن يُفرض على القبائل التي كانت في السابق تعيش كقطعان متوحشة لا ضابط لها، فيحولها بالتالي إلى جيش منظم له خطط ترسم بدقة، تقتحم الممالك والإمارات. ويبين ثروت عكاشة ذلك: «لقد نظمت «الياسة» صفوفهم فجعلت منهم جيشًا فيه تساند وفيه تعاون، لا يتخلى الجندي عن وحدته ولا تتخلى وحدته عنه..».
نماذج من قانون الياسا
يقول الجويني نقلاً عن الياسا: «إن مات صاحب عمل أو أي فرد من الرعية لم يمدوا أيديهم إلى تركته، فإن لم يكن له وريث سلموا أملاكه إلى عبده أو أجيره». ومهما كان الأمر فإن ماله لا يجوز أن يدخل خزانة الملك «لأنهم يعدون مال الميت شؤمًا».
وبالإضافة إلى بعض ما ورد عند الجويني في الياسة، ذكر المقريزي قوانين أخرى هي: «ومن جملة ما شرعه جنكيز خان في الياسة أن من زنى قتل، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن، ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحدهما على الآخر قتل، ومن بال في الماء أو على الرماد قتل، ومن أعطى بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة، ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل، ومن وجد عبدًا هاربًا أو أسيرًا قد هرب ولم يرده على من كان في يده قتل.
وأن الحيوان تكتف قوائمه ويشق بطنه ويمرس قلبه إلى أن يموت ثم يؤكل لحمه، وأن من ذبح حيوانًا كذبيحة المسلمين ذبح».
«.. وألزم قومه ألا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أولا، ولو أنه أمير ومن يناوله أسير وألزمهم ألا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه، بل يشركه معه في أكله، وألزمهم ألا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه، ولا يتخطى أحد نارًا أو مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه، وأن من مر بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويأكل معهم من غير إذنهم وليس لأحد منعه.. وألزمهم ألا يدخل أحد منهم يده في الماء ولكنه يتناول الماء بشيء يغرفه به، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى، ومنع من أن يقال لشيء إنه نجس، وقال جميع الأشياء طاهرة، ولم يفرق بين طاهر ونجس..».
هذا جزء يسير من بعض ما ورد في ياسا جنكيز خان، نفهم من خلاله بعض العادات والتقاليد التي كانت منتشرة بينهم والتي على الرغم من سوئها فإنها هذبت على ما نقل المؤرخون أو أبقي على بعضها لتصبح قانونا.
وبما أن المغول لم تكن لهم كتابة خاصة بهم، فقد اعتمد جنكيز خان على الكتابة الإيغورية في تدوين هذا القانون، وهي تتحدر من اللغة التركية، وأمر بأن يتعلم أبناء المغول الخط الإيغوري، حفاظًا على هذا القانون من جهة وللرفع من المستوى الثقافي عند قبائل المغول، فالإيغوريون كانوا قبائل أثرت التراث الثقافي الصيني بالمؤلفات والكتب والموسيقى والفنون، وهي مداميك في بناء الدولة التي كان يطمح جنكيز خان أن يضم إليها أراضي وشعوبا مختلفة، تملك ثقافة وحضارة راسخة في التاريخ، فخشي الخان أن تذوب دولته الناشئة أمام تلك الحضارات، فتبنى الثقافة الإيغورية التي كانت تعيش بين المغول بدلاً من ثقافة غريبة أو بعيدة.
أثر بعض الأديان في قانون الياسا
كان جنكيز خان شخصية سياسية ترغب في أن تتعلم من تجارب الآخرين، والاستفادة من أصحاب الخبرة وذوي الاطلاع، ففي دار ملكه في قراقورم، عاصمة المغول، وجد مجموعة من المستشارين، منهم المسلم والمسيحي والبوذي ومن عبدة الأوثان كما عرف البلاط المغولي وجود التجار المسلمين الذين اطلع عبرهم على أحوال البلاد وحكامها، وعلاقاتهم والأوضاع الاقتصادية والسياسية داخل دولهم.
وبذلك يظهر أن الخان المغولي كان مطلعًا على الأديان كافة من سماوية ووضعية، وعلى عدد كبير من التقاليد والأعراف وأنظمة الشعوب المختلفة التي عرفت في عصره.
وقد ورد في قانون الياسا ما يثبت ذلك من خلال بعض القواعد التي أكدت احترام وقدسية الديانات، وحرية المعتقد، وفي ذلك يقول الجويني: «.. ولما لم يكن معتقدًا بدين معين (جنكيز خان) فإنه لم يتعصب لملة على ملة، تاركًا المرء وما يعتقد، في حين أن علماء كل أمة وزهادها مكرمون معززون، ويعدون إكرامهم وسيلة للتقرب إلى الله، وهم ينظرون إلى المسلمين نظرة توقير، ويعزون الرهبان وعبدة الأوثان، أما أولادهم فكانوا مخيرين بالدين الذي ينتمون إليه، فبعضهم تقلد شعائر الإسلام، وبعضهم سار سير النصارى، وطائفة عبدت الأوثان، كما ظلت فئة تعتقد اعتقاد أجدادها القدماء، فلم تمل إلى دين معين، ولم تكن طائفة تدخل في الدين وتتعصب له، بل تتقلده وتسير على تعاليمه، كما جاء في قانون جنكيز خان أن الناس متساوون جميعًا لا فرق بينهم..».
ويضيف ابن فضل الله العمري نقلا عن الجويني: «إن من أولاده (جنكيز خان) من كان بملة عيسى، ومن بملة موسى، ومنهم من أخرج الجميع، وكل من اعتقد من بنيه مذهبًا لم يكن له تعصب على غيره، ومنهم من تقرب بالأصنام..».
ولكننا عند العودة إلى المصادر والمراجع التاريخية، نجد أن جنكيز خان كان من أتباع الديانة الشامانية، وهي ديانة وثنية تتمثل في عبادة كل شيء يسمو على مدارك العقول، وتظهر أيضًا من خلال عبادة كل شيء يرهبونه ويخشونه. وقد تكون الشامانية قد تأثرت بالديانات السماوية ودخلت بعض المصطلحات الدينية إليها عبر العصور، من خلال التجار المسلمين، أو من خلال حملات التبشير المسيحي التي آمنت بها بعض قبائل المغول (الكرايت)، وحتى من خلال الديانة اليهودية. وهو ما ظهر من خلال ابن فضل الله العمري في نقله عن الجويني: «دان بملة موسى»، عن بعض المغول، مما يظهر أن الأديان السماوية كانت منتشرة عندهم. ويظهر ذلك من خلال أن جنكيز خان وبعد أن سيطر على بعض أقاليم خوارزم أرسل وراء بعض العلماء المسلمين وسألهم: «عن الإسلام وأركانه.. فقيل له: إن أولها توحيد الله سبحانه وتعالى، فقال: أنا أيضا أعتقد أن الله واحد. كذلك وافق على بقية أركان الإسلام ما عدا الحج إذ قال عنه إنه لا فائدة منه، لأن الأرض كلها لله، ولا داعي لتخصيص مكان معين».
بذلك نلاحظ أن القبائل المغولية قد عرفت الياسا، الإسلام والمسيحية واليهودية، كما دخلت إليها بعض الأديان الأخرى التي كانت منتشرة في وسط وشرق آسيا، ومنها البوذية. وخوفًا من حصول انقسام ديني بين هذه القبائل، فرض جنكيز خان في قانونه احترام كل الأديان، وسمح بحرية العبادة مع منعه للتعصب الديني، من خلال معاقبة من يتعصبون لدين على آخر.
هذا الاحترام للأديان في قانون الياسا ظهر واضحًا عند المقريزي من خلال النص الذي نقله هذا الأخير عن أحد الأشخاص الذي أبلغه بأنه رأى نسخة من الياسا في خزانة المدرسة المستنصرية في بغداد، ومما ورد في هذا النص: «ألا يكون على أحد من ولد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مؤنة ولا كلفة، وألا يكون على أحد من الفقراء، ولا القراء، ولا الفقهاء، ولا الأطباء، ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى». وقد يكون الإتيان على ذكر إسقاط المؤنة والكلفة عن ولد علي بن أبي طالب، قد أضيف على الياسا بعد احتلال جنكيز خان لبلاد خوارزم، بهدف استمالة سكانها الذين «أكثرهم كانوا يدينون بمذهب الشيعة».
كما كان للديانة المسيحية مكانتها عند جنكيز خان، فقد كانت قبيلة الكرايت المغولية تدين بالمسيحية، فتروج الخان من ابنة رئيس هذه القبيلة.
وبالتالي نستطيع أن نفهم غايات جنكيز خان من وراء الياسا، مما أورده ابن الطقطقي في كتابه عندما قال: «ولم ينقل في تاريخ، ولا تضمنت سيرة من السير أن دولة من الدول رزقت من طاعة جندها ورعاياها ما رزقته هذه الدولة القاهرة المغولية، فإن طاعة جندها ورعاياها لم ترزقها دولة من الدول».
وهكذا استطاع ذلك القائد المحنك، أن يوحد صفوف شعبه الذي كان عبارة عن مجموعة من القبائل والعشائر المتفرقة، التي تحكمت بها مجموعة من التقاليد والعادات البائدة، مع ما أحاط بهذه القبائل من أخطار، حيث خضع بعضها لأسرة ملوك كين الصينية، والآخر لملك قبيلة كرائيت التترية، والبعض للأتراك القرخطائيين، هذا بالإضافة إلى صراعاتهم الداخلية. إن «ياسا» جنكيز خان كانت من أعظم الدساتير الوضعية، التي استمرت حتى بعد زوال دولة المغول، فطبقها التيموريون، وتبنى سلاطين المماليك بعض قواعدها كما سلاطين بني عثمان، الذين أخذوا من بعض قواعد قانون الياسا، وخصوصا.
المصدر : مجلة العربي الكويتية ـ العدد 661