يوم الكلاب الأول:

قال ابن الكلبي: أول من اشتد ملكه من كندة حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي، فلما هلك ملك بعده ابنه عمور مثل ملك أبيه فسمي المقصور لأنه قصر على ملك أبيه، فتزوج عمرو أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني، فولدت له الحارث، فملك بعد أبيه أربعين سنة، وقيل: ستين سنة، فخرج يتصيد فرأى عانة وهي حمر الوحش، فشد عليها، فانفرد منها حمار، فتتبعه وأقسم أن لا يأكل شيئاً قبل كبده، وهو بمسحلان، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، فأتي به وقد كادي موت من الجوع، فشوي على النار وأطعم من كبده وهي حارة، فمات، وكان الحارث فرق بنيه في قبائل معد، فجعل حجراً في بني أسد وكنانة، وهو أكبر ولده؛ وجعل شرحبيل في بكر بن وائل وبني حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني أسيد بن عمرو بن تيمم، والرباب؛ وجعل سلمة، وهو أصغرهم، في بني تغلب والنمر بن قاسط وبني سعد بن زيد مناة بن تميم؛ وجعل ابنه معدي كرب، ويعرف بغلفاء، في قيس عيلان، وقد تقدم هذا في قتل حجر أبي امرئ القيس، وإنما أعدناه ها هنا للحاجة إليه.
فلما هلك الحارث تشتت أمر أولاده وتفرقت كلمتهم ومشى بينهم الرجال، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش، فسار شرحبيل فيمن معه من الجيوش فنزل الكلاب، وهو ماء بين البصرة والكوفة. وأقبل سلمة فيمن معه وفي الصنائع أيضاً، وهم قوم كانوا مع الملوك من شذاذ العرب، فأقبلوا إلى الكلاب وعلى تغلب السفاح بن خالد بن كعب ابن زهير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثبت بعضهم لبعض. فلما كان آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانهزموا، وثبتت بكر وانصرفت بنو سعد ومن معها عن تغلب وصبرت تغلب، ونادى منادي شرحبيل: من أتاني برأس سلمة فله مائة من الإبل، ونادى منادي سلمة: من أتاني برأس شرحبيل فله مائة من الإبل. فاشتد القتال حينئذ كل يطلب أن يظفر لعله يصل إلى قتل أحد الرجلين ليأخذ مائة من الإبل. فكانت الغلبة آخر النهار لتغلب وسلمة، ومضى شرحبيل منهزماً، فتبعه ذو السنينة التغلبي، فالتفت إليه شرحبيل فضربه على ركبته فأطن رجله، وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه، فقال لأخيه: قتلني الرجل! وهلك ذو السنينة! فقال أبو حنش لشرحبيل: قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليه فأدركه،فقال: يا أبا حنش اللبن اللبن! يعني الدية. فقال: قد هرقت لبناً كثيراً! فقال: يا أبا حنش املكاً بسوقة؟ فقال: إن أخي ملكي. فطعنه فأقاه عن فرسه ونزل إليه فأخذ رأسه وبعث به إلى سلمة مع ابن عم له، فأتاه به وألقان بين يديه، فقال سلمة: لو كنت ألقيته أرفق من هذا! وعرفت الندامة في وجه سلمة والجزع عليه. فهرب أبو حنش منه، فقال سلمة:
ألا أبلغ أبا حنشٍ رسولاً ** فما لك لا تجيء إلى الثّواب

لتعلم أنّ خير الناس طرّاً ** قتيلٌ بين أحجار الكلاب

تداعت حوله جشم بن بكر ** وأسلمه جعاسيس الرّباب

فأجابه أبو حنش فقال:
أحاذر أن أجيئك ثم تحبو ** حباء أبيك يوم صنيبعات

وكانت غدرةٌ شنعاء تهفو ** تقلّدها أبوك إلى الممات

وكان سبب يوم صنيبعات أن ابناً للحارث كان مسترضعاً في تميم وبكر ولدغته حية فمات، فأخذ خمسين رجلاً من تميم وخمسين رجلاً من بكر فقتلهم به. ولما قتل شرحبيل قام بنو زيد مناة بن تميم دون أهله وعياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم؛ ولما بلغ خبر قتله أخاه معدي كرب، وهو غلفاء، قال يرثيه:
إنّ جنبي عن الفراش لنابي ** كتجافي الأسرّ فوق الظّراب

من حديثٍ نمى إليّ فما تر ** قأ عيني ولا أسيغ شرابي

مرّة كالذّعاف أكتمها النا ** س على حرّملّة كالشهاب

من شرحبيل إذ تعاوره الأر ** ماح من بعد لذّةٍ وشباب

يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ** عو تميماً وأنت غير مجاب

ثمّ طاعنت من ورائك حتّى ** يبلغ الرحب أو تبزّ ثيابي

أحسنت وائلٌ وعادتها الإح ** سان بالحنو يوم ضرب الرقاب

يوم فرّت بنو تميم وولّت ** خيلهم يكتسعن بالأذناب

وهي طويلة؛ ثم إن تغلب أخرجوا سلمة من بينهم فلجأ إلى بكر بن وائل وانضم إليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس اللخمي.
الكلاب بضم الكاف. أسيد بن عمرو بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وتشديد الياء المثناة من تحت. وذو السنينة بضم السين المهملة، تصغير سن. والرباب بكسر الراء، وتخفيف الباء الأولى الموحدة.