ثم إن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا. فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة، ومكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببعاث، وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج مرو بن النعمان البياضي، وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس. فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً.
ثم إن الأوس وجدت مس السلاح فولوا منهزمين نحو العريض. فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان منى بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله، فبينا عبد الله بن أبي ابن سلول يتردد راكباً قريباً من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو ابن النعمان قتيلاً في عباءة يحمله أربعة رجال، كما كان قال له. فلما رآه قال ذق وبال البغي! وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم. وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم، فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، وقد تقدم ذكره، ونجى يومئذٍ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أخذه فج وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني القريظة، وسنذكره.
وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء بالإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله وكفى الله المؤمنين القتال.
وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي:
أتعرف رسماً كالطّراز المذهب ** لعمرة ركباً غير موقف راكب

ديار التي كانت ونحن على منىً ** تحلّ بنا لولا رجاء الركائب

تبدّت لنا كالشمس تحت ** زبدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب

ومنها:
وكنت امرأً أبعث الحرب ظالماً ** فلمّا أبوا شعّلتها كلّ جانب

أذنت بدفع الحرب حتّى رأيتها ** عن الدفع لا تزداد غير تقارب

فلمّا رأيت الحرب حرباً تجرّدت ** لبست مع البردين ثوب المحارب

مضعّفة يغشى الأنامل ريعها ** كأنّ قتيريها عيون الجنادب

ترى قصد المرّان تلقى كأنّها ** تذرّع خرصان بأيدي الشواطب

وسامحني ملكاهنين ومالك ** وثعلبة الأخيار رهط القباقب

رجالٌ متى يدعوا إلى الحرب يسرعوا ** كمشي الجمال المشعلات المصاعب

إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا ** صدود الخدود وازورار المناكب

صدود الخدود والقنا متشاجر ** ولا تبرح الأقدام عند التضارب

ظأرناكم بالبيض حتّى لأنتم ** أذلّ من السّقبان بين الحلائب

يجرّدن بيضاً كلّ يوم كريهةٍ ** ويرجعن حمراً جارحات المضارب

لقيتكم يوم الحدائق حاسراً ** كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب

ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ** إلى حسبٍ في جذم غسّان ثاقب

قتلناكم يوم الفجار وقبله ** ويوم بعاث كان يوم التغالب

أتت عصبٌ للأوس تخطر بالقنا ** كمشي الأسود في رشاش الأهاضب

فأجابه عبد الله بن رواحة:
أشاقتك ليلى في الخليط المجانب ** نعم، فرشاش الدمع في الصدر غالب

بكى إثر من شطّت نواه ولم يقم ** لحاجة محزونٍ شكا الحبّ ناصب

لدن غدوةً حتى إذا الشمس عارضت ** أراحت له من لبّه كلّ عازب

نحامي على أحسابنا بتلادنا ** لمفتقر أو سائل الحقّ واجب

وأعمى هدته للسبيل سيوفنا ** وخصمٍ أقمنا بعدما ثجّ ثاعب

ومعتركٍ ضنكٍ يرى الموت وسطه ** مشينا له مشي الجمال المصاعب

برجلٍ ترى الماذيّ فوق جلودهم ** وبيضاً نقيّاً مثل لون الكواكب

وهم حسّرٌ لا في الدروع تخالهم ** أسوداً متى تنشا الرماح تضارب

معاقلهم في كلّ يوم كريهةٍ ** مع الصدق منسوب السيوف القواضب

وهي طويلة.
وليلى التي شبب بها ابن رواحة هي أخت قيس بن الخطيم، وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري.
بعاث بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة، وقال صاحب كتاب العين وحده: وهو بالغين المعجمة.