بسم الله الرحمن الرحيم




قصة الملكة الزباء وما فيها من أمثال





قال الطبري :"فملكت بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة". قال: "وكان جنودها بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وسليح وتزيد ابني حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة".
"وكان للزباء أخت يقال لها زينة، فبنت قصراً حصيناً على الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها ثم تصير إلى تدمر".
قال: "فلما اجتمع للزباء ملكها أخذت في غزو جذيمة مطالبة بثأر أبيها، فقالت لها أختها زينة وكانت ذات رأي ودهاء: يا زباء، إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده؛ إن ظفرت أصبت ثأرك، وإن قتلت ذهب ملكك، والحرب سجال وعثراتها لا تقال. وإن كعبك لم غيرا. وما تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تدور الدائرة. فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحة، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت.
فانصرفت عما كانت قد أجمعت عليه من غزو جذيمة، وأتت أمرها من وجوه الحيل والخدع والمكر؛ فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن تصل ببلادها ببلاده. وكان فيما كتبت به: أنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع، وضعف السلطان، وقلة ضبط الملكة، وأنها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤاً؛ فأقبل إلي، واجمع ملكي إلى ملكك، وقومي إلى قومك".
فلما وقف على كتابها استخفه ما دعته إليه، وجمع أهل رأيه وهو ببقة على الفرات، فأجمعوا رأيهم على أن يسير إليها ويضم ملكها إلى ملكه. وكان فيهم قصير بن سعد اللخمي، فخالفهم وقال: "رأي فاتر وغدر حاضر"، فذهبت مثلا. وقال لجذيمة: اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها وأنت واتر لها في أبيها. فقال له جذيمة: أنت امرؤ "رأيك في الكن لا في الضح"، فذهبت مثلا ودعا جذيمة ابن اخته عمرو بن عدي اللخمي فاستشاره، فشجعه على السير، وقال: إنما قومي مع الزباء، ولو قد رأوك لصاروا معك، فأطاعه. فقال قصير: "لا يطاع لقصير رأي"، فذهبت مثلا".
"واستخلف جذيمة ابن اخته على ملكه، وسار إلى أن قارب حصن الزباء وهو بالجانب الغربي من الفرات، فدعا قصيرا وقال: ما الرأي؟ فقال: "ببقة تركت الرأي"، فذهبت مثلا".
"واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال: "خطر يسير في خطب كبير"، فذهبت مثلا.
ثم قال له: وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبك وأحاطت بك من خلفك فإن القوم غادرون، فاركب العصا - وكانت فرساً لا تجارى. وفي رواية: واركب العصا فإنه "لا يشق غباره" فذهبت مثلاً. وركب قصير العصا وسايره، فلقيته الخيول والكتائب فحالت بينه وبين العصا، فنجا عليها قصير. ونظر إليه جذيمة موليا على متنها، فقال: "ويل أمه حزماً على ظهره العصا"، فذهبت مثلا. وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا. وقالت العرب: "خبر ما جاءت به العصا".
"وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على الزباء. فلما رأته تكشفت فإذا هي مضمورة العانة، فقالت: يا جذيمة، "أدأب عروس ترى؟" فذهبت مثلا. فقال: "بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى" فذهبت مثلا. ثم قالت: أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأسقته الخمر حتى إذا تملأ منها أمرت براهشيه فقطعا، وقدم إليه الطست - وكانت قد قيل لها: إن قطرت من دمه قطرة في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال تكرمة - فلما ضعفت يداه سقطتا، فتقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: "دعوا دماً ضيعه أهله"، فذهبت مثلا".
"فهلك جذيمة، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة، فقال قصير: أدائر أم ثائر؟ قال: "لا بل ثائر سائر"، فذهبت مثلا. ثم حرضه على المسير إليها، فقال: فكيف لي بها وهي "أمنع من عقاب الجو"؟ فذهبت مثلا".
"وكانت الزباء قد سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين، وهو عمرو بن عدي. ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله يكون ذلك. فحذرت عمراً، واتخذت نفقاً من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني. ودعت رجلا حاذقا بالتصوير، وأمرته أن يسير إلى بلد عمرو، ويخالط حشمه ويتقرب إليهم حتى يصور عمراً على جميع هيئاته فلما أتقن ذلك رجع إليها به".
ثم إن قصير قال لعمرو بن عدي: اجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، ولا أنت لذلك مستحق. فقال قصير: "افعل ذاك وخلاك ذم"، فذهبت مثلا. وقالت العرب لما فعل به ذلك: "لأمر ما جدع قصير أنفه" ثم خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمراً فعل به ذلك وقد ظن أنه مكر بخاله جذيمة ومكن الزباء منه. وسار إلى الزباء، فلما رأته على تلك الحال سألته فأخبرها، وقال: فأقبلت إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك! فألطفته وأكرمته، وأصابت عنده من الرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك ما قرب منزلته منها إلى أن وثقت به. فقال لها: إن لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزها وطرائفها ما ندخر وما نصيب فيه أرباحاً عظيمة. وزين لها الكلام حتى أمال سمعها، فأعطته الأموال، وسرحته لذلك. فسار حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكراً، فدخل على عمرو وأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء. فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء. ولما عرضه عليها ملأ عينها، وأعجبها ما رأت منه، وسرها ما أتاها به، فزادت به ثقة وله محبة. ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، ولم يترك جهداً فيما حمله".
ثم عاد الثالثة إلى العراق، وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح. ثم حمل رجلين في غرارتين، وجعل مقعد رؤوس الغرائر من بواطنها، واتفق معهم على ما فعلوه".
"ولما شارفوا مدينتها تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها بكثرة ما حمل إليها في هذه المرة، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطار تلك الإبل وما عليها، وقال لها: فاني قد "جئت بماء صاء وصمت"، فذهبت مثلا. قال ابن الكلبي: وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل، وهو أول من فعل ذلك".
قال الطبري: "فخرجت الزباء، وأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من الثقل، فقالت: يا قصير،

ما للجمال مشيها وئيدا!
أجندلا يحملن أم حـديدا
أم صرفاناً بارداً شـديدا
أم الرجال فوقها قعودا؟

قال البيهقي: والصرفان الرصاص.
قال: "فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعيراً على بواب المدينة، وهو نبطي بيده منخسة، فنخس الغرارة فأصاب [خاصرة الرجل الذي فيها]، فضرط. فقال النبطي: "في الجواليق شر"، فذهبت مثلا.
"فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت. ودل قصير عمراً على باب النفق قبل ذلك، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح. وقف عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء مبادرة النفق لتدخله، فأبصرت عمراً واقفاً، فعرفته بالصورة التي كان مصورها قد أتقنها، فمصت خاتمها وكان فيه سم، وقالت: "بيدي لا بيدك يا عمرو". فذهبت مثلاً. وجللها عمرو بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعاً إلى العراق".
قال البيهقي: وتفرق جند الزباء، وليس بعدها للعمالقة هنالك خبر مذكور.