بحر العلوم
آل بحر العلوم من أرفع الأسر الهاشمية في العراق بما حَظِيَت به من الشرف الباذخ والعز الشامخ في مجال العلم والادب والدين، ولعلها من أوفر الأسر العلوية حظاً في هذه الحقول الرفيعة.
وهي من الاسر « الطباطبائية » التي يرتقى نسبها إلى إبراهيم طباطبا ابن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغَمر بن الحسن المثنّى بن الإمام الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السّلام.
وقد حفلت هذه السلالة الزاكية بعدد كبير من العظماء والعلماء ونوابغ الشعراء واكابر الامراء ممن خدموا العلم والادب، واقاموا دعائم الدين الحنيف وعززوا شعائره، ودوّنوا لخلفهم تاريخاً مجيداً وشرفاً خالداً تحفه هالة من الاجلال والتمجيد.
ومن ابرز رجال هذه السلالة الطاهرة جدهم الكبير العلاّمة السيّد محمد مهدي الطباطبائي الذي كان من أكبر علماء المسلمين في عصره، ومن ابرز الرؤساء الروحانيين، ومن اعظم النوابغ المصلحين، حتّى آلت اليه المرجعية العليا للشرع الحنيف لا عند الاماميين من المسلمين فحسب بل عند سائر الطوائف، فكانت تلجأ إليه في الملمات مستعينة بسداد رأيه لتميزه الملحوظ برجاحة الفكر وسعة الاطلاع في مختلف العلوم وانواع الفنون بحيث لقّبه اعلام عصره بـ « بحر العلوم »، وأصبح هذا اللقب خاصاً به ومنحصراً فيه مع وجود أقران عظام له من كبار الاعلام المناظرين له في عصره كالسيّد محمد مهدي الموسوي الذي كان من كبار شيوخ الاجازة العلمية يومها في كربلاء وغيره من امثاله، وقد اصبح السيّد محمد مهدي الطباطبائي مشتهراً بين الانام، بـ « بحر العلوم » وغلب هذا اللقب على نسبه الذي كان يعرف به من قبل.
ولد هذا السيّد الجليل في مدينة كربلاء ليلة الجمعة 25 شوال سنة 1154هـ، وتوفي في النجف 13 رجب سنة 1212هـ عن 58 عاماً. وكانت الرئاسة الروحية العليا بها منحصرة فيه طوال حياته، ومن بعده في ارشد ولده السيّد رضا بحر العلوم الذي كان أيضاً من كبار العلماء المجتهدين في عصره.
وقد دون السيّد محمد مهدي نسبه بخطّه المثبت في مشجّرات النسّابة السيّد جعفر الأعرجي على النحو التالي: السيّد محمّد مهدي بن العالم الفقيه السيّد مرتضى بن محمد بن عبدالكريم بن مراد بن أسد الله بن جلال الدين بن الامير حسن بن مجد الدين بن قوام الدين الذي هو جد اسرة « شريف العلماء الطباطبائية » وأسرة « آل السيّد محسن الحكيم الطباطبائية »، وأسر عديدة ينتهي نسبها إليه. والسيّد قوام الدين هذا هو ابن إسماعيل بن عباد بن أبي المكارم بن عباد بن أبو المجد بن عباد بن علي ابن حمزة بن طاهر بن علي بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغَمر بن الحسن المثنّى بن الإمام الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السّلام.
أمّا مآثره وآثاره، فإضافة إلى مرجعيته العلمية والدينية الكبرى قام بعدة انجازات منها تعيين وتثبيت مشاعر الحج ومواقيت الإحرام على الوجهة الشرعية الصحيحة وتصدّيه واهتمامه في ردم أرض مسجد الكوفة بالتراب، وتعيين وتشييد مقام الإمام محمد المهدي عليه السّلام في مسجد السهلة، وبناء قبّة من القاشاني الأزرق عليه كما هو عليه اليوم، وتعيين وتشييد مرقَدَي النبي هود والنبي صالح عليهما السّلام في وادي السلام في النجف الاشرف، وبناء مئذنة الصحن الحيدري الشريف الجنوبية، وتعمير جدران الصحن، وتجديد بناء جامع الشيخ الطوسي رضي الله عنه.
ومن غريب ما يروى عن هذا العالم الجليل السيّد مهدي بحر العلوم حين اشرف على الوفاة أنّه قال: أريد أن يصلي عليّ السيّد محمد مهدي الموسوي، وكان صديقه وقرينه في الزعامة الروحية المنفردة به في كربلاء، ولم تكن الوسائط ميسرة لإشعار صديقه عن حالته، وحالما تُوفي دخل عليه السيّد الموسوي قادماً من كربلاء على رَسله بقصد زيارته وعيادته. وقد شاء الله أن يحقّق ما أراد، فصلى عليه إماماً لجموع المشيّعين لجثمانه. وتوفى السيّد الموسوي بعده عام 1216هـ، ودفن في الحرم الحسيني بكربلاء.
والسيّد محمد مهدي بحر العلوم الكبير هو جد جميع المنتسبين إلى سلالته من أسر « آل بحر العلوم » في كربلاء والنجف وبغداد وسائر المدن العراقية وخارج القطر، فانهم إليه يُنسَبون وقد جاوزوا خمسين أسرة.
ومن مشاهير أحفاده:
أولاً: العالم الجليل السيّد حسين بحر العلوم الكبير بن السيّد رضا بن السيّد محمد مهدي المذكور. وقد ولد في النجف سنة 1221هـ واصبح من كبار علمائها الاعلام ومن فحول شعرائها المبرزين ومن الزهاد المبتعدين عن دروب الزعامة الروحية. وقد توفى في النجف في 25 ذي الحجة سنة 1306هـ، ودفن فيها عن عدة أولاد، كبيرهم العالم الجليل السيّد إبراهيم الطباطبائي أمير شعراء عصره بلا منازع واستاذ مشاهير الشعراء الذين منهم السيّد محمد سعيد الحبوبي والشيخ عبدالحسين الحويزي والشيخ عبدالمحسن الكاظمي وأخوه العالم الجليل الشيخ حسين الكاظمي.. ولرفعة مكانته الروحية وعلوّ منزلته الدينية في النجف لم يحفل بالشعر قدر اهتمامه بمهامّه الدينية، وقد اجمع الشعراء من أصحابه على أن اللغة العربية لم تحظ بشاعر يضارعه في النظم المرتجل للقصائد الطوال، مع رقة النظم وسلاسة التعبير وروعة الوصف وسموّ الخيال مع طابع البداوة للشعراء الأُول ما حظي به السيّد إبراهيم الطباطبائي، ونحا نحو كبار الشعراء المذكورين من تلاميذه. وكان بحق فحلاً من فحول شعراء العراق وجهبذاً من جهابذة الادب واللغة في دنيا البلاد لم يذكر له من قرين. ولد في النجف سنة 1248هـ، وتوفي فيها سنة 1319هـ عن ولدين هما: السيّد حسن والسيّد محمد اللذان طبعا ديوان أبيهما عام 1331هـ.
ثانياً: السيّد محمد علي بحر العلوم بن السيّد علي تقي بن السيّد محمد تقي بن السيّد رضا بن السيّد محمد مهدي بحر العلوم الكبير. والسيّد محمد علي هذا ولد في النجف عام 1287هـ وأصبح في عداد رجال الدين المتميزين بنشاطهم الاجتماعي والسياسي، واشترك في النهضة العلمية والاصلاحية التي رفع لواها عام 1331هـ العلامة الحجّة السيّد هبة الدين الحسيني الموسوي في النجف، يساعده تلامذته كل من الشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ عبدالعزيز الجواهري الأخ الاكبر لمحمد مهدي الجواهري ومحمد سعيد كمال الدين. وكان السيّد محمد علي بحر العلوم من أنشط أركان هذه النهضة الاصلاحية في مطلع القرن الماضي، كما تجلّت موافقه خلال الحرب العالمية الاولى ضد الانكليز عند احتلالهم العراق، فقبضوا عليه وحكمت المحكمة العُرفية بنفيه من العراق. وبعد تشكيل الحكم الوطني وتتويج الشريف فيصل بن الحسين ملكاً على العراق في 23 آب عام 1921 رحّب به الملك فيصل بوصفه من المناصرين له، ثم عيّنه عضواً في أول دورة لمجلس الاعيان، واختير نائباً لرئيس المجلس، وجدّدت عضويته فيه إلى أن توفي في بغداد عام 1936، ودفن في مقبرة الأسرة بالنجف الاشرف. وكان ابنه السيّد ضياء الدين بحر العلوم قاضياً للشرع الحنيف، ثم عضواً في مجلس التمييز الشرعي الجعفري، ثم رئيساً له إلى أن أحيل على التقاعد. كما ان حفيده ابن السيّد ضياء الدين ـ وهو السيّد نور الدين بحر العلوم ـ أمضى في القضاء الشرعي اكثر من ثلاثين عاماً قاضياً للشرع، إلى ان تقاعد وسلك مسلك المحاماة، ويعتبر من عيون هذه الأسرة الجليلة في الوقت الحاضر.
ثالثاً: السيّد محمد مهدي الطباطبائي من آل بحر العلوم الذي سكن كربلاء طوال حياته، وهو ابن السيّد حسن بن محمد تقي بن السيّد رضا بن محمد مهدي بحر العلوم، وكان لقبه بـ « المرزه كُجك » بالتركية تعني الصغير بالنسبة إلى جدّه الكبير. وكان هذا من وجوه كربلاء المبرّزين بحكم أسرته الجليلة وهممه العالية، فقد اختير عدة مرات العضو الاول في المجلس البلدي أيام العثمانيين، ولما احتلّ الانكليز العراق جعلوه ضمن اجهزة الادارة في كربلاء، ولما كلف الحاكم السياسي العام والمندوب السامي البريطاني في بغداد برسي كُوكْس نقيبَ اشراف بغداد السيّد عبدالرحمن النقيب تأليف اول وزارة محلية باسم الحكومة المؤقتة في البلاد وشكلها في 25 تشرين الاول 1920 أدركوا أن حكومتهم هذه تفتقر إلى عضو يكمل نصاب التوازن الوزاري فيها، فاختاروا في 22 شباط 1921 السيّد محمد مهدي بحر العلوم الكربلائي إلى منصب وزارة المعارف والصحة. وبقيت هذه الوزارة عشرة شهور تدير دفة البلاد تحت نظارة المندوب السامي إلى 23 آب 1921 حيث تنحّت دستورياً عن الحكم. وبقي السيّد محمد مهدي بحر العلوم من وجهاء كربلاء المبرزين إلى ان انتقل إلى رحاب ربه عن ولد واحد هو السيّد صالح بحر العلوم الذي انتُخب نائباً عن مدينة كربلاء في البرلمان أواخر العهد الملكي إلى أن انطوت أعلام العهد في 14 تموز 1958 وأقيم الحكم الجمهوري في البلاد.
رابعاً: شاعر الشعب السيّد محمد صالح بحر العلوم ابن السيّد مهدي بن السيّد محسن بن السيّد حسين الكبير بن السيّد رضا بن السيّد محمد مهدي بحر العلوم الكبير. وقد لمع هذا الشاعر الثوري الذي ولد في النجف عام 1328هـ ونشأ بها وبرع في نظم الشعر الرائع المتميز بسلاسته وثوريته، واصبح كما عرف عنه شاعر الجماهير الثورية. خلف بعده مجموعة من الدواوين المخطوطة وأعقب اربعة رجال هم: ناظم وسالم وعاصم وحازم هم تركته بعده.
خامساً: السيّد حسين بن السيّد محمد تقي بن السيّد حسن بن السيّد إبراهيم الطباطبائي الشهير ببحر العلوم ابن السيّد حسين الكبير بن السيّد رضا بن السيّد محمد مهدي بحر العلوم رأس الاسرة. وقد ولد هذا السيّد الجليل عام 1347هـ الموافق 1928م في النجف ونشأ بها على نهج والده العلامة الحجة وعلى كبار اعلام النجف، وفي مقدمتهم السيّد أبو القاسم الخوئي، حتّى حاز درجة الاجتهاد في العلوم الدينية. وكان في مطلع شبابه اديباً لامعاً وشاعراً بارعاً حفلت الصحف العراقية بنشر الكثير من شعره الرائع، وحقّق العديد من الكتب العلمية. وبعد وفاة والده عام 1965 انصرف إلى الناحية الدينية وتدريس الفقه والأصول، وهو اليوم من كبار الاساتذة الاعلام في تدريسها ومن المراجع الدينية الجليلة في النجف فهو منصرف إلى التدريس الديني فقط.
وهناك اعلام آخرون مبرزون من افراد هذه الاسرة الجليلة هم موضع تجلّة الاوساط العلمية في العالم الإسلامي.