في قراءة جديدة لرسائل الرسام الهولندي الساحر فان كوخ، ضمتها سيرة ذاتية صدرت مؤخرا عن هذا الفنان العبقري، للكاتب الأميركي جوليان بيل، الصادرة عن دار نشر هوتون ميفلين هاركورت بمدينة بوسطن بأميركا، وهي الدار المتخصصة بطبع المراجع وكتب السير والخيال الأدبي.

والسيرة كما يقول كاتبها بيل بدأت متأخرة بعض الشيء، حيث تطالعنا صفحة مجهولة من حياة الفنان كوخ يقول فيها "وبعد أن ذاعت شهرته كرسام استأجر نجارا ليصنع له حول نافذة بيته المطلة على الريف الهولندي الساحر إطارا، وكأنه يضع من خلاله اللمسات الأخيرة للوحة فنية احتوت ذلك المنظر الخلاب الذي نقله إلى قماشة الرسم بسهولة محققا ريادة فنية لم يسبقه فيها أحد من قبل.

وهي "بعض لمحات عبقريته" كما يقول بيل الذي يمضي برواية تجربته تلك "وبعد سنوات قليلة من تلك التجربة عانى فان كوخ سلسلة من الأزمات النفسية التي أرسلته إلى مشفى سان ريمي في فرنسا".

ومن هناك عاد مرة أخرى ينظر من خلال نافذة غرفة نومه إلى الطبيعة الفرنسية الغناء، لكنه هذه المرة بعيدا عن الإطار الخشبي الذي صنعه له ذلك النجار في هولندا، مع أنه كان يتلظى بجحيم لازمه حتى نهايته كما يقول كاتب سيرته، لكن لوحاته وأعماله الفنية لا تزال تعيش سماواتها الوردية التي اختارها كوخ رغم كل الآلام التي مر بها.

وعلى عكس معظم كتاب السير الذاتية الخاصة بالفنانين فإن بيل يحاول تأسيس نهج جديد له، وذلك بتقسيمه لسيرة كوخ إلى ستة محاور أو فصول يبدأها بعمله كفنان رائد في مجال اضافة لون جديد تميزت به أعماله الفنية دون غيره، وهي تلك الخطوط البارزة التي ما أن تنظر إليها حتى تتعرف بسهولة على من رسمها.

ثم يعرج إلى فصل آخر هو تأثره باثنين من عباقرة الرسم رامبرانت وهالس، ويعدهما سببا في نجاحه في عمله، وفصل ثالث هو في انتقالاته اللونية للمرحلة الباريسية كما يطلق عليها بيل.

أما فصله الرابع فقد تحدث فيه عن البورتريه الذي لم يعر له تلك الأهمية مع أنه كان باستطاعته أن يقدم من خلاله أعمالا غاية في الجمال والروعة.

وفي سؤال كبير حمله فصله الخامس يقول عنه كاتب سيرته "ماذا تعني اللوحة له في أوقات مختلفة من حياته؟ الجواب قد يتسع لعدد كبير من الصفحات لأنه ضم انتقالاته بين هولندا كمسقط رأس له، وبين باريس التي راح يتنفس عبقها الغارق بين طبيعتها الساحرة وأماكنها المتشبثة بتأريخها الغائر بالقدم، وكمشفى له من آثاره النفسية التي ظلت تضغط عليه حتى رحيله المأساوي كما هو معروف".

أما رسائله وكتاباته فقد حظيت هي الأخرى بفصل مهم من سيرته قال عنها بيل هي "ثابتة ثقافية تضاف إلى ثوابته الفنية التي خلدها تاريخ الفن، وما زالت وقد اقتبس الكثير منها ومعظمها خطابات بلغت أكثر من 600 إلى شقيقه ثيو وأخرى لعدد من الكتاب الذين تعرف عليهم فان كوخ في باريس".

مضيفا "ومع أن تلك الكلمات لا تتطابق دائما مع أفعاله أو أعماله، لكنها تكشف وعبر أكثر من تسعمئة صفحة الكثير من معاناته وآلامه ومسراته والسجن النفسي الذي أطل من خلاله إلى العالم الذي نعته بعد ذلك بالجنون".

فهل يعقل أن جنونه أنجز كل تلك الأعمال الفنية الخالدة؟ أو هل هذا المجنون كان سينطق بكل تلك الحكمة كما قال في إحدى رسائله ان "الموت مثل رحلة إلى النجوم، أن تموت بسلام كأن تذهب إلى هناك سيرا على الأقدام" .إنها بلا شك غليان القوة التي كانت تعتمل في صدره والتي كثيرا ما قال عنها "ان لديه مهمة عظيمة في هذا الكون يجب القيام بها على أكمل وجه".


منقوووول