إنسانية الإسلام تأليف: مارسيل بوازار
د / عماد الدين خليل
تقديم
مؤلف الكتاب مفكر ورجل قانون فرنسي معاصر، أولى اهتماماً كبيراً لمسألة العلاقات الدولية وحقوق الإنسان، وكتب عدداً من الأبحاث للمؤتمرات والدوريات المعنية بهاتين المسألتين. ويعدّ كتابه (إنسانية الإسلام) الذي ينبثق عن الاهتمام نفسه، علامة مضيئة في مجال الدراسات الغربية للإسلام، بما يتميز به من موضوعية، وعمق، وحرص على اعتماد المراجع التي لا يأسرها التحيّز والهوى، فضلاً عن عدم انغلاقه إزاء الكتابات الإسلامية نفسها. وقد عبّر عن ذلك في أكثر من موقع. ولقد كان الرجل أميناً بحق لهذا المنهج، ولتلك الضرورة، فقدم عرضاً للإسلام وتحليلاً لجوانبه كافة، نادراً ما يقدمه أحد من الغربيين بمثل هذا العمق والشمول.. كما أنه تميّز بقدر كبير من الحساسية والذكاء، إزاء الملامح الأساسية التي تمثل جملة الإسلام العصبية، ومراكز ثقله وفاعليته.
والمادة التي يقدّمها "بوازار" غزيرة بشكل يلفت الأنظار، موزعة على صفحات الكتاب وفصوله كلّها، الأمر الذي يقتضي جهداً كبيراً في محاولة السيطرة عليها، ومتابعة مجرياتها الأساسية. ومن أجل هذا الهدف، وانسجاماً مع المنهج الذي اعتمدناه في هذا البحث، فإننا سنسعى لأن نضع أيدينا على الموضوعات الأساسية الكبيرة التي يعالجها الباحث، ثم متابعة كافة النصوص والشهادات، التي تغذي كل واحدة من هذه الموضوعات الكبيرة، من أجل استخلاص المغزى الذي يريد المؤلف أن يقوله عن هذا الموضوع.
العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق، ومبدأ العدل والمساواة، وقضية انتشار الإسلام والتعامل مع الآخر، هي المسارات الأساسية للكتاب، التي يمكن أن تندرج فيها، وتغذّيها، كافة النصوص التي تتجمع حينا في صفحات متقاربة من كتاب "بوازار"، وتنتشر وتتفرق أحياناً أخرى. وهذه المسارات لا تنفصل عن بعضها في الواقع، بل إنها تتداخل وتتشابك، وتأخذ وتعطي، وتتبادل التأثير، وما هذا التقسيم أو الفصل النمطي، إلا لأغراض التوضيح والسيطرة فحسب.

أولاً: العقيدة
لنبدأ بالمسألة الأولى التي هي بمثابة القاعدة والمنطلق؛ تلك هي (العقيدة)، فما الذي يريد "بوازار" أن يقوله عنها؟
يقول: "الإسلام اتصالٌ بين الله إلهاً والإنسان كإنسان، وانخراطٌ من النسبي في المطلق.. والاسم الذي يحمله هذا الدين يعبر عن جوهره: تسليم مطمئن وفاعل وطوعي لمشيئة الله.. ويعبر القبول الورع، فردياً كان أو جماعياً، باحترام الشريعة المنزلة، عن محاولة دائمة دائبة من الفرد، للدخول في حالة من التوازن الوادع مع عالم فريد ومتماسك، محكوم بقرار إلهي. وإذْ كان هذا القبول مؤسساً على معتقد راسخ تماماً بوحدانية الله، فقد نمّى فكرةَ عالم متناغم تهيمن عليه شريعة واحدة كونية ثابتة لا تتحول. ولَمّا كان يجمع بإحكام بين المجالين الروحي والزمني، فقد أنجب تاريخياً (أمة) وأنجب معها طريقة عيش وعمل وتفكير، وبكلمة واحدة أنجب حضارة."
بهذه الشهادة يلخص "بوازار" الملامح الأساسية لعقيدة الإسلام: العلاقة بين الله والإنسان، مغزى التسمية، التلقي عن الله وحده والالتزام بشرعه، التناغم مع عالم محكوم بقرار إلهي حيث تلتقي وتتساوق سنن العمل ونواميس العالم من خلال شريعة كونية واحدة.. التوحيد المطلق لله، الوفاق بين الروحي والمادي، وبالتالي توحّد كافة الثنائيات في سياق واحد، وضرورة إعادة تنظيم العالم وفق شريعة الله.. والتحقق التاريخي للمحاولة العقدية، بظهور واستمرار أمة تملك طريقها في الحياة، وأسلوبها في العمل والتفكير، وهذا يعني بالضرورة قيام حضارة جديدة.
إن العقيدة الإسلامية تقود الأفراد إلى الاندماج "في جماعة المؤمنين التي تُؤلف أخوية، مقياس الانخراط الوحيد فيها هو الدين. ويُرسي اليقينُ والاعتزاز بامتلاك الحقيقة أسسَ التضامن الإسلامي، أكثر مما يرسيها القانون أو البنى الاجتماعية. ولهذا فإنّه إن لم يكن العالم الإسلامي قادراً على الاحتفاظ بوحدته السياسية، فإن الإسلام قد تمكن على العكس، من إبداء مقدرة مدهشة على صون تماسكه الديني، الذي بقي سليما تقريباً، على الرغم من وجود عدة فرق. وقد كان الدين حافزاً فعالاً على تأليف كيان متميز لم تصدعه صروف الدهر، ولا الاحتكاك بمختلف الحضارات على مرّ العصور، وقد ولّد هذا الشعور الحاد بالانتماء إلى كيان، والوعي المنشط بامتلاك الحقيقة، حضارةً مميزة فرضت تعريفاً خاصاً عن الفرد والدولة والعالم."
و"بوازار" بما أنه يعرف جيداً الفارق الحاسم بين الإسلام، الذي يوحّد شتى ممارسات الحياة البشرية ومعطياتها، والأديان الأخرى التي تمارس الفصل والتجزئة، يعلن صعوبة العثور على اللفظ الفرنسي المقابل لكلمة (الجماعة) الإسلامية، لعرض فكرتها: "نظراً لاتحاد الروحي بالزمني اتحاداً محكماً، واتحاد جميع الأحكام الخلقية، والقانونية التي يحفل بها القرآن. وفي الإمكان تقريب التعريف بعبارة (نظام حياة) أو (مجتمع أيديولوجي منظم)، إذا استخدم لفظ الأيديولوجية بمعناه الخاص برؤية إجمالية للعالم ومستقبله.
ولقد ترسّخ الإسلام على هذا الشكل منذ ظهور الوحي.. وقام الدين بوظيفة الحافز المؤدي إلى تشكيل مجتمع من نوع خاص، مجتمع من الصلابة؛ إذ لم تتمكن القوى الدافعة نحو المركز التي أرهقت المجتمع الإسلامي طوال تاريخه، من تصديعه. وحتى في هذه الأيام.. ما يزال معنى الانتماء إلى مجتمع متميز عن سائر المجتمعات حياً لدى المؤمنين. وتأثير الدين في جميع مظاهر الحياة من القوة، بحيث لا يمكن فهم سلوك المسلم، ولا طريقة تصرّفه، ولا حتى مسار تفكيره، إلا على ضوء الدين."
وهو يقف متأملاً أسّ الأسس في عقيدة الإسلام: التوحيد المطلق، فيرى أن أبلغ الفقرات القرآنية تأثيراً، هي تلك التي تتصل بوحدانية الله، الذي تسبح كل صفحة من صفحات (الكتاب) بجلاله ورحمته وتنزّهه عن المادة. والتوحيد الذي لا يتزعزع، يضفي على الإسلام أكثر صفاته تأصلاً، ألا وهي أنه دين المطلق وقوة الإقناع. وينبثق عن هذا التوحيد موقف سياسي، واجتماعي متميز، بسبب من ردّه الأمر كله: حاكمية وتشريعاً لله وحده. و"بوازار" هنا أيضاً، يضع يده على حقيقة طالما غابت عن أنظار الباحثين، ليس في الغرب فقط، ولكن في الشرق الإسلامي نفسه كذلك، وهي أن عقيدة الإسلام تنطوي - بالضرورة - على بعد سياسي، ومن ثم كان إعلان محمد "صلى الله عليه وسلم" لوحدانية الله "خطراً سياسيا. وألّف الفريق الضئيل الذي اعتنق الإسلام منذ البداية، جسماً غريبا عن المجتمع المكي. وكان للدعوة إلى التوحيد، وما تنطوي عليه من رفض المذهب الاتباعي في عبادة أصنام الآباء والأجداد، سلطانٌ، وجد المجتمع نفسه معه مهدداً بالذوبان."
هذا الارتباط بين العقدي والسياسي، بين الديني والتشريعي، يتأكد لدى "بوازار" في شواهد أخرى، ومن زوايا نظر متباينة، فالدين الإسلامي "يمثل ركيزة لكلٍّ شامل وأوحد لا تنفصل فيه مدركات الإيمان عن مدركات القانون، إنه (استقامة رأي قانونية)، إنه شريعة الله."
إن "بوازار" لا يقارن فقط بين المنظورين الغربي والإسلامي للدين، ولكنه يضع يده على جملة أسباب تجعل من تداخل الروحي بالزمني في الإسلام، أمراً محتوماً: فلابد من تحديد غاية لكل عمل، ولابد من وضع صيغ للعلاقات في مستوياتها كافة: بين الفرد وذاته، بينه وبين الجماعة، وبين هذه والعالم. ثم - وهذا هو الأهم - لابد من حماية الوحدة التامة للطبيعة البشرية من التشتت والازدواج، يشدها في وقت واحد إلى أكثر من مركز، وقيادتها بأكثر من سلطة.
إن وحدانية الله سبحانه، تؤدي بالضرورة إلى "قيام الوحدة المتوازنة للإنسان والمجتمع والجنس البشري." فالإسلام، كما يلحظ "بوازار" هو "دين اليقين والتوازن" الإيمان المطلق بالله الأحد، وما ينبثق عنه من توازنات تحكم الحياة البشرية في سائر مستوياتها. "إن الله سبحانه هو المرجع الوحيد المطلق، والمبتدأ والمنتهى لمصير المؤمنين به وبنبيّه محمد "صلى الله عليه وسلم..."
وإزاء هذه النبوة، يقف "بوازار" لكي يوضح مركزها على خارطة الأديان والنبوات السابقة.. إنها الرسالة الأخيرة ولا ريب، وهي تمثل امتدادا لجوهر تلك النبوات، قبل أن تنالها يد التحريف. ولكنها تبطل في الوقت نفسه، وبشكل جازم، كل ما تلقته تلك الرسالات من أجسام غريبة لم تكن من صلبها في الأساس، كما أنها تغاير المعطيات النسبية للرسالات السابقة التي أريد لها أن تمارس دوراً محدوداً في الزمن والمكان، كي تفسح الطريق للقادم الجديد الذي سيتولى مهمة قيادة البشرية عبر الصراط، ويمارس دوراً عالمياً، يتجاوز النسبيات الجغرافية والعرقية، وبذلك تفوق الإسلام على اليهودية والمسيحية، لأنه تجاوزها وأكد وحدة جوهرها وغدا يعلو على مواضعات الزمن والمكان.
والإنسان هو قاعدة هذه المهمة الكبرى، ونقطة الانطلاق فيها، وليس ثمة في أديان العالم ومذاهبه، رؤية للإنسان توازي أو تقترب من رؤية العقيدة الإسلامية له. إنه يتمتع "بمنزلة خاصة في نطاق علاقاته بالله،" ويكفي لهذا "أن يشار إلى أن كرامة الإنسان واحترام الآخرين محددان تحديداً دقيقاً، ومشجع عليهما بقوة في تعاليم الإسلام. ويتجليان في ذلك الأمر المدهش الصادر عن الله إلى الملائكة بالسجود لآدم الذي شرفه الله بتعليمه أسماء الأشياء، فمجّد بذلك العلم، وأضفى على الإنسان العزة والرفعة بفضل العقل."
ويلحظ "بوازار"، كيف أن العقيدة الإسلامية تدفع الإنسان إلى العالم، معتمداً على حسّه وعقله، مسؤولاً عن مصيره.. إن حريته تتمثل ابتداءً "في اختياره الفطن أن يخدم الشريعة المنزلة، وأن يقر بالأحكام الإلهية. فليست القضية قضية جبرية ميكانيكية، بل قضية اختيار واع. وتستتبع المسؤولية الشخصية المنصوص عليها يوم القيامة، أن الإنسان قد وهب ملكة التمييز عند الاختيار، كما وهب الحرية، وفي هذا عزّته ورفعته."
و"بوازار" لا يغفل عن ملاحظة الجانب الآخر لمعضلة المصير، وهو في كل الأحوال بُعدٌ إيجابي، على الخلاف تماما مما حاول الفكر الغربي أن يستنتجه عن الموضوع. إن "بوازار" هنا يوغل لكي يعاين الجوهر الذي يتكشف لكل من يحاول بموضوعية وإخلاص، أن يدرك أبعاده الحقيقية. فإن جهل الفرد المسلم "بمصيره وقدره ينبغي أن يشحذ إرادته، فما كان ليبذل أي جهد للتقدم، لو كان يعلم سلفاً أنه مكتوب له السلامة أو الهلاك. ولا يمكن أن يعني الاعتقاد بالقضاء والقدر خضوعاً أو تنازلاً، وإنما يمثل -على العكس من ذلك- توكيداً للإنسان المحرر من الجزع، حين يكون قد رضي نهائياً بالنظام الأبدي، وقَبِل بتبعيته الكاملة. وحين يُفهم الاعتقادُ بالقضاء والقدر من هذه الزاوية، لا يعود (هذا الاعتقادُ) (قدريةً) تشل كل جهد نابع من الإرادة. إنه يزود الإنسان بقوة جديدة، بتوتر جديد في إرادته، ويجعل مصاعب هذا العالم تبدو تافهة أمام ناظريه، ويزوده بالشجاعة على رجاء المستحيل وركوب مراكبه."
ويخلص "بوازار" إلى القول بأن العقيدة الإسلامية، جعلت الإنسان يعي شخصيته وكيانه وواجبه، وأن الإسلام أدخل تغييرات أساسية على مفهوم الإنسان، في أساسه وجوهره، يمثل بروز الإنسان، وترسيخ كيانه، وتحريره وتفتحه "فالقول (الله أكبر) معناه، أن المرء قد أوصد الباب في وجه كل عبودية، ومعناه أنه أعلن نفسه وحقق ذاته حراً بشكل أساسي."

ثانياً: الشريعة
الشريعة هي النظام أو الأداة العملية لتحويل المعطيات العقدية للإسلام، إلى ممارسة منظورة، وجعلها تنفذ إلى قلب الواقع، وتتمكن من تغييره، وإعادة صياغته في ضوء مبادئها المتميزة.
ويلحظ "بوازار" كيف أن الشريعة، أو النظام الإسلامي، بما أنه صدور عن الله سبحانه، فهو "مطلق وأسمى،" وهو من جهة أخرى "ليس كيفياً ولا منافياً للعقل، ولا يمكن أن يكون كذلك، لأن الله أولاً وقبل كل شيء (حق).. ولأن "الإرادة الإلهية هي التي تفرض نفسها بوصفها تعبيراً عن الحقيقة المطلقة، لا مجرد أمر صادر عن سلطة عليا غير محددة تمام التحديد."
وبإحالة هذا النظام، بمصدره الإلهي، بسمّوه، بتحديده، وبانبثاقه عن الحقيقة المطلقة، على كافة الأنظمة والشرائع الأخرى في تاريخ البشرية، يتبيّن لنا بالتأكيد الفارق الحاسم بين النموذجين؛ بين المطلق والنسبي، بين المبرمج والكيفي، بين المحدّد والسائب، وبين المستمد من الحقيقة والمتصادم معها.
والنظام الإسلامي ليس هياكل ومؤسسات وتشريعات وقوانين، أريد لها أن تتولى مهمة التنفيذ العملي لمطالب العقيدة فحسب، وإلاّ لتساوى في وضعه وهدفه مع سائر النظم الوضعية. إنما هو نظام متعاشق مع العقيدة التي صاغته، إنها بمثابة روحه، وهي لا تتواجد بموازاته، أو وراءه، ولكنها معه. فالدين الإسلامي، كما سبق وأن أكدّ "بوازار" "يمثّل ركيزة لكل شامل و أوحد، لا تنفصل فيه مدركات الإيمان عن مدركات القانون.. إنه (استقامة رأي قانونية)، إنه شريعة الله." وهذا سيمنح النظام بالتأكيد قدرة أكثر فاعلية على التحقق، كما أنه سيضعه في إطاره الإنساني الثابت، بعيداً عن تقلبات الأهواء ونسبيات المصالح والتحزّبات، فضلاً عن أنه سيخفف إلى حد كبير من حدة الرقابة الخارجية، التي قد تأخذ في المذاهب الوضعية صيغ القسر والبوليسية: "إن الخضوع للشريعة، والرغبة في احترام أمانيها من نظم قانونية، ينجم عن الرضا بالدين الذي يفرض مفهوما عاما للمجتمع ومستقبله."
وهكذا يغدو "وجدان المؤمن" كما يدعوه "بوازار"، إلى جانب الشريعة الإسلامية "سلطة تطالب من أعماق القلب بتقديم حسابات، ويقوم أساسها الأول ذو الجوهر الديني، في النفس الإنسانية، التي لا تنفك تنتقد وتراقب، كما يشير القرآن. وبناء على هذا فإن الإيمان والخضوع الديني، لا يلغيان حرية الاختيار لدى المؤمن، الذي عليه أن يتحمل مسؤولية أعماله." ولا ريب أن هذا الوازع الديني، الذي يحفز ويحمي صيغ التنفيذ الأمين لمطالب الشريعة وإلزاماتها، انسحب بالضرورة، وكما يلحظ "بوازار"، على العلاقات الخارجية للجماعة الإسلامية، ذلك " أن الإسلام أعطى على ما يبدو بُعداً جديداً لمفهوم التقيّد الإلزامي بالمعاهدات، حين جعل بنودها قسرية بناء على قاعدة دينية حقيقية."
ويرى "بوازار" أنّ ثَمَّة بطانةً أخرى للنظام، قد لا تقل أهمية، وهي تمثل في الوقت نفسه امتداداً لسابقتها، إنه الارتباط أو الالتحام بالوازع الأخلاقي، الذي يفعل فعله هو الآخر في معطيات التنفيذ، وحمايتها من الخطأ والانحراف.
ليس هذا فحسب، بل إن "بوازار" يلحظ شمولية الشريعة الإسلامية، كونها برنامج عمل يعالج كل معضلة، يتصدى لكل مشكلة، ويحدد العلاقة مع الله، ومع الآخر، ومع الذات، متابعاً كل صغيرة وكبيرة، فلا يترك شيئاً في واقع الحياة للصدفة والارتجال. لقد نظّمت الشريعةُ المنزّلة "كلَّ شيء، ولم تترك عملاً من أعمال المؤمن بلا غاية، مرشدة سلوكه الشخصي، وعلاقاته مع الآخرين، وتصرفه في المجتمع الإسلامي أو خارجه." لقد منحته "معياراً يقيس به جميع المواقف الاستثنائية، "ووفرت الحلول" لجميع المعضلات البارزة." وعلى هذا، ولما كان الإسلام "قد جاء بنظام حياة يتصل بكل الأعمال اليومية، فقد راح الفقه يشهد انتشاراً واسعاً، وينتج عدداً لا يحصى من الأبحاث. ونمت هذه الأبحاث بشكل مستمر، تبعاً لاتساع المجتمع الإسلامي، وتطور المشكلات الاجتماعية التي صادفته."
فهذه الشريعة لم تكن أبداً نظاماً سكونياً (ستاتيكياً)، ولكنه النظام الحركي المرن (الدايناميكي)، الذي قدر بواسطة النشاط الفقهي المتزايد، أن يتابع كل مفردات الحياة، وأن يبرمج لها في ضوء المعايير الأساسية، في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، هذه السُّنة التي هي، كما يؤكد "بوازار" "المصدر الثاني للشريعة (فقد) كان لها بالغ الأثر في المجتمع الإسلامي؛ إذ زودت النهج التشريعي الإسلامي بدرجة مذهلة من المرونة، وكان لها من جراء ذلك دور مرموق، بوصفها عنصر بناء وتماسك للمجتمع الإسلامي بكلّيته."
ومع الشمولية والديناميكية هنالك الواقعية؛ إذ يلحظ "بوازار" كيف أن "خصيصة الإسلام" في هذا المجال، تنبع "من أن القانون يصبو إلى التشريع بطريقة واقعية وغير مثالية، آخذاً بعين الاعتبار طبيعة الإنسان الحقيقية." ونحن نعرف أبعاد المعادلة المركبة والمتوازنة، التي تعامل الإسلام بموجبها مع الإنسان، تلك التي تتضمن طبقات عديدة، تبدأ بتكريم هذا الكائن، وسجود الملائكة له، وإعلان سيادته على العالمين، ومسؤوليته عن العالم. وتنتهي بإقرار جوانب ضعفه كافة والاعتراف بها، ووضعها في الحسبان لدى التعامل التعبّدي والأخلاقي والتشريعي معه.
وبعد هذه التأشيرات الأساسية على ملامح الشريعة الإسلامية، يحاول "بوازار" أن يلخص الأمر كله، ويصدر تقييمه الأخير، في أن "الإسلام بوصفه شريعة قادرة على تنظيم جميع جوانب حياة المؤمن، هو بطبيعته مجموعة قوانين قطعية وإلزامية، ويمس تجليه الظواهر الفردية والمجتمعية، الاجتماعية والسياسية. ويستمد قوته الإلزامية من جوهره الديني. وبهذا يتأكد الإسلام ديناً كاملاً ونظاماً تاماً، يتأكد بوصفه أكثر من أيديولوجية، أي بوصفه إنسانية حقيقية استعلائية، خلقت مجتمعاً استثنائياً ومن نوعية خاصة، وولدت ذهنية، كما ولدت سلوكاً خلقياً يصعب وضعه داخل حدود الأطر التي رسمتها الفلسفة الغربية.. إنسانية تضفي على الإنسان عظمته الحقيقية، وتتيح له في الوقت عينه أن ينمّي إمكاناته الخاصة."
ويمضي "بوازار" إلى القول: "بأن من المفيد أن نسجل إلى أي مدى يطبع سلوكَ ملايين الناس اليومي، مفهومٌ معين للعالَم، واعتقادٌ في مصير شامل للبشرية. وليس في وسع أية أيديولوجية معاصرة، أن تدّعي منافسة الإسلام في هذا الصدد. إن هذه المؤسسة المتمحورة حول كتاب سماوي، وسُنّة، وتفسيرها الفقهي، تستمد منها جميعا قوتها وصلابتها، لتذهل المراقب غير المسلم؛ دينٌ بلا كاهن، يخلق جماعة اجتماعية وسياسية، يستمد رئيسُها حكمَه من الدين، دون أن يكون هو نفسه سلطة دينية. وهذا السيد السياسي، الذي لم يكن يملك أية سلطة تشريعية، وكانت سلطته التنفيذية محدودة، تقتصر صلاحياته على تأمين تطبيق الشريعة تطبيقاً صحيحاً، والسهر على بقاء تماسك الجماعة وتشجيع ازدهارها..."
ثالثاً: الأخلاق
ثمة جانب آخر في الحياة الإسلامية يقف عنده "بوازار"، يتداخل مثل العقيدة والشريعة، في نسيج هذه الحياة، ويسهم في إعطائها الملامح، ويفعل فعله فيها، مستمداً قيَمَه الثابتة المحددة المرسومة من العقيدة، حارساً على الشريعة من التبديل والتحريف والانتقاص، أميناً على جعل الحياة الإسلامية صورة نقية، نظيفة، متوحدة، سعيدة، كما أراد لها الله سبحانه ورسوله "صلى الله عليه وسلم" أن تكون. فهو بالتالي ليس جانباً في هذه الحياة أو جزءاً منها، ولكنه، متداخل في صميم صيرورتها وتشكلها، إنه (الأخلاق).
يبدأ "بوازار" بالتأكيد على واحدة من أهم خصائص الإسلام الأخلاقية: وهي فكرة الحساب؛ إذ يرى بوازار "أن فكرة الحساب هذه تحضّ المسلم على احترام القانون، والكف عن الشرّ والدعوة إلى الخير، وعلى هذا ينتج عنه مظهر، ينزع نحو خلقية الثواب، التي لا تتلافاها أية عقيدة دينية إلاّ بصعوبة. وتنخرط هذه الرؤية من ناحية أخرى، كل الانخراط في بنية الإسلام الإجمالية؛ فالتن-زيل يتوجه بالفعل إلى جوهر طبيعة الإنسان، الذي يحمل في ذاته الخير والشرّ. ويسهم خوفُه من العقاب في إلزام نفسه بسلوك مستقيم."
ومن أجل إزالة ما قد يتوهمه البعض بصدد العلاقة بين الأخلاق وواقعة الحساب، يسارع "بوازار" إلى القول: "بأن الخشية من يوم الحساب، ليست أبداً، في هذا السياق، خوفاً أو جزعاً. إنها توضح بالأحرى جوهر الورع، ووعي شرف المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان." ومع الحساب، هناك (الذِّكْر) الذي يجعل المؤمنَ في معظم الأحيان في حالة حضور إلهي، ينعكسُ على ممارساته الخلقية فيزيدها فاعلية وألقاً.
وبعد هذا يقارن "بوازار" بين الأخلاق في المنظومة الإسلامية، وفي غيرها من الأديان والمذاهب الأخرى. فيلحظ –مثلاً- وجود شبه في المنهج الخلقي الإسلامي، من حيثُ تجليه الخارجي إلى حد ما، مع المنهج المعروف في الغرب، على الرغم من التعبير عنهما بألفاظ غاية في التباين، لكن التمييز والإدراك يطغيان، في المنهج الإسلامي، على العاطفة والانفعال. كما يلحظ أن الوصايا الأخلاقية الكبرى التي وردت في الديانات السابقة على الإسلام، ليست غريبة عما يؤمن به المسلم، فيما عدا تلك التي تصطدم "بالمسار الكلي المنطقي للشريعة "فإنه يتعيّن عليه حينذاك أن يرفضها بوصفها خطأ. وفي مقابل هذا يجد "بوازار" كيف "أضاف القرآن إلى صعيد الفضائل الفردية، مجموعة حقيقية من قواعد الأخلاق والأدب، شكلت الحضارة الإسلامية فيما بعد وطبَعَتْها بطابعها. فالتهذيب والتربية الصالحة والعادات الحميدة والصدق والإخلاص، هي أسس الألفة، التي كان لابدّ من أن تحيل جماعةَ المؤمنين إلى أخوية عريضة، وواجبُ الفرد في هذا المنظور سابقٌ على حقه، وإقامةُ مجتمع عادل شريف (هو) من صلب التعاليم الإسلامية. وأما الفضائل فتغدو، واجبات وإرشادات دينية.
وليس الخُلُق، على هذا، تشريعاً جافاً، لأنّ النية تحدّد نوعية كل عمل. وليست الفضيلة المتعهدة والخير الموزع، في التحليل الأخير، غير وفاء عادل ومتواضع بجزء ضئيل من العرفان المستحق لله الرحمن الرحيم."
وهو يقف عند البُعد الاجتماعي للأخلاق الإسلامية، بوصفه واحداً من أشد نقاط التألق والعطاء في الحياة الإسلامية، مشيراً إلى طبيعة الترابط بين الفرد والجماعة، ومؤكداً على أن هذا المنظور الأخلاقي ذا الطابع الجماعي، لا يجنح البتّة، بمعادلة الإسلام الموزونة للفرد والمجتمع: "إن الفضيلة الاجتماعية الأساسية، هي قاعدة السلوك الأخلاقي للمسلم، جماعية أكثر مما هي بين فرد وآخر، وهذه لعمري خصيصة النظام الإسلامي الجوهرية. فالقرآن والسُّنة والفقه، تلح كلها على ضرورة تدعيم الروابط، التي تشد أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض، والعمل على توثيقها... ومن المناسب في هذا الصدد، أن نحسب حساباً حقيقياً للتمييز الذي يقيمه الإسلام بين "الإنسان كإنسان"، و"الإنسان الجماعي"، وأن نحتفظ مع ذلك، في أذهاننا، بأنه إذا كان في الإسلام فصل واضح بين الإنسان بوصفه إنساناً، والإنسان الجماعي، فإن ذلك لا يقلل من عمق تماسك هاتين الحقيقتين، نظراً لأن الجماعة مظهر من مظاهر الإنسان. وأن المجتمع، على العكس من ذلك، عبارة عن أفراد متعددين. وينتج عن هذا الترابط والتقابل، أن كل ما يتم لمصلحة الجماعة، ذو قيمة روحية بالنسبة إلى الفرد وبالعكس..."
ثمة ميزةٌ أخرى للأخلاق الإسلامية، أن المؤمن؛ إذ يمارسها، يتجاوز الصيغ الآلية التي تشهدها المذاهب الأخرى، ربما لغياب البعد الديني أو ضعفه أو ازدواجيته.. يتجاوزها باتجاه حالة من الوعي العميق بما يفعله، بوصفه التزاماً طوعياً ذا خلفية إيمانية. وهذا الالتزام ليس بسيطاً ذا وجه واحد، إنه التزام مركب يتضمن أكثر من وجه: تجاوز القيم الخاطئة، والتحقق بالقيم الإيجابية، والتبشير بها بين الناس، وبذا يكون هذا الالتزام أكثر فعالية على المستويين الفردي والجماعي.
والقيم الأخلاقية في الإسلام ليست قيماً منفصلة، وليست حشوداً من التعاليم، تقول: افعل هذا ولا تفعل ذاك، لكنها شبكة التزامات مترابطة، تستهدف في نهاية التحليل، وضع الإنسان المسلم في مكانه الصحيح المتوازن إزاء الذات، والمجتمع، والعالَم، والكون؛ وهذا هو الهدف الكبير الشامل لنظام الأخلاق الإسلامي، ودوره في الحياة.
ويظل الإيمان، قبل هذا كله وبعده، هو فضيلة الفضائل الإسلامية، ويبقى الإخلاص طريقاً للخلاص، كما تظل القيم الخُلُقية عموما، فعلاً متحققا في الواقع، وأملاً في الوقت نفسه "بعالم قادم أفضل."
رابعاً: العبادة
ويؤشر "بوازار" على الملامح الأساسية للعبادة الإسلامية، من خلال شعائرها المعروفة، محاولاً أن يضع القارئ قبالة المغزى الأخير لكل واحدة منها. فهو بعد أن يفصّل القول في مغزى كل عبادة؛ من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، يصل إلى أن هذه العبادات، تتمحور حول قيمة واحدة وأساس واحد متمثل في الوحدة الإسلامية؛ إذ يسجد المسلمون في صلواتهم خمس مرات يومياًً، في ساعات متماثلة تماثلاً شديداً، وفي الاتجاه نفسه: مكة. وتعبّر النية مجتمعة إلى الشعيرة البدنية، عن وحدة الإنسان روحياً ومادياً. زد على ذلك، أن القرآن يذكر الصلاة إلى جانب الزكاة، التي هي فرض ديني وحق متبادل، من شأنه توحيد المؤمنين. كما يربط الصيام في رمضان، بشكل رمزي، بين جميع المؤمنين؛ إذ يمتنعون عن الطعام والشراب حسب توقيت واحد. وهو فوق ذلك، أحد أسس روح المساواة الإسلامية؛ إذ يكره الأغنياء والفقراء على السواء على حرمان النفس. وأما الزكاة، فإنها تساهم في وحدة الجماعة وانسجامها، لأن مساعدة الآخرين بشكل إلزامي تفرض التعاون. وأخيراً فإن الحج أبرز مظاهر الوحدة، لمجتمع يعتنق أفراده ديناً واحداً..."
إن شعائر الإسلام هذه "التي تصل بشكل مباشر بين الإنسان وربه، على خلاف العديد من الأديان الأخرى، تسهم جنباً إلى جنب مع الإيمان، في تحقيق" تضامن الجماعة الإسلامية وتناغمها، وتدفع جميعاً بها، في موازاة ذلك نحو العالمية." وهكذا تغدو العبادة في الإسلام رحلة مؤثرة فاعلة من الذات صوب الجماعة فالعالَم؛ شأنها في ذلك، شأن أية ممارسة أخرى في دائرة هذا الدين، الذي جاء لكي يلّم شتات المبعثَرين في هذا العالَم، ويوحدهم على الصراط.
خامساً: المساواة والعدل الاجتماعي
إن "بوازار" بوصفه رجل قانون، وواحداً من أبرز المهتمين بالعلاقات الدولية وحقوق الإنسان، يقف طويلاً عند مبدأي المساواة والعدل الاجتماعي في الإسلام، وهي مسألة يمكن أن تنضوي تفاصيلها وجزئياتها في سياق واحد أو أكثر، من القنوات التي تحدثنا عنها، بدءاً من العقيدة وانتهاء بالعبادة، فتأخذ منها وتعطيها. ولكن، وللسبب الذي ألمحنا إليه قبل لحظات، فضلاً عن الأهمية البالغة لهذه المسألة في العصر الحديث، ارتأينا أن نفرد لها فقرة خاصة، تجيء بمثابة مسك الختام، لواحدة من أخصب الرحلات الغربية في ساحات الإسلام، وأكثرها اقتراباً موضوعياً.
وهنا أيضاً، كما هو الحال في نسيج الإسلام كلّه، يتداخل مفهوما المساواة والعدل، بحيث يصعب أحياناً فك ارتباط أحدهما بالآخر، ويصعب بالتالي أن نقول، بأن هذه القيمة تنصب على مفهوم المساواة، وتلك تغذي رؤية العدل الاجتماعي في الإسلام. والسبب واضح ومبرّر، ذلك أنه في الإسلام، يُبنى العدل- في أساسه- على المساواة بين الناس، كما تُبنى هذه على تحريرهم ابتداء، والهدف في كل الأحوال، هو تحقيق معادلة متكافئة بين الإنسان والمجتمع، تتيح للفرد أن يمارس مهمته الإيمانية، متحرراً من كافة الضغوط والعوائق، كما تتيح للجماعة أن تنفذ مهمتها العمرانية، دون أن تعرقلها الشروخ والصراعات.
وتداخل القيمتين: العدل والمساواة، يجعل إحداهما تهيئ الأساس للأخرى، وتبني عليها في الوقت نفسه؛ فدون مبدأ المساواة الإنسانية بين الأفراد، لن يتحقق عدل، ودون هذا لن تكون المساواة سوى أحلام وأمانٍ ومثاليات معلقة في الفضاء. ولكن، ولغرض التوضيح فقط، علينا أن نتابع الرجل وهو يتعامل أيضاً مع كل من المفردتين، مستقلة قدر الإمكان عن الأخرى.
بالنسبة للقيمة الأولى، وهي المساواة، يلحظ "بوازار" "أن الإسلام من حيث جوهره بالذات، ومن حيث منطق نظامه، قد بدا فور ظهوره، دين المساواة من خلال الصورة التي قدمها عن الله والكون والإنسان. فلقد وَضَعَت التعاليم القرآنية حداً للطبقية الاجتماعية، حين جعلت آدم أصلاً لجميع الناس، والفضل الوحيد المحتمل للفرد على غيره، يكمن في تبصّره وتمييزه، أي في تقواه.."
فما دام هذا الدين بعقيدته ومنهجه، قد صدر عن الله سبحانه، فسيكون –ابتداءً- بمثابة مشروع لتحقيق المساواة المطلقة بين الناس القادمين من أب واحد، الذي مُنح مكانة فريدة بين خلائق الله، وكلّف وذريته بمهمة كبرى، فلن يكون التفاوت بينهم إزاءها، إلاّ بمقدار التزام أي مخلوق بمفرداتها ومطالبها.
وهكذا فإن "مفهوم الإنسان" في الإسلام، هو الذي "يحدد مبدأ المساواة، ويمثل بالتالي حجر الزاوية الذي يرتكز عليه بناء النظام الاجتماعي." ويلحظ "بوازار" أن هذا الموقف "خاص بالإسلام؛ إذ لم يسبق أبداً لدين أو أيديولوجية أن أكداه من قبلُ بهذه القوة."
وهذا الموقف، كما هو واضح، يستمد قوته من ركيزتين أساسيتين: التحرّر الوجداني والإحساس بالكرامة البشرية، فالحرية والمساواة: "أسمى صفات الإنسان. وقدرة الله الكلية، تقود إلى تحرير الإنسان حيال الإنسان. وعبادته دون سواه، عبادةً مباشرة ومن غير واسطة، تؤكد عظمة المؤمن، وتضمن له الرفعة. فهو يدرك في الواقع، أن لا خوف عليه من أن يكون عبداً لغير الله، وأنه لا يمكن أن يصيبه إلا ما كتب الله له. وشعور المسلم الراسخ بالمساواة يملي عليه واجباته نحو الناس والمجتمع، ويرشده بالمقابل إلى حقوقه. وهنا يبرز مفهوم مغاير، في أساسه، للمفهوم السائد في الحضارة الغربية، فالإنسان في نظر الإسلام، لم تدنّسه الخطيئة الأصلية، فيعاد اعتباره بعملية تجسيد إلهي. والقرآن لا يقترح، إنما يأمر، وبهذا لا تكون قيمة الإنسان ناجمة عن مفهوم ما ورائي مبهم، بل عن قبوله الطوعي بأن يكون عبداً لله. وبقدر ما يكون خضوعه لأحكام الشريعة المنزلة أكبر، يزداد احترامه، ويتبوّأ مكانه في عالم متناغم متناسق. وشرفه الأوحد أنه المخلوق الأسمى على وجه البسيطة، القادر بعقله أن يختار الامتثال لمشيئة الله."
وهذه المساواة الجوهرية التي يمنحها الإسلام لجميع المسلمين، تحدّد "نوعاً من التعايش المجتمعي المبني على العدل. وحين ينعكس الشعور بالمساواة على المستوى الجماعي، ويرتد على أفراد المجتمع بشكل متبادل، فإن ذلك يفضي على صعيد المبادئ الخلقية إلى شعور نهائي بالكرامة الإنسانية."
وفي موضوع العدل، نجد "بوازار" يقدم تأشيرات ذات أهمية بالغة. فهو يبدأ، مثلاً، بتفنيد وَهْم، طالما اقتنع به حتى بعض المسلمين أنفسهم، وهو أن حلول معضلات الفقر "تتمثل فقط في الورع والسخاء الأخويين"، "فالإسلام الذي بنى المجتمع على قاعدة العدالة والنصفة، يهدف على الصعيد الاقتصادي، إلى استئصال الفقر من جذوره. وهو يطالب بالكفاية لكل مسلم بغية إشباع حاجات الفرد اليومية الأساسية."
و"بوازار" يلحظ الجهد الكبير، الذي بذله الإسلام على مستويي التصوّر والتطبيق، لتنفيذ مفهومه عن العدل الاجتماعي، "فلابد أن نلاحظ تاريخياً، أن قليلاً من الأديان، وحتى الإيديولوجيات، سعت إلى مثل هذه الحركة الناشطة في معادلة المستويات الاجتماعية، وكان لزاما أن تؤدي المساواة الأساسية بين الناس، وواجب مساعدة المعوزين من أفراد الجماعة مساعدةً، ليست عبارة عن امتيازات بل عن موجبات، إلى التقليل من الفروق المادية، إن لم يكن إلى إلغاء الطبقية الاجتماعية عملياً. ومع أن الإسلام يقرّ الملكية الفردية ويكفلها، حين تكون شريفة ومحتشمة، سواء عند الحصول عليها أو لدى استعمالها، إلا أن تحديداتها وضوابطها صارمة. ويتّسم مثل هذا الإثبات للحقوق الاجتماعية، بقوة لم يذكر التاريخ لها مثيلاً في أي مكان، حتى في الأنظمة التي تدين الملكية الخاصة."
ويواصل "بوازار" طرح ملاحظاته فيرى أن "إقطاعية الأرض وارستقراطية النسب وبورجوازية المال، مفاهيم غريبة عن الفلسفة السياسة الإسلامية. وهذا هو، على ما يظهر، سبب تمكن الشعوب الداخلة حديثاً في الإسلام، من فرض أنظمة حكمها وإدارتها، وبقاء أفرادها على رأس تلك الأنظمة، وربما السبب كذلك في نجاح العبيد الأجانب، في إنشاء أسر حاكمة قوية ومتألقة."
وعندما يشير "بوازار" إلى هذه الحالة التاريخية، الإنسانية الفريدة من نوعها، وهي "نجاح العبيد الأجانب في إنشاء أسر حاكمة قوية ومتألقة"، لا ينسى أن يتحدث عن معضلة الرقيق المرتبطة أساساً بموضوعي المساواة والعدل الاجتماعي، ويخرج بمؤشرات ذات قيمة بالغة عن المسألة"، فمما لا ريب فيه أن القرآن أقر الرِّق، وهو مؤسسة كانت قائمة حينذاك في العالم كله. وقد شرّع بشأنه، بغية الحدّ من الإفراط فيه والحث على اختفائه شيئاً فشيئاً، عن طريق الإقناع الخلقي والديني، بالمساواة الطبيعية بين جميع الناس أمام الله وشريعته. ومن مفاخر الإسلام، أنه أوقف اعتبار نظام الرق واقعاً طبيعياً، وجعله بالأحرى استثناءً عارضاً مؤذياً للحرية، التي ينبغي أن تشكل ركن المجتمع الإنساني الركين.
وتنجم أصالة الفكر الإسلامي في موضوع الرق، من مفهوم الإنسان داخل المجتمع بالذات؛ فالحرية هي، قبل كل شيء، مدرك قانوني لا يستهين قط، بكرامة الإنسان وعظمته. إنها ليست مؤسسة على الطبيعة البشرية، وإنما على قرار إيجابي من الله. لكن هذا لا يعني قط، أنّ الرق قدرٌ حتمي ومستمر لفئة من الناس، هم من حيث الجوهر أدنى من غيرهم. إنه على العكس من ذلك، لا يمكن أن يكون إلاّ عارضاً ومؤقتاً، وهكذا فإن الرقيق المسلم، لم يكن قط ذلك (الشيء) الذي نصّ عليه القانون الروماني. ولم يكن وضعه مشيناً. وخلافاً لمسيحية القرون الوسطى، فإن العقيدة الإسلامية المطبوعة بالإرشادات القرآنية، لم تتأثر بنظريات العصور الوسطى الإغريقية الغابرة في الرق. وإذا لم يكن في مكنة الإسلام لأسباب موضوعية وواقعية، أن يلجأ إلى القسوة في إلغاء الرق، فقد نصّ على أحكام لإبطاله بالتدريج، وحاول في الوقت ذاته أن يخفف من مشقاته. ويتميز المنهج إلى ذلك بميزتين: اختصار سبل الوصول إلى العبودية، وتوسيع المنافذ إلى الحرية."
كما أن "بوازار"، يضع يده على تميّز العدل الاجتماعي في الإسلام، عن أيٍّ من المذاهب الوضعية المعاصرة؛ إذ "لا يمكن أن يشبه الإسلام بأي من الإيديولوجيتين اللتين تقسمان العالم، نظراً لتميّزه عنهما كليهما في بعض المجالات الاستثنائية. فإذا كانت الملكية الخاصة والمبادرة الفردية معترفاً بهما مثلاً في النظام الغربي، فهما خلافاً لما هي الحال في الشيوعية الجماعية، محدودتان تماماً، ولا مناص من أن يفضي التقيّد بالوحي الإسلامي إلى مجتمع متوازن لا طبقية فيه ولا صراع طبقات، ونظام مثالي مبني لا على العقل البشري، وإنما على الإرادة الإلهية، التي تضمن من غير تنازع ترسيخ الحرية والمساواة، وهما الحقّان الرئيسيان للإنسان ضمن العدالة الاجتماعية." وهو يلاحظ أن الإيديولوجية الماركسية "مرفوضة بشدة لأنها تقدم، علاوة على إلحادها، فكرة بغيضة وهي: تحوّل الإنسان إلى غاية اجتماعية.
ويعود "بوازار" أخيراً لكي يقيم مقارنة أخرى بين النظام الإسلامي، والنظامين الوضعيين الشيوعية والليبرالية، فيرى "أن أصالة النظام الإسلامي الأولى، هي في مفهومه للإنسان الاجتماعي، الذي يعارض في آن الشيوعية، التي تلاشي الفرد في الجماعة، والليبرالية التي تعادي بين الفرد والمجتمع. ويضع الإسلام روحيته في مقابل المادية الوضعية، التي تسلخ عن الإنسان إنسانيته، حائلاً بذلك دون أن تصبح الدولة يوماً (الإله الآلة) الذي عرفه الغرب، الذي تجهد الدول (المعاصرة) في فرضه."
إنها، مرة أخرى، عقيدة التوازن الفذ بين الثنائيات: الفرد والمجتمع، المادة والروح، النظام والإنسان.. ولن يكون بمقدور أية عقيدة أخرى أن تفعل هذا الذي فعله الإسلام، وهذا ما استطاع "بوازار" أن يعاينه كما لم يعاينه أحد من الغربيين من قبل.

سادساً: الانتشار
يهمنا إلى حدّ كبير، أن نعرف وجهات نظر (مارسيل بوازار) في مسألة انتشار الإسلام ومعاملة المغلوبين. بوصفه مفكراً قانونياً، أولى اهتماماً كبيراً لمسألة العلاقات الدولية وحقوق الإنسان، وباعتبار أن هذه المسألة تمثل واحداً من أهم محاور الكتاب، الذي يتضمن شهادات غنية تحمل قيمتها وتفرّدها.
لنبدأ بواقعة الانتشار. ينطلق "بوازار" منذ اللحظة الأولى، من قوة التعاليم، بوصفها واحدة من أهم عوامل الانتشار ف- "لقد أظهرت الرسالة القرآنية وتعاليم النبي "صلى الله عليه وسلم" أنها تقدمية بشكل جوهري، وتفسّر هذه الخصائص انتشار الإسلام السريع بصورة خارقة، خلال القرون الأولى من تاريخه."
وإذا كان مصطلح (التقدمية) قد تعرض للاهتزاز، وفقدان الثقة عبر العصور الحديثة، بسبب ازدواجية الذين تبنّوه ونادوا به، بين أقوال تعلن تشبثها بالمثال، وأفعال تتراجع صوب الخلف. فإن الكلمة، بعيداً عن الإسقاطات التاريخية والمذهبية للمصطلح، تظل تحمل دلالتها الأساسية، وبخاصة عندما نحيلها على الإسلام، كحركة كان إيقاعها الزمني بالتأكيد، تقدمياً: الانتقال بالإنسان صوب صيغ إنسانية أفضل، وأكثر رقياً، وأعمق استجابة لمطالبه، ولضرورات تحققه العمراني في العالم. هذا التوجه التقدمي في أساسه، والذي نلمحه - كذلك - وبإيجاز في شعار الفاتحين: "الله ابتعثنا لكي نخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده"، ترك كافة النظم والمناهج والأوضاع وراءه، متعلقة بصيغ ذات طابع رجعي. وكان البون شاسعاً، والنقلة كبيرة، وهي تشكل بحق واحدة من أشد نقاط الجذب في هذا الدين، وتمكينه من الانتشار في الأرض.
لقد كان هذا البعد التقدمي يحمل خميرته التحريرية، لذا كان انطلاق الفاتحين إلى العالم عملاً تحريرياً، وكانت استجابة كل المضطهدين والمستعبدين والمظلومين أمراً طبيعياً، "لقد كان المسلمون راغبين في نقل إيديولوجيتهم للشعوب المجاورة التي سحقها النظام الإقطاعي الاستبدادي، وأرهقها طغيان نظام التسلسل الكهنوتي. والتاريخ يعيد نفسه، وليس المثل الإسلامي في شن الحروب ل- (تحرير) الشعوب بالمثال الأوحد." وكان يتضمن – بالضرورة- محاولة جادة لتقديم البديل، كما مثّل في العدل، الذي كان الناس ولا يزالون يطمحون إليه" والذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم على المدنيين، مما أدى إلى شيوع الإسلام.
تلك هي مهمة الفاتحين ومبرّر حركتهم "حق تطبيق العدل"، الذي حمله الإسلام إلى العالم، وهذا يعني - بالضرورة كذلك - عدم استخدام القوة في فرض العقيدة وتغيير قناعات الآخرين، كما يعني اعتماد صيغ في العمل القتالي عادلة وجدّ إنسانية. وهذه، أي أخلاقية القتال، وشرعته، يقف عندها "بوازار" طويلاً، معالجاً إياها من منظوره القانوني، واجداً أنه ليس ثمة محاولة في تاريخ البشرية، قدرت على مطاولة الإسلام في هذه المسألة! لقد "نَمّى الإسلام مفهوماً طريفاً للعالَم والجماعة والإنسان، فالهدف من الحرب محدّد تحديداً دقيقاً، وهو الذي يقرّر بالتالي طريقة سير المعارك، والمعاملة التي يكون من الملائم أن يعامل بها الأعداء في الوقت نفسه. ولا يمكن أن تتعارض الحرب مع الفضيلة والعدل في المذهب الإسلامي..وهكذا يغدو المقاتل المسلم سائراً على هدي المبادئ القرآنية والقدوة النبوية، ويعرف كيف يحترم الإنسان العدوّ، لأن الحرب لا تضع الشعوب بعضها في مواجهة بعض، بل تضع المقاتلين.
إن القتال، ها هنا، يتعاشق مع مطالب الموقف الإيماني، وسيلة وهدفاً، وليس من المعقول أن يناقض المقاتل المسلم نفسه، فيمارس في قتاله مفردات تقف على الضد من قناعته. فحجر الزاوية في البناء الحربي الإسلامي بأكمله، هو حظر التجاوزات، فهو في أساس فلسفة الإسلام الخلقية والقانونية برمّتها. فتعاليم النبي "صلى الله عليه وسلم" وتعاليم خلفائه على السواء، تلح على ضرورة امتناع المحاربين المسلمين عن سفك الدماء، من غير سبب، وعن تدمير العقارات ما دامت الضرورات العسكرية لا تفرض تدميرها."
وهذا يعني أن العمل القتالي في الإسلام هو، بشكل من الأشكال، ممارسة حضارية. وحماية وتعزيز للقيم الحضارية الأصيلة، ومنع للعدوان عليها. ومنذ فجر الفتوحات "كان المحاربون المسلمون قد فرضوا على أنفسهم روحاً من التسامح مع غير المسلمين ومع الشعوب المغلوبة. وفي زمن لم يكن فيه العنف يعرف شرعاً ولا عاطفة، أصدر أبو بكر (رضي الله عنه) أول خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم إلى جنوده التعليمات المشهورة، المردّدة كثيراً، التي تختصر الروح الخلقية للقانون الإسلامي."
ويقارن "بوازار" بين هذا الذي شهدته الساحة الإسلامية، والتجارب الأخرى، فيجد البون شاسعاً بشهادة التاريخ، لقد " كان الصليبي ينطلق لذبح (الكافر) تلبية لنداء (البابا) أوربان الثاني المردّد ألف مرة: (الله يريد ذلك). أما بالنسبة إلى المقاتل المسلم، فكان عليه أن يتقيّد بالموجب الخلقي، وأن يكظم غيظه ويكبح شهوته ليعامل عدوه بشهامة. ومن جهة أخرى كان الإسلام يملك مؤسسة حماية للأقليات (الكتابية) الواقعة تحت إشرافه السياسي، التي لم تتعرض عموماً لأي اضطهاد خاص. وبالمقابل فإن استعادة إسبانيا لم تنته إلاّ بطرد آخر المستعربين من شبه الجزيرة الايبرية، وكان أكثرهم من سكان البلاد الأصليين مِن نسل مَن كانوا قد اعتنقوا الإسلام.. وفي وسعنا أن نذكر من باب التضاد، ومن غير أن نسعى لمحاكمة الحضارة الغربية، أنه بعد عدة قرون أخرج مؤسسو القانون الدولي في أوروبا المسلمين (الكفرة) من دائرة الإفادة من قانون الحرب. ومع ذلك تبقى فكرة (الجهاد المقدس) تعبيراً عن تعصّب المسلمين الديني!" وحتى في حالات هزيمة المقاتلين المسلمين، فإن ردّ الفعل لم يدفعهم إلى تجاوز "الأخلاقية" التي ركزها الإسلام في نفوسهم وأفعالهم.
ولقد انعكست هذه الأخلاقية، أو الشرعة الإنسانية في القتال، على جانب من أهم جوانب الحرب: وهو معاملة الأسرى " فإن التنظيمات التي قررها التشريع القرآني في معاملة الأسرى، أكثر مساهمات الإسلام ديمومة في توسيع قانون الحرب، وأعظمها مجلبة للفخر. وتكثر الأمثلة في التاريخ الإسلامي عن المروءة والإنسانية في معاملة الأسرى منذ أيام النبي "صلى الله عليه وسلم" حتى زمن صلاح الدين.. ويجب أن ندخل في حسابنا التقهقر في الزمن وتطور الأخلاق لندرك جيداً المظهر الأصيل والثوري لتعليمات محمد "صلى الله عليه وسلم" في القرن السابع الميلادي..." ثم يخلص إلى تأكيد القول بأن القانون الدولي الإسلامي "يستند إلى مبادئ خلقية متينة تطمح إلى تخطي الواقع البشري اليومي."
ومع قوة التعاليم، وأخلاقية القتال، لا ينسى "بوازار" أن يؤشر على عوامل أخرى أعانت على انتشار الإسلام، فهنالك - أيضاً - حماسة المجاهدين التي كانت تدفعهم لتخطي العوائق، والاستجابة للتحديات، وقبول الموت إذا كان يعني في النهاية استشهادهم، أو انتصار كلمتهم في الأرض.
وهنالك، فوق هذا وذاك، تجاوز القسر المذهبي بصيغه كافة، ومنح حرية الاختيار أمام المغلوبين على مصراعيها، "فالقوة لم تكن العنصر الأولي للتوسع الإسلامي، والفكرة المسبقة الغربية القائلة بانتشار الإسلام انتشاراً سريعاً بفضل السيف، ينبغي أن تطرح ويكفي دليلاً قاطعاً على ذلك، أن تكون الشعوب التي أخضعت، ثم رفضت السيطرة الغربية، قد احتفظت بالدين الإسلامي." فالاختيار الحرّ، لا القسر والإرغام، هو الذي يمنح العقائد ديمومتها وبقاءها بمواجهة التحديات والمتغيرات.
سابعاً: التعامل مع الآخر
يؤكد المؤلف أن الإسلام حاول منذ القرن السابع للميلاد أن يقدم حلاّ لمشكلة الأقليات، فريداً في نوعه. وهو يصف الحل الإسلامي لمشكلة الأقليات، بأنه "تجديد يلفت الأنظار،" يجد فيه الإنسان احترامه، في مجتمع يؤمن بالمساواة، بحثاً عن أفضل عدالة ممكنة، وبتوجيه من شريعة استعلائية." فنحن إذن، ومن خلال تحليل "بوازار"، إزاء "حل لمشكلة الأقليات فريد في نوعه" و"نهج لا مثيل له" و"تجديد يلفت الأنظار"، كما أننا إزاء مبدأ " أكد بشكل رائع، وقبل أية حضارة أو دين على ما يبدو احترام الإنسان، في مجتمع يؤمن بالمساواة بحثاً عن أفضل عدالة ممكنة."
فأين هي مصداقية هذه الاستنتاجات؟
لقد مررنا في الفقرة السابقة التي عالجت انتشار الإسلام بإيجاز، ببعض المعطيات التي تؤكد، ولا ريب، استنتاجات كهذه، لكننا هنا سنتابع "بوازار" وهو يقدم المزيد من الشهادات والوقائع التي يمكن، لغرض التوضيح فحسب، أن ندرجها في سياقات ثلاثة كانت تشكل الجسور الرئيسية بين الغالب والمغلوب، وبين المسلمين والجماعات الأخرى، وهذه السياقات هي: التسامح، الحرية، وحماية الحق.
ففي سياق التسامح، يبدأ "بوازار" بطرح المقولة التالية: "إليك إحدى أهم مساهمات الإسلام في تأليف مفهوم عالمي حديث: التسامح، وهو واجب ديني وأمر شرعي. والقرآن واضح في الإشارة إليه." وهنا لا نجد التسامح اختياراً كيفياً، ولا منّة يمنّ بها الغالب على المغلوب إنه "واجب" و "أمر"، ليس هذا فحسب، بل إن هذا الواجب أو الأمر، لا يستمد إلزامه من مصدر وضعي.. إنه أمر الله، وكتاب الله واضح في الإشارة إليه. هذا هو الذي يجعل من مبدأ التسامح الإسلامي واحداً من أبرز ممارسات الحياة الإسلامية، وأشدها التصاقاً بالتعامل والسلوك، وليست بقعاً تتوزع على خارطة العلاقات هنا وهناك.. إنها إيقاع هذه العلاقات وفي صميم نسيجها" وعلى الرغم من جميع تقلبات التاريخ وصروفه، فقد تمكنت القاعدة القرآنية، من فرض تسامح، قلّما تتقيد به الأنظمة الاجتماعية حتى في هذه الأيام. فلقد حددت منذ القرن السابع الميلادي صفة إنسانية للأفراد، غير المساهمين في الرابط المجتمعي الديني والقانوني. وتمكن الإشارة عن طريق المقابلة بالضد، إلى أن مذهب الحق الدولي المعاصر ما يزال يسعى لتحديد (أضأل وضع) للأجانب."
ويواصل "بوازار" تأكيد واقعة التسامح الإسلامي، فيقرّ بأنه " لابدّ من الاعتراف بأن الإسلام كان متسامحاً على الصعيد الديني، بل على أكثر من ذلك؛ لأنه يحترم معتنقي الرسالات الإلهية السابقة ويحميهم. وأخيراً، وعلى الرغم من الضرورات الاقتصادية والحاجات الإدارية، أظهر الإسلام من وجهة النظر السياسية التاريخية، تقديراً رائعاً لأهل الكتاب، بقبوله بأن يعيشوا في كنفه. فقد أبقى على مؤسسات إدارية وكنسية وقضائية، لا تتوافق مع الشريعة القرآنية، ولم يفرض على الذميين بعض المحظورات، على الرغم من كونها أوامر إلهية. والتسامح الإسلامي عبارة عن تقدير لغير المسلم وعدل وإرادة إلهية. وطابعه الإلزامي، يضفي عليه بُعداً خاصاً، يتيح له أن يبلغ أكرم ما يحمل لفظه من معنى. فهو يستلهم احترام الإنسان الذي يعتقد فكرة مخالفة، فالاحترام يستهدف الإنسان لا رأيه."
ويقارن بين الإسلام والتجارب الدينية والوضعية الأخرى، في الماضي والحاضر، فيجد أنه " في حين كانت الحصرية والتعصّب من فضائل الدولة في الغرب المسيحي - وبقيت كذلك لعدة قرون - كان قد سبق للإمبراطورية الإسلامية أن تقبّلت جماعات كثيفة من غير المسلمين، وحمتهم بمعاهدات لا سبيل إلى انتهاكها. وكان من نتيجة عيش المسلمين والمسيحيين واليهود جنباً إلى جنب، أن خلق بينهم جواً من التسامح، لم يسبق للعالم الممتد على سواحل البحر الأبيض أن عرفه قط من قبل. ولابد أن نلاحظ، من خلال رؤية واقعية، أن مختلف الأنظمة المقترحة لتأمين احترام الأقليات، توفر القليل من الضمانات الفعلية. والتاريخ الحديث ماثل مع الأسف أمامنا للتذكير بذلك."
والتسامح الإسلامي لا يقتصر ويتحدّد بجغرافية عالم الإسلام، إنه يتجاوزها إلى العالم كلّه، لأن محور هذا التسامح، "احترام الإنسان"، وهو –كذلك- "تحريره" و"حماية حقه" من العدوان. وهكذا "ظلت أبواب العالم الإسلامي مشرعة على مصاريعها أمام المسافرين، والمنفيين، والتجار غير المسلمين، بغض النظر عن الحال التي كان عليها الوضع الدولي."
بينما الأوربيون الذين حكمتهم دائماً منفعتهم الخاصة وأنانياتهم العرقية، وإلغاؤهم لغير الأوربي من الحسابات الأخلاقية في التعامل. استخدموا -للأسف الشديد- "التنظيمات الإسلامية الأصيلة السمحاء لحماية الأقوام غير المسلمة، وسيلة للتدخل والهيمنة على دار الإسلام."
وحرية الاختيار العقدي هي صنو التسامح، فهي ليست شعاراً يطرح، ولكنها فعل، وتحقق، والتزام. ولها مرتكزات موغلة في صميم العقيدة الإسلامية، وسائر البنى التشريعية والسلوكية التي تتمخض عنها وتقوم عليها. والإسلام في موقفه هذا، لا يجامل على حساب الحقيقة الدينية المطلقة، التي جاء بها لمواجهة تحريفات الوضعيين والمتدينين على السواء، كما يحاول اليوم المهزومون من المسلمين في دوائر وأنشطة التقارب بين الأديان. ولكنه يؤكد حقاً إنسانياً ثابتاً، ويعزز تقييمه للعقل والإرادة، اللذين هما مناط الموقف العقدي. صحيح أن الإسلام منح احتراماً أعلى درجة للأديان ذات الأصول السماوية بحكم أصولها هذه، لكنه لم يتهادن البتة بصدد مرتكزه الأساسي في النظر إليها، والتحاور معها، ونقصد بذلك، التوحيد الذي كان بمثابة القول الفصل للحسم بين الإسلام، وسائر الأديان التي حرّفتها المصالح والأهواء. وهكذا فإن الحرية التي منحها الإسلام أتباع هذه الأديان، والحماية الشاملة التي أحاط بها أنشطتهم العقدية، أمر يختلف بالكلية عن أية شبهة لإقامة الجسور بين نمطين من العقائد، ينطلقان من أصول واحدة. ولكن السبل تفرقت بهما، فمضت الأديان السابقة صوب الشرك والتعدد، وأعلن الإسلام بوضوح وصرامة وحسم، أنه لا يقبل مطلقاً أي انحراف عن مبدئه في التوحيد.
وهكذا يجد "بوازار" كيف أن الإسلام "يعلّم كل مسلم، عن طريق الإيمان والإلزام باحترام التنزيل الإلهي بشكله الإجمالي، أن ينشر عقيدته محترماً عقيدة الآخرين." بينما يجد في الجهة الأخرى أن " القتال المفتوح مع المشركين"، وتضييق الخناق على الوثنية، وعدم إتاحة المجال لها للعبث بالموقف الديني وتهديده باسم حرية الاختيار، هو موقف "لا يبدو موجهاً إلاّ إلى عدوانية خاصة بوثنية ضيقة وبربرية وثنية لا تملك أي مفهوم لربوبية عليا."
ومن ثم فإن آيات (براءة) المعروفة في مقدمة سورة التوبة، التي جاءت في أخريات عصر الرسالة، بمثابة إعلان نهائي عن تصفية الوجود الوثني، ولا تعني من قريب أو من بعيد، أي مساس بحرية المعتقد التي نادى بها الإسلام، ونفذها في الواقع، كما لم ينفذها دين أو مذهب قبله ولا بعده، وإنما هو، مرة أخرى، التوجّه التقدمي لعقيدة ترفض السماح لقوى الشدّ، والجهل، والتخلف، والبربرية، أن تعرقل مسيرة الدين، الذي جاء لكي يمضي بالإنسان قدما إلى الأمام، وحتى النهاية. وإلاّ فما الذي جعله يقدم معطياته الغنية تلك، إزاء كافة الفئات الأخرى من غير المسلمين، التي كان موقعها -مهما قيل عنه- أبعد عن مواقع التخلف والهمجية؟!
ويرى "بوازار" أن هذه الأقليات اتحدت وتآلفت، "وخضعت لنظامها الديني الخاص، وانخرطت في البنية الاجتماعية الفوقية للمجتمع الإسلامي الذي يحميها..." وبذلك نشأ عالم جديد صنعه دين جديد، يذكرنا بتركيبه العقدي المدهش، وبحرية الاختيار الذي مارسته الجماعات التي شكلته، بالعمل السيمفوني الذي يتيح للنغمات كافة أن تعزف ألحانها، ولكنه لا يسمح لها في نهاية الأمر أن تنساق إلى الفوضى والنشاز. إنما هو التوافق الباهر، الذي يجعل الجميع يتحركون - إذا صح التعبير - في مجال ذي طبقتين: التعبير الذاتي، والتوظيف للهدف الفوقي الشامل الذي يقود الجميع.
لقد كان "أعضاء كل زمرة من زمر الأقلية" في هذا المجتمع الإسلامي "خاضعين لقوانينهم الخاصة، ولا يفترض فيهم التقيد بالنظام الإسلامي كما يتقيد به المسلمون، ما عدا بعض التنظيمات التي تحفظ الأمن العام. وقد كان من شأنه أن يسمح بإقامة نظام يضمن أشخاص الأقليات وممتلكاتهم في المجتمع، عن طريق تأمين احترام دينهم وأخلاقهم ومؤسساتهم."
ومنذ البدء، وضع الرسول المعلم "صلى الله عليه وسلم" ضوابط على الخارطة العقدية للعالم الذي بعث لكي يصنعه على عين الله. ففي عام 630م "عقد محمد "صلى الله عليه وسلم" آخر اتفاق مع مسيحيي نجران، يتعهد فيه بحمايتهم وتأمينهم على نفوسهم وممتلكاتهم، وضمان حريتهم في التمسك بعقيدتهم وعبادتهم، على أن يعترفوا للإسلام بنوع من السيادة السياسية المطلقة.
ولم يفقد أهالي نجران من الوجهة القانونية الصرف أي حق من حقوقهم، باستثناء ما كان من أمر تحريم الربا. وكانت هناك أحكام خاصة تمنع تدخل النفوذ الإسلامي في الجهاز الكهنوتي المسيحي، وتحظر الإساءة إلى أهل الذمة، وكل شكل من أشكال الاضطهاد. ولما كانت السُُّنة الإسلامية قد اعترفت بصحة الاتفاقات وسجلها الفقه كذلك، فقد أكدته مصادر القانون الخاص بوضع غير المسلمين المقيمين على أرض الإسلام، وسرعان ما اتخذت هذه الأحكام طابع الديمومة. ولن تكون المعاهدات التي يبرمها الخلفاء فيما بعد إلاّ تكرارا في الغالب للاتفاق المعقود بين محمد "صلى الله عليه وسلم" وأهالي نجران."
وإذا كان الكتابيون يدفعون الجزية، فقد كانوا يحصلون على ضمان بعدم المساس بأشخاصهم أو ممتلكاتهم، ويتمتعون بالتالي بالشخصية القانونية التي يتمتع بها المؤمنون." ولم يكن أحد "يزعج اليهود والنصارى في ممارسة عبادتهم، ولا حدث أن ألحق بهم التمييز بصورة منتظمة، ولا أكرهوا على التخلّي عن دينهم لمصلحة الإسلام. والأعمال التي قد تبدو عنيفة في الوقت الحاضر، إنما كانت تقررها، على ما يظهر، المصلحة العليا أكثر مما يقررها التعصب الديني."
ويدين "بوازار" بقوة تلك "الكتابات الغربية، التي كثيراً ما لجأت "إلى عملية تعميم مفرطة في التبسيط، فعدّت هؤلاء المحميين (من أهل الكتاب) بمثابة (مواطنين من الدرجة الثانية). والواقع أن هؤلاء القوم، كانوا أجانب خاضعين لقوانينهم الخاصة، و(محميين) بالمعنى الفعلي للفظة، لأنهم مقيمون جغرافياً في المجال الخاضع سياسياً وثقافياً للإسلام، وكانوا يؤلفون أقليات دينية متناسقة، تكفل أوضاعها نظم قانونية ملزمة إلزاماً شديداً للأغلبية المسلمة، لأنها جزء من التنزيل." فحقوق المواطنة ليست هوى أو ميل لهذا الحاكم أو ذاك، بل هي التزام عقدي ثابت، ودائم، ومُصان، وغير خاضع للمتغيرات والنسبيات؛ لأنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله "صلى الله عليه وسلم" بل هو جزء منها. هذا هو الذي يفسّر لنا ديمومة هذه العلاقة الإنسانية في مجتمعات الإسلام، رغم تغير الظروف والأحوال، ورغم بروز وقائع ومعطيات كانت تدفع، في مجتمعات أخرى، إلى تغيير حاسم في موقف أبنائها من مخالفيهم في الاعتقاد.
ومرة أخرى فإن "الذميين لم يكونوا يشكلون فئة أدنى على الصعيد الاجتماعي البحت. وهل من حاجة إلى التذكير فوق هذا، بأن عدداً من (أهل الكتاب) قد لعبوا دوراً سياسياً من الطراز الأول في التاريخ الإسلامي."
ويواصل "بوازار" تأكيده لهذه المسألة، وهي: الموقع الذي يحتله غير المسلمين على خارطة الديار الإسلامية، وفي ظلال القيادات الإسلامية، فيردّ على ما يسميه "الزعم بأن القوم الخاضعين للحماية، من أهل الكتاب، يتخلون عن سيادتهم الخارجية، وعن الجزء الأكبر من سيادتهم الداخلية، بقبولهم دفع الجزية للسلطة المسلمة التي تكفل حمايتهم" ويرى أن زعماً كهذا، إنما "هو استدلال بمعطيات مخالفة للتاريخ، ومماثلة بين مؤسسة الجزية، وأحد الإجراءات القانونية الحديثة كالاستعمار أو نظام الوصاية. فالقضية هي على العكس من ذلك، قضية وثيقة قانونية تلقائية أصيلة تغاير القانون غير المشروط، كما تغاير المعاهدة الدولية.
إنها التعبير العملي عن التسامح الإسلامي، الذي يسمح باستقبال قوميين متحققين بوضع خاص في قلب العالم الإسلامي" كما أنه يرى بأن "ما كان يفرض على الأقليات الذمية من تكليف، يبدو، حتى على ضوء مفاهيمنا الحديثة، معتدلاً ومنصفاً: ضريبة تدفع تعويضاً عن حمل السلاح، واحتراماً للدين، وبالتالي لمؤسسات الدولة الغالبة السياسية والاجتماعية، ومساهمة غير مباشرة في المجهود لحماية الجماعة، واحتراماً للأمن العام."
وبوصفه رجل قانون دولي، فإنه يلحظ ويقيّم تلك "الحقوق والضمانات الممنوحة جماعياً للأقليات القاطنة في كنف الإسلام " وكونها " دائمة وغير قابلة للتنازل عنها، مهما تكن حال العلاقات بين العالم الإسلامي، ومعتنقي دين الأقليات الذين يعيشون خارجه. " ويستنتج بأن "هذه التنظيمات القانونية الخاصة والإلزامية،" قد أدّت على ما يبدو "إلى تكوّن جنين قانون دولي عام لدى فقهاء المسلمين، قبل أن يفكر بذلك مشرّعو العالم المسيحي بزمن."
وهو يلقي المزيد من الضوء على وضع الأجنبي في أرض الإسلام، كامتداد لوضع المواطن غير المسلم في عالم الإسلام، فيؤكد مبدأ " ضمان سلامة الأجنبي بصورة ناجزة؛ "إذ إن الموقف أو التشريع ها هنا أيضاً، "يستمد قوته الإلزامية من الشريعة الإلهية التي لا يمكن أن تخضع للتغيرات المحتملة على الدوام في تشريعات البشر." وهكذا "يصبح الأجنبي ضيفاً مقدس الضيافة. وإذا حدث لسبب قاهر ما يوجب وقف الحماية، فإن المحمي يتمتع بحق مطلق في أن يقاد بلا عنف إلى حدود الدولة التي هو من رعاياها"، بل إن "المؤسسة المعتبرة مظهراً حياً للتسامح الإسلامي والضيافة المقدسة، هي في الواقع أكثر من ذلك. فحق أي من الناس في تقديم الملاذ باسم الجماعة بأسرها، يمثل بشكل من الأشكال، نوعاً من تعبير فردي عن الوقوف في وجه سلطة الرئيس ورابطة المجتمع الديني. ويوضح هذا التعبير أكثر ما يوضح، الاحترام الذي يكنه الإسلام للإنسان بكليته." وعلى ضوء هذه الحقيقة الخطيرة والمؤكدة، تبدو كافة المذاهب والأديان والمعتقدات التي مارست اضطهاد غير المنتمين إليها، وفتنتهم عن قناعاتهم، منذ عصر الاسترقاق الروماني وحتى عصر الاستلاب الإمبريالي والقسر الشيوعي، مروراً بمحاكم التحقيق وسائر الممارسات اليهودية والمسيحية والهندوسية الجائرة، تبدو جميعاً موجهة ضد الإنسان، كما هي في الوقت نفسه مروق عن أمر الله..
هذا هو حجر الزاوية الذي يقوم عليه بنيان هذا الدين ومعطياته، إزاء غير المنتمين إليه: وهو احترام الإنسان بكلّيته..
الإنسان.. ابتداء..
المصدر : مجلة إسلامية المعرفة ـ العدد 94 .