تكمله حكاية الحمال مع البنات

الليلة العاشرة

قالت دنيازاد لأختها شهرزاد : يا أختي أتمي لنا حديثك .
قالت : حباً وكرامة

قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أنهن لم يزلن يتضاحكن ويتلاعبن حتى استلقين على ظهورهن ثم عادوا إلى منادمتهم ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل الليل عليهم فقلن للحمال :
توجه وأرنا عرض أكتافك .
فقال الحمال : والله خروج الروح أهون من الخروج من عندكن ، دعونا نصل الليل بالنهار وكل منا يروح في حال سبيله .
فقالت الدلالة : بحياتي عندكن تدعنه ينام عندنا نضحك عليه فإنه خليع ظريف .
فقلن له : تبيت عندنا بشرط أن تدخل تحت الحكم ومهما رأيته لا تسأل عنه ولا عن سببه .
فقال : نعم .
فقلن : قم واقرأ ما على الباب مكتوباً .
فقام إلى الباب فوجد مكتوباً عليه بماء الذهب : لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك .
فقال الحمال : اشهدوا أني لا أتكلم فيما لا يعنيني .
ثم قامت الدلالة وجهزت لهم مأكولاً ثم أوقدوا الشمع والعود وقعدوا في أكل وشرب وإذا هم سمعوا دق الباب فلم يختل نظامهم فقامت واحدة منهن إلى الباب ثم عادت وقالت :
كمل صفاؤنا في هذه الليلة لأني وجدت بالباب ثلاثة أعجام ذقونهم محلوقة وهم عور بالعين الشمال وهذا من أعجب الاتفاق ، وهم ناس غرباء قد حضروا من أرض الروم ولكل واحد منهم شكل وصورة مضحكة ، فإن دخلوا نضحك عليهم .
ولم تزل تتلطف بصاحبتيها حتى قالتا :
لها دعيهم يدخلون واشترطي عليهم أن لا يتكلموا في ما لا يعنيهم فيسمعوا ما لا يرضيهم .
ففرحت وزاحت ثم عادت ومعها الثلاثة العور ذقونهم محلوقة وشواربهم مبرومة ممشوقة وهم صعاليك فسلموا فقام لهم البنات وأقعدوهم فنظر الرجال الثلاثة إلى الحمال فوجدوه سكران فلما عاينوه ظنوا أنه منهم وقالوا :
هو صعلوك مثلنا يؤانسنا .
فلما سمع الحمال هذا الكلام قام وقلب عينيه وقال لهم : اقعدوا بلا فضول أما قرأتم ما على الباب .
فضحك البنات وقلن لبعضهن : إننا نضحك على الصعاليك والحمال .
ثم وضعن الأكل للصعاليك فأكلوا ثم جلسوا يتنادمون والبوابة تسقيهم .
ولما دار الكأس بينهم قال الحمال للصعاليك : يا إخواننا هل معكم حكاية أو نادرة تسلوننا بها .
فدبت فيهم الحرارة وطلبوا آلات اللهو فأحضرت لهم البوابة دف موصلياً وعوداً عراقياً وجنكاً عجمياً فقام الصعاليك واقفين وأخذ واحد منهم الدف ، وأخذ واحد العود ، وأخذ واحد الجنك وضربوا بها وغنت البنات وصار لهم صوت عال . فبينما هم كذلك وإذا بطارق يطرق الباب ، فقامت البوابة لتنظر من بالباب وكان السبب في دق الباب أن في تلك الليلة نزل هارون الرشيد لينظر ويسمع ما يتجدد من الأخبار هو وجعفر وزيره وسياف نقمته ، وكان من عادته أن يتنكر في صفة التجار .
فلما نزل تلك الليلة ومشى في المدينة جاءت طريقهم على تلك الدار فسمعوا آلات الملاهي فقال الوزير جعفر :
هؤلاء قوم قد دخل السكر فيهم ونخشى أن يصيبنا منهم شر .
فقال هارون الرشيد : لابد من دخولنا وأريد أن نتحايل حتى ندخل عليهم .
فقال جعفر : سمعاً وطاعة .
ثم تقدم جعفر وطرق الباب فخرجت البوابة وفتحت الباب ، فقال لها :
يا سيدتي نحن تجار من طبرية ولنا في بغداد عشرة أيام ومعنا تجارة ونحن نازلون في خان التجار وعزم علينا تاجر في هذه الليلة فدخلنا عنده وقدم لنا طعاماً فأكلنا ثم تنادمنا عنده ساعة ، ثم أذن لنا بالانصراف فخرجنا بالليل ونحن غرباء فتهنا عن الخان الذي نحن فيه فنرجو من مكارمكم أن تدخلونا هذه الليلة نبيت عندكم ولكم الثواب .
فنظرت البوابة إليهم فوجدتهم بهيئة التجار وعليهم الوقار فدخلت لصاحبتيها وشاورتهما فقالتا لها : أدخليهم .
فرجعت وفتحت لهم الباب فقالوا : ندخل بإذنك .
قالت : ادخلوا .
فدخل الخليفة وجعفر ومسرور فلما أتتهم البنات قمن لهم وخدمنهم وقلن :
مرحباً وأهلاً وسهلاً بضيوفنا ، ولنا عليكم شرط أن لا تتكلموا فيما لا يعنيكم فتسمعوا ما لا يرضيكم .
قالوا : نعم .
وبعد ذلك جلسوا للشراب والمنادمة فنظر الخليفة إلى الصعاليك الثلاثة فوجدهم عور العين الشمال فتعجب منهم ونظر إلى البنات وما هم فيه من الحسن والجمال فتحير وتعجب ، واستمر في المنادمة والحديث وأتين الخليفة بشراب فقال :
أنا حاج وانعزل عنهم .
فقامت البوابة وقدمت له سفرة مزركشة ووضعت عليها بمطية من الصيني وسكبت فيها ماء الخلاف وأرخت فيه قطعة من الثلج ومزجته بسكر فشكرها الخليفة وقال في نفسه :
لا بد أن أجازيها في غد على فعلها من صنيع الخير .
ثم اشتغلوا بمنادمتهم ، فلما تحكم الشراب قامت صاحبة البيت وخدمتهم ، ثم أخذت بيد الدلالة وقالت :
يا أختي قومي بمقتضى ديننا .
فقالت لها : نعم .
فعند ذلك قامت البوابة وأطلعت الصعاليك خلف الأبواب قدامهن وذلك بعد أن أخلت وسط القاعة ونادين الحمال وقلن له :
ما أقل مودتك ما أنت غريب بل أنت من أهل الدار .
فقام الحمال وشد أوسطه وقال : ما تردن فلن تقف مكانك .
ثم قامت الدلالة وقالت للحمال : ساعدني .
فرأى كلبتين من الكلاب السود في رقبتيهما جنازير فأخذهما الحمال ودخل بهما إلى وسط القاعة فقامت صاحبة المنزل وشمرت عن معصميها وأخذت سوطاً وقالت للحمال :
قوم كلبه منهما .
فجرها في الجنزير وقدمها والكلبة تبكي وتحرك رأسها إلى الصبية فنزلت عليها الصبية بالضرب على رأسها والكلبة تصرخ وما زالت تضربها حتى كلت سواعدها فرمت السوط من يدها ثم ضمت الكلبة إلى صدرها ومسحت دموعها وقبلت رأسها ثم قالت للحمال :
ردها وهات التالية .
فجاء بها وفعلت بها مثل ما فعلت بالأولى .
فعند ذلك اشتعل قلب الخليفة وضاق صدره وغمز جعفر أن يسألها ، فقال له بالإشارة اسكت ، ثم التفتت صاحبة البيت للبوابة وقالت لها :
قومي لقضاء ما عليك .
قالت : نعم .
ثم إن صاحبة البيت صعدت على سرير من المرمر مصفح بالذهب والفضة وقالت للبوابة والدلالة :
ائتيا بما عندكما .
فأما البوابة فإنها صعدت على سرير بجانبها وأما الدلالة فإنها دخلت مخدعاً وأخرجت منه كيساً من الأطلس بأهداب خضر ووقفت قدام الصبية صاحبة المنزل ونفضت الكيس وأخرجت منه عوداً وأصلحت أوتاره وأنشدت هذه الأبيات :
ردوا على جفني النوم الذي سلـبـا ........ وخبروني بعـقـلـي آية ذهـبـا
علمت لما رضيت الحب مـنـزلة ........ إن المنام على جفني قد غصـبـا
قالوا عهدناك من أهل الرشاد فما ........ أغواك قلت اطلبوا من لحظة السببا
إني له عن دمي المسفوك معتـذر ........ أقول حملته في سفكـه تـعـبـا
ألقى بمرآة فكري شمس صورته ........ فعكسها شب في أحشائي اللهبـا
من صاغه الله من ماء الحياة وقد ........ أجرى بقيته في ثغـره شـنـبـا
ماذا ترى في محب ما ذكرت لـه ........ إلا شكى أو بكى أو حن أو أطربا
يرى خيالك في المـاء الـذلال إذا ........ رام الشراب فيروى وهو ما شربا
وأنشدت أيضاً :
سكرت من لحظه لا من مدامته ........ ومال بالنوم عن عيني تمايلـه
فما السلاف سلتني بل سوالفـه ........ وما الشمل شلتني بل شمائلـه
فلما سمعت الصبية ذلك ، قالت :
طيبك الله .
ثم شقت ثيابها ووقعت على الأرض مغشياً عليها ، فلما انكشف جسدها رأى الخليفة أثر ضرب المقارع والسياط فتعجب من ذلك غاية العجب فقامت البوابة ورشت الماء على وجهها وأتت إليها بحلة وألبستها إياها ، فقال الخليفة لجعفر :
أما تنظر إلى هذه المرأة وما عليها من أثر الضرب ، فأنا لا أقدر أن أسكت على هذا وما أستريح إلا إن وقفت على حقيقة خبر هذه الصبية وحقيقة خبر هاتين الكلبتين .
فقال جعفر : يا مولانا قد شرطوا علينا شرطاً وهو أن لا نتكلم فيما لا يعنينا فنسمع ما لا يرضينا .
ثم قامت الدلالة فأخذت العود وأسندته إلى نهدها ، وغمزته بأناملها وأنشدت تقول :
إن شكونا الهوى فمـاذا تـقـول ........ أو تلفنا شوقاً فماذا الـسـبـيل
أو بعثنا رسلاً نتـرجـم عـنـا ........ ما يؤدي شكوى المحب رسـول
أو صبرنا فما لنـا مـن بـقـاء ........ بعد فقد الأحـبـاب إلا قـلـيل
ليس إلا تـأسـفـاً ثـم حـزنـاً ........ ودموعاً على الخـدود تـسـيل
أيها الغائبون عن لمـح عـينـي ........ وعم في الفؤاد منـي حـلـول
هل حفظتم لدى الهوى عهد صب ........ ليس عنه مدى الزمـان يحـول
أم نسيتم على التبـاعـد صـبا ........ شفه فبكم الضنى والـنـحـول
وإذا الحشر ضمنـا أتـمـنـى ........ من لدن وبنا حسـابـاً يطـول
فلما سمعت المرأة الثانية شعر الدلالة شقت ثيابها كما فعلت الأولى ، وصرخت ثم ألقت نفسها على الأرض مغشياً عليها ، فقامت الدلالة وألبستها حلة ثانية بعد أن رشت الماء على وجهها ثم قامت المرأة الثالثة وجلست على سرير وقالت للدلالة :
غني لي لا في ديني فما بقي غير هذا الصوت .
فأصلحت الدلالة العود وأنشدت هذه الأبيات :
فإلى متى هذا الصدود وذا الجفـا ........ فلقد جوى من أدمعي ما قد كفى
كم قد أطلت الهجر لي معتـمـداً ........ إن كان قصدك حاسدي فقد اشتفى
لو أنصف الدهر الخؤون لعاشـق ........ ما كان يوم العواذل منـصـفـا
فلمن أبوح بصبوتي يا قـاتـلـي ........ يا خيبة الشاكي إذا فقـد الـوفـا
ويزيد وجدي في هواك تلـهـفـاً ........ فمتى وعدت ولا رأيتك مخلـفـا
يا مسلمون خذوا بـنـار مـتـيم ........ ألف الشهادة لديه طرف ما غفـا
أيحل في شرع الغرام تـذلـلـي ........ ويكون غيري بالوصال مشرفـا
ولقد كلفت بحبـكـم مـتـلـذذاً ........ وغدا عذولي في الهوى متكلفـا
فلما سمعت المرأة الثالثة قصيدتها صرخت وشقت ثيابها وألقت نفسها على الأرض مغشياً عليها فلما انكشف جسدها ظهر فيه ضرب المقارع ، مثل من قبلها فقال الصعاليك :
ليتنا ما دخلنا هذه الدار وكنا بتنا على الكيمان ، فقد تكدر مبيتنا هنا بشيء يقطع الصلب .
فالتفت الخليفة إليهم وقال لهم : لم ذلك .
قالوا : قد اشتغل سرنا بهذا الأمر .
فقال الخليفة : أما أنتم من هذا البيت .
قالوا : لا ولا ظننا هذا الموضع إلا للرجل الذي عندكم .
فقال الحمال : والله ما رأيت هذا الموضع إلا هذه الليلة وليتني بت على الكيمان ولم أبت فيه .
فقال الجميع : نحن سبعة رجال وهن ثلاث نسوة وليس لهن رابعة فنسألهن عن حالهن فإن لم يجبننا طوعاً أجبننا كرهاً واتفق الجميع على ذلك .
فقال جعفر : ما هذا رأي سديد دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطن علينا ، شرطاً فنوفي به ولم يبق من الليل إلا القليل وكل منا يمضي إلى حال سبيله .
ثم إنه غمز الخليفة وقال : ما بقي غير ساعة ، وفي غد تحضرهن بين يديك ، فتسألهن عن قصتهن .
فأبى الخليفة وقال : لم يبق لي صبر عن خبرهن وقد كثر بينهن القيل والقال
ثم قالوا : ومن يسألهن .
فقال بعضهم : الحمال .
ثم قال لهم النساء : يا جماعة في أي شيء تتكلمون .
فقال الحمال لصاحبة البيت : يا سيدتي سألتك بالله وأقسم عليك به أن تخبرينا عن حال الكلبتين ، وأي سبب تعاقبيهما ثم تعودين تبكين ، وتقبليهما وأن تخبرينا عن سبب ضرب أختك بالمقارع وهذا سؤالنا والسلام .
فقالت صاحبة المكان للجماعة : ما يقوله عنكم .
فقال الجميع : نعم .
إلا جعفر فإنه سكت .
فلما سمعت الصبية كلامهم قالت : والله لقد آذيتمونا يا ضيوفنا ، الأذية البالغة ، وتقدم لنا أننا شرطنا عليكم أن من تكلم فيما لا يعنيه ، سمع ما لا يرضيه أما كفا أننا أدخلناكم منزلنا وأطعمناكم زادنا ولكن لا ذنب لكم وإنما الذنب لمن أوصلكم إلينا .
ثم شمرت عن معصمها وضربت الأرض ثلاث ضربات وقالت عجلوا .
وإذا بباب خزانة قد فتح وخرج منها سبعة عبيد بأيديهم سيوف مسلولة وقالت :
كتفوا هؤلاء الذين كثر كلامهم واربطوا بعضهم ببعض .
ففعلوا وقالوا : أيتها المخدرة ائذني لنا في ضرب رقابهم .
فقالت : أمهلوهم ساعة حتى أسألهم عن حالهم قبل ضرب رقابهم .
فقال الحمال : بالله يا سيدتي لا تقتليني بذنب الغير فإن الجميع أخطأوا ، ودخلوا في الذنب ، إلا أنا والله لقد كانت ليلتنا طيبة لو سلمنا من هؤلاء الصعاليك الذين لو دخلوا مدينة عامرة لأخربوها ، ثم أنشد يقول :
ما أحسن الغفران من قادر ........ لا سيما عن غير ذي ناصر
بحرمة الود الذي بـينـنـا ........ لا تقتلي الأول بـالآخـر
فلما فرغ الحمال من كلامه ضحكت الصبية .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .