تكمله حكاية الحمال مع البنات

الليلة الثانية عشرة

قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية :
ثم خرجت إلى المقابر وفتشت على التربة فلم أعرفها ولم أزل أفتش حتى أقبل الليل ولم أهتد إليها فرجعت إلى القصر لم آكل ولم أشرب وقد اشتغل خاطري بابن عمي من حيث لا أعلم له حالاً فاغتممت غماً شديداً وبت ليلتي مغموماً ، إلى الصباح فجئت ثانياً إلى الجبانة وأنا أتفكر فيما فعله ابن عمي ، وندمت على سماعي منه وقد فتشت في الترب جميعاً فلم أعرف تلك التربة ، ولازمت التفتيش سبعة أيام فلم أعرف له طريقاً .
فزاد بي الوسواس حتى كدت أن أجن فلم أجد فرجاً دون أن سافرت ، ورجعت عليه ، فساعة وصولي إلى مدينة أبي نهض إلى جماعة من باب المدينة وكتفوني فتعجبت كل العجب إني ابن سلطان المدينة وهم خدم أبي وغلماني ، ولحقني منهم خوف زائد ، فقلت في نفسي يا ترى أجرى على والدي وصرت أسأل الذين كنفوني عن سبب ذلك فلم يردوا علي جواباً .
ثم بعد حين قال لي بعضهم وكان خادماً عندي ، إن أباك قد غدر به الزمان وخانته العساكر وقتله الوزير ونحن نترقب وقوعك ، فأخذوني وأنا غائب عن الدنيا بسبب هذه الأخبار التي سمعتها عن أبي فلما تمثلت بين يدي الوزير الذي قتل أبي وكان بيني وبينه عداوة قديمة وسبب تلك العداوة أني كنت مولعاً بضرب البندقية فاتفق أني كنت واقفاً يوماً من الأيام على سطح قصر وإذا بطائر نزل على سطح قصر الوزير وكان واقفاً هناك ، فأردت أن أضرب الطير وإذا بالبندقية أخطأت عين الوزير ، فأتلفتها بالقضاء والقدر كما قال الشاعر :
دع الأقدار تفعل ما تـشـاء ........ وطب نفساً بما فعل القضاء
ولا تفرح ولا تحزن بشيء ........ فإن الشيء ليس له بـقـاء
وكما قال الآخر :
مشينا خطا كتبـت عـلـينـا ........ ومن كتب عليه خطاً مشاهـا
ومن كانت منـيتـه بـأرض ........ فليس يموت في أرض سواها
ثم قال ذلك الصعلوك : فلما أتلفت عين الوزير لم يقدر أن يتكلم لأن والدي كان ملك المدينة فهذا سبب العداوة التي بيني وبينه فلما وقفت قدامه ، وأنا مكتف أمر فضرب عنقي فقلت :
أتقتلني بغير ذنب ؟
فقال : أي ذنب أعظم من هذا ؟
وأشار إلى عينه المتلفة ، فقلت له : فعلت ذلك خطأ .
فقال : إن كنت فعلته خطأ فأنا أفعله بك عمداً .
ثم قال : قدموه بين يدي .
فقدموني بين يديه ، فمد إصبعه في عيني الشمال فأتلفها فصرت من ذلك الوقت أعور كما تروني ، ثم كتفني ووضعني في صندوق وقال للسياف :
تسلم هذا وأشهر حسامك ، وخذه واذهب به إلى خارج المدينة واقتله ودعه للوحوش تأكله .
فذهب بي السياف وصار حتى خرج من المدينة ، وأخرجني من الصندوق وأنا مكتوف اليدين مقيد الرجلين وأراد أن يغمي عيني ويقتلني فبكيت وأنشدت هذه الأبيات :
جعلتكموا درعاً حصيناً لتمنعوا ........ سهام العدا عني فكنتم نصالها
وكنت أرجي عند كل مـلـمة ........ تخص يميني أن تكون شمالها
دعوا قصة العذال عني بمعزل ........ وخلوا العدا ترمي إلي نبالهـا
إذا لم تقوا نفسي مكايدة العـدا ........ فكونوا سكوتاً لا عليها ولا لها
وأنشدت أيضاً هذه الأبيات :
وإخوان اتخذتـهـم دروعـاً ........ فكانوها ولكن لـلأعـادي
رحلتهم سهامـاً صـائبـات ........ فكانوا ولكن فـي فـؤادي
وقالوا قد سعينا كل سـعـي ........ لقد صدقوا ولكن في فسادي
فلما سمع السياف شعري وكان سياف أبي ولي عليه إحسان ، قال :
يا سيدي كيف أفعل وأنا عبد مأمور .
ثم قال لي : فر بعمرك ولا تعد إلى هذه المدينة فتهلك وتهلكني معك كما قال الشاعر :
ونفسك فر بها إن خفت ضيماً ........ وخل الدار تنعي من بناهـا
فإنك واحد أرضـاً بـأرض ........ ونفسك لم تجد نفساً سواهـا
عجبت لمن يعيش بـدار ذل ........ وأرض الله واسعة فـلاهـا
وما غلظت رقاب الأسد حتى ........ بأنفسها تولت ما عـنـاهـا
فلما قال ذلك قبلت يديه وما صدقت حتى فررت وهان علي تلف عيني بنجاتي من القتل ، وسافرت حتى وصلت إلى مدينة عمي فدخلت عليه وأعلمته بما جرى لوالدي ، وبما جرى لي من تلف عيني فبكى بكاء شديداً وقال :
لقد زدتني هماً على همي وغماً على غمي ، فإن ابن عمك قد فقد منذ أيام ولم أعلم بما جرى له ولم يخبرني أحد بخبره .
وبكى حتى أغمي عليه فلما استفاق قال :
يا ولدي قد حزنت على ابن عمك حزناً شديداً وأنت زدتني بما حصل لك ولأبيك ، غماً على غمي ، ولكن يا ولدي بعينك ولا بروحك .
ثم إنه لم يمكني السكوت عن ابن عمي الذي هو ولده فأعلمته بالذي جرى له كله ففرح عمي بما قلته له فرحاً شديداً عند سماع خبر ابنه ، وقال :
أرني التربة .
فقلت : والله يا عمي لم أعرف مكانها لأني رجعت بعد ذلك مرات لأفتش عليها فلم أعرف مكانها .
ثم ذهبت أنا وعمي إلى الجبانة ، ونظرت يميناً وشمالاً فعرفتها ففرحت أنا وعمي فرحاً شديداً ودخلت أنا وإياه التربة وأزحنا التراب ورفعنا الطابق ونزلت أنا وعمي مقدار خمسين درجة ، فلما وصلنا إلى آخر السلم وإذا بدخان طلع علينا فغشي أبصارنا ، فقال عمي الكلمة التي لا يخاف قائلها وهي :
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثم مشينا وإذا نحن بقاعة ممتلئة دقيقاً وحبوباً ومأكولات وغير ذلك ورأينا في وسط القاعة ستارة مسبولة على سرير فنظر عمي إلى السرير فوجد ابنه هو والمرأة التي قد نزلت معه صار فحماً أسود وهما متعانقان كأنهما ألقيا في جب نار ، فلما نظر عمي بصق في وجهه وقال تستحق يا خبيث فهذا عذاب الدنيا وبقي عذاب الآخرة وهو أشد وأبقى .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .