تكمله حكاية الحمال مع البنات

الليلة الثامنة عشرة

قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية ما زالت تحس الشاب للتوجه معها حتى غلب عليها النوم فنامت تلك الليلة تحت رجليه وهي لا تصدق بما هي فيه من الفرح ، ثم قالت :
فلما أصبح الصباح قمنا ودخلنا إلى الخزائن وأخذنا ما خف حمله وغلا ثمنه ونزلنا من القلعة إلى المدينة فقابلنا العبيد والريس وهم يفتشون علي فلما رأوني فرحوا بي وسألوني عن سبب غيابي فأخبرتهم بما رأيت وحكيت لهم قصة الشاب وسبب مسخ أهل هذه المدينة وما جرى لهم فتعجبوا من ذلك .
فلما رأتني أختاي ومعي ذلك الشاب حسدتاني عليه وصارتا في غيظ وأضمرتا المكر لي .
ثم نزلنا المركب وأنا بغاية الفرح وأكثر فرحي بصحبة هذا الشاب وأقمنا ننتظر الريح حتى طابت لنا الريح فنشرنا القلوع وسافرنا فقعدت أختاي عندنا وصارت تتحدثان فقالتا لي :
يا أختاه ما تصنعين بهذا الشاب الحسن ؟
فقلت لهما : قصدي أن اتخذه بعلاً .
ثم التفت إليه وأقبلت عليه وقلت : يا سيدي أنا أقصد أن أقول لك شيئاً فلا تخالفني فيه .
فقال سمعاً وطاعة .
ثم التفت إلى أختاي وقلت لهما : يكفيني هذا الشاب وجميع هذه الأموال لكما .
فقالتا : نعم ما فعلت .
ولكنهما أضمرتا لي الشر ، ولم نزل سائرين مع اعتدال الريح حتى خرجنا من بحر الخوف ودخلنا بحر الأمان وسافرنا أياما قلائل إلى أن قربنا من مدينة البصرة ولاحت لنا أبنيتها ، فأدركنا المساء فلما أخذنا النوم قامت أختاي وحملتاني أنا والغلام ورمتانا في البحر ، فأما الشاب فإنه كان لا يحسن العوم فغرق وكتبه الله من الشهداء . وأما أنا فكنت من السالمين ، فلما سقطت في البحر رزقني الله بقطعة من خشب فركبتها وضربتني الأمواج إلى أن رمتني على ساحل جزيرة فلم أزل أمشي في الجزيرة باقي ليلتي فلما أصبح الصباح رأيت طريقاً فيه أثر مشي على قدر ابن آدم وتلك الطريق متصلة من الجزيرة إلى البر وقد طلعت الشمس فنشفت ثيابي فيها وسرت في الطريق ولم أزل سائرة إلى أن قربت من البر الذي فيه المدينة وإذا بحية تقصدني وخلفها ثعبان يريد هلاكها وقد تدلى لسانها من شدة التعب .
فأخذتني الشفقة عليها فقعدت إلى حجر وألقيته على رأس الثعبان فمات من وقته فنشرت الحية جناحين وصارت في الجو فتعجبت من ذلك وقد تعبت فنمت في موضعي ساعة ، فلما أفقت وجدت تحت رجلي جارية وهي تكبس رجلي فجلست واستحيت منها وقلت لها :
من أنت وما شانك ؟
فقالت : ما أسرع ما نسيتني أنت التي فعلت معي الجميل وقتلت عدوي ، فإني الحية التي خلصتيني من الثعبان جني وهو عدوي وما نجاني منه إلا أنت ، فلما نجيتيني منه طرت في الريح وذهبت إلى المركب التي رماك منها أختاك ونقلت جميع ما فيها إلى بيتك وأحرقتها وأما أختاك فإني سحرتهما كلبتين من الكلاب السود ، فإني عرفت جميع ما جرى لك معهما ، وأما الشاب فإنه غرق .
ثم حمتلني أنا والكلبتين والقتنا فوق سطح داري فرأيت جميع ما كان في المركب من الأموال في وسط بيتي ولم يضع منه شيء ، ثم أن الحية قالت لي :
وحق النقش الذي على خاتم سليمان إذا لم تضربي كل واحدة منها في كل يوم ثلاثمائة سوط لآتين أجعلك مثلهما .
فقلت : سمعاً وطاعة .
فلم أزل يا أمير المؤمنين أضربها ذلك الضرب وأشفق عليهما .
فتعجب الخليفة من ذلك ثم قال للصبية الثانية :
وأنت ما سبب الضرب الذي على جسدك ؟
فقالت : يا أمير المؤمنين إني كان لي والد مات وخلف مالاً كثيراً ، فأقمت بعده مدة يسيرة وتزوجت برجل اسعد أهل زمانه فأقمت معه سنة كاملة ومات فورثت منه ثمانين ألف دينار ، فبينما أنا جالسة في يوم من الأيام إذ دخلت علي عجوز بوجه مسقوط وحاجب ممغوط وعيونها مفجرة وأسنانها مكسرة ومخاطها سائل وعنقها مائل كما قال فيها الشاعر :
عجوز النحس إبليس يراها ........ تعلمه الخديعة من سكوت
تقود من السياسة ألف بغل ........ إذا انفردوا بخيط العنكبوت
فلما دخلت العجوز علمت علي وقالت :
أن عندي بنتا يتيمة والليلة عملت عرسها وأنا قصدي لك الأجر والثواب فاحضري عرسها فأنها مكسورة الخاطر ليس لها إلا الله تعالى .
ثم بكت وقبلت رجلي فأخذتني الرحمة والرأفة فقلت :
سمعاً وطاعة .
فقالت : جهزي نفسك فإني وقت العشاء أجي وآخذك .
ثم قبلت يدي وذهبت فقمت وهيأت نفسي وجهزت حالي وإذا بالعجوز قد أقبلت وقالت :
يا سيدتي أن سيدات البلد قد حضرن وأخبرتهن بحضورك ففرحن وهن في انتظارك .
فقمت وتهيأت وأخذت جواري معي وسرت حتى أتينا إلى زقاق هب فيه النسيم وراق فرأينا بوابة مقنطرة قبة من الرخام مشيدة البنيان وفي داخلها قصر قد قام من التراب وتعلق بالسحاب فلما وصلنا إلى الباب طرقته العجوز ففتح لنا ودخلنا فوجدنا دهليزاً مفروشاً بالبسط معلقاً فيه قناديل موقدة وشموع مضيئة وفيه الجواهر والمعادن معلقة فمشينا في الدهليز إلى أن دخلنا القاعة فلم يوجد لها نظير مفروشة بالفراش الحرير معلقاً فيها القناديل الموقدة والشموع المضيئة وفي صدر القاعة سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر وعليه ناموسية من الأطلس وإذا بصبية خرجت من الناموسية مثل القمر فقالت لي :
مرحباً وأهلاً وسهلاً يا أختي آنستيني وجبرت خاطري وأنشدت تقول :
لو تعلم الدار من زارها فرحـت ........ واستبشرت ثم باست موضع القدم
وأعلنت بلسـان الـحـال قـائلة ........ أهلاً وسهلاً بأهل الجود والكرم
ثم جلست وقالت :
يا أختي أن لي أخاً وقد رآك في الأفراح وهو شاب احسن مني وقد أحبك قلبه حباً شديداً وأعطى هذه العجوز دراهم حتى أتتك وعملت الحيلة لأجل اجتماعه بك ويريد أخي أن يتزوجك بسنة الله ورسوله وما في الحلال من عيب .
فلما سمعت كلامها ورأيت نفسي قد انحجزت في الدار فقلت للصبية :
سمعاً وطاعة .
ففرحت وصفقت بيدها وفتحت باباً ، فخرج منه شاب مثل القمر كما قال الشاعر :
قد زاد حسناً تبارك الـلـه ........ جل الذي صاغـه وسـواه
قد حاز كل الجمال منفـرداً ........ كل الورى في جماله تهواه
قد كتب الحسن فوق وجنتيه ........ أشهد أن لا مليح سـواه
فلما نظرت إليه مال قلبي له ثم جاء وجلس وإذا بالقاضي قد دخل ومعه أربعة شهود فسلموا وجلسوا ، ثم أنهم كتبوا كتابي على ذلك الشاب وانصرفوا فالتفت الشاب إلي وقال :
ليلتنا مباركة .
ثم قال : يا سيدتي أني شارط عليك شرطاً .
فقلت : يا سيدي وما الشرط ؟
فقام وأحضر لي مصحفاً وقال : احلفي لي أنك لا تختاري أحداً غيري ولا تميلي إليه .
فحلفت له على ذلك ففرح فرحاً شديداً وعانقني فأخذت محبته بمجامح قلبي وقدموا لنا السماط فأكلنا وشربنا حتى اكتفينا فدخل علينا الليل .
فأخذني ونام معي على الفراش وبتنا في عناق إلى الصباح ، ولم نزل على هذه الحالة مدة شهر ، ونحن في هناء وسرور وبعد الشهر استأذنته في أن أسير إلى السوق وأشتري بعض قماش فأذن لي في الرواح ، فلبست ثيابي وأخذت العجوز معي ونزلت في السوق فجلست على دكان تاجر تعرفه العجوز وقالت لي :
هذا ولد صغير مات أبوه وخلف مالاً كثيراً .
ثم قالت له : هات أعز ما عندك من القماش لهذه الصبية .
فقال لها : سمعاً وطاعة .
فصارت العجوز تثني عليه فقلت : ما لنا حاجة بثنائك عليه لأن مرادنا أن نأخذ حاجتنا منه ونعود إلى منزلنا .
فأخرج لنا ما طلبناه وأعطيناه الدراهم فأبى أن يأخذ شيئاً وقال :
هذه ضيافتكما اليوم عندي .
فقلت للعجوز : إن لم يأخذ الدراهم أعطه قماشه .
فقال : والله لا آخذ شيئا والجميع هدية من عندي في قبلة واحدة فإنها عندي أحسن من ما في دكاني .
فقالت العجوز : ما الذي يفيدك من القبلة ؟
ثم قالت : يا بنتي قد سمعت ما قال هذا الشاب وما يصيبك شيء إن أخذ منك قبلة وتأخذين ما تطلبينه .
فقلت لها : أما تعرفين أني حالفة .
فقالت : دعيه يقبلك وأنت ساكتة ولا عليك شيء وتأخذين هذه الدراهم .
ولازالت تحسن لي الأمر حتى أدخلت رأسي في الجراب ورضيت بذلك ثم إني غطيت عيني وداريت بطرف إزاري من الناس وحط فمه تحت إزاري على خدي فما أن قبلني حتى عضني عضة قوية ، حتى قطع اللحم من خدي فغشي علي ثم آخذتني العجوز في حضنها .
فلما أفقت وجدت الدكان مقفولة والعجوز تظهر لي الحزن ، وتقول :
ما دفع الله كان أعظم .
ثم قالت لي : قومي بنا إلى البيت وأعملي نفسك ضعيفة وأنا أجيء إليك بدواء تداوين به هذه العضة فتبرئين سريعاً .
فبعد ساعة قمت من مكاني وأنا في غاية الفكر واشتداد الخوف ، فمشيت حتى وصلت إلى البيت وأظهرت حالة المرض وإذا بزوجي داخل وقال :
ما الذي أصابك يا سيدتي في هذا الخروج ؟
فقلت له : ما أنا طيبة .
فنظر إلي وقال لي : ما هذا الجرح الذي بخدك وهو في المكان الناعم ؟
فقلت : لما استأذنتك وخرجت في هذا النهار لأشتري القماش زاحمني جمل حامل حطباً فشرط نقابي وجرح خدي كما ترى فإن الطريق ضيق في هذه المدينة .
فقال : غداً أروح للحاكم وأشكوا له فيشنق كل حطاب في المدينة .
فقلت : بالله عليك لا تتحمل خطيئة أحد فإني ركبت حماراً نفر بي فوقعت على الأرض فصادفني عود فخدش خدي وجرحني .
فقال : غدا أطلع لجعفر البرمكي وأحكي له الحكاية فيقتل كل حَمار في هذه المدينة .
فقلت : هل أنت تقتل الناس كلهم بسببي وهذا الذي جرى لي بقضاء الله وقدره .
فقال : لابد من ذلك .
وشدد علي ونهض قائماً وصاح صيحة عظيمة فانفتح الباب وطلع منه سبعة عبيد سود فسحبوني من فراشي ورموني في وسط الدار ثم أمر عبداً منهم أن يمسكني من أكتافي ، ويجلس على رأسي وأمر الثاني أن يجلس على ركبتي ويمسك رجلي وجاء الثالث وفي يده سيف فقال :
يا سيدي أضربها بالسيف فأقسمها نصفين وكل واحد يأخذ قطعة يرميها في بحر الدجلة فيأكلها السمك وهذا جزاء من يخون الإيمان المودة وأنشد هذا الشعر :
إذا كان لي فيمن أحب مـشـارك ........ منعت الهوى روحي ليتلفني وجدي
وقلت لها يا نفس موتـي كـريهة ........ فلا خير في حب يكون مع الضـد
ثم قال للعبد : اضربها يا سعد .
فجرد السيف وقال : اذكري الشهادة وتذكري ما كان لك من الحوائج واوصي .
ثم رفعت رأسي ونظرت إلى حالي وكيف صرت في الذل بعد العز فجرت عبرتي وبكيت أنشدت هذه الأبيات :
أقمتم فؤادي في الهوى وقعدتـم ........ وأسهرتم جفني القريح ونمـتـم
ومنزلكم بين الفؤاد ونـاظـري ........ فلا القلب يسلوكم ولا الدمع يكتم
وعاهدتموني أن تقيموا على الوفا ........ فلما تملكتم فـؤادي غـدرتـم
ولم ترحموا وجدي بكم وتلهفـي ........ أأنتم صروف الحادثات أمنـتـم
سألتكم بالله أن مت فاكتبـوا ........ على لوح قبري أن هذا متيم
لعل شجياً عارفاً لوعة الهوى ........ يمر على قبر المحب فيرحم
فلما فرغت من شعري بكيت فلما سمع الشعر ونظر إلى بكائي أزداد غيظاً على غيظه وأنشد هذين البيتين :
تركت حبيب القلب لاعن ملانة ........ ولكن جنى ذنباً يؤدي إلى الترك
إذا ارى شريكاً في المحبة بيننـا ........ وإيمان قلبي لا يميل إلى الشرك
فلما فرغ من شعره بكيت واستعطفته ، وإذا بالعجوز قد دخلت ورمت نفسها على أقدام الشاب وقبلتها وقالت :
يا ولدي بحق تربيتي لك تعفو عن هذه الصبية فإنها ما فعلت ذنباً يوجب ذلك وأنت شاب صغير فأخاف عليك من دعائها .
ثم بكت العجوز ، ولم تزل تلح عليه حتى قال :
عفوت عنها ، ولكن لابد لي أن أعمل فيها أثراً يظهر عليها بقية عمرها .
ثم أمر العبيد فجذبوني من ثيابي وأحضر قضيبا من سفرجل ونزل به على جسدي بالضرب ، ولم يزل يضربني ذلك الشاب على ظهري وجنبي حتى غبت عن الدنيا من شدة الضرب وقد يئست من حياتي ثم أمر العبيد أنه إذا دخل الليل يحملونني ويأخذون العجوز معهم ويرمونني في بيتي الذي كنت فيه سابقاً . ففعلوا ما أمرهم به سيدهم ورموني في بيتي ، فتعاهدت نفسي وتداويت فلما شفيت بقيت أضلاعي كأنها مضروبة بالمقارع ، كما ترى فاستمريت في مداواة نفسي أربعة أشهر حتى شفيت ، ثم جئت إلى الدار التي جرت لي فيها ذلك الأمر فوجدتها خربة ووجدت الزقاق مهد وما من أوله إلى آخره ووجدت في موقع الدار كيماً ولم أعلم سبب ذلك فجئت إلى أختي هذه التي من أبي فوجدت عندها هاتين الكلبتين فسلمت عليها وأخبرتها بخبري وبجميع ما جرى لي .
فقالت : من ذا الذي من نكبات الزمان سلم ، الحمد لله الذي جعل الأمر بسلامة .
ثم أخبرتني بخبرها وبجميع ما جرى لها من أختيها وقعدت أنا وهي لا نذكر خبر الزواج على ألسنتنا ثم صاحبتنا هذه الصبية الدلالة في كل يوم تخرج فتشتري لنا ما نحتاج إليه من المصالح على جري علاتها ، فوقع لنا ما وقع من مجيء الجمال والصعاليك ومن مجيئكم في صفة تجار فلما صرنا في هذا اليوم ولم نشعر إلا نحن بين يديك وهذه حكايتنا .
فتعجب الخليفة من هذه الحكاية وجعلها تاريخها مثبتا في خزانته .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .