الْحسن بن الْحُسَيْن بن عَاصِم قَالَ
حضرت مجْلِس مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَعِنْده كبراء الْكُوفَة ورؤساء الْقَبَائِل وَقد أجروا أَخْبَار شيعَة عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن جن اللَّيْل فَلَمَّا جن اللَّيْل مضى إِلَى دَار اخته فَوَجَدَهَا ساهرة فَقَالَ يَا أم الحكم مَا الَّذِي أسهرك
قَالَت أسهرني الْعجب مِمَّن عدل عَنْك إِلَى عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام وَجعله مثلك وَأَنت مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة حصنها عِنْد التشاجر وَكَانَ حَرْب عمادها عِنْد التفاخر وفارسها عِنْد الْفَزع وفاتكها عِنْد الْعسر وَإِن مُعَاوِيَة كَاتب وَحي الله ورديف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَة يَا أختاه لَا يكذبنك ظَنك وَلَا يبعد عَنْك ذهنك وَالله مَا عادلت عليا قطّ فَكيف وَهُوَ عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم من ولد إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ عبد الْمطلب بن هَاشم جواد الْعَرَب وَفَارِس الكرب الْمطعم بالسغب وَكَانَ أَبُو طَالب السهل الطَّرِيقَة الحامي الْحَقِيقَة وَكَانَ عَليّ بن أبي طَالب قَاضِي الْأمة وأعظمهم فخرا وَأكْرمهمْ مجدا حامي الذمار عَزِيز الْجَار صهر الرَّسُول وَسيد الكهول وَزوج البتول فايم الله لأصبحن جَالِسا ولأسمعنك مِمَّن وَفد عَليّ من سَائِر الْعَرَب خلاف مَا ظَنَنْت وَغير مَا وصفت
فَلَمَّا أصبح قَالَ اجلسي فِي قبتك وارخي عَلَيْك سجفك لتسمعي مقَالَة من يدْخل عَليّ من وُجُوه بني أُميَّة ورؤساء أهل الْكُوفَة وأخبارهم
فَلَمَّا مثلُوا واستقرت بهم مجَالِسهمْ قَالَ مُعَاوِيَة للحاجب أَدخل عَليّ حجر بن عدي الْكِنْدِيّ الْكُوفِي فَأذن لَهُ فَدخل وَسلم فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة يَا بن الأسن الْقَبِيح المنظر الْقَاطِع بِنَا الْأَسْبَاب الْمُسَمّى بالأحزاب والملتمس بحربنا الثَّوَاب والمساعد علينا أَبَا تُرَاب فَقَالَ يَا مُعَاوِيَة لَا تذكر رجلا كَانَ بِالدّينِ برورا راعي الْأمة وَخَلِيفَة النُّبُوَّة المحامي عَن الْإِسْلَام أَولا وآخرا خَائفًا لله وَبِمَا يرضيه عَارِفًا عَاملا بدين الله طَوِيل الرُّكُوع طَاهِر الْخُشُوع قَلِيل الهجوع قَائِما بالحدود مُتَوَجها للمعبود طَاهِر السريرة مَحْمُود السِّيرَة نَافِذ البصيرة ملك أمرنَا فَكَانَ كبعضنا لم يبطل حَقًا وَلم يظلم خلقا يخف إِلَّا من الله عز وَجل ثمَّ بَكَى حَتَّى كَاد يتْلف ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ
أما توبيخك إيَّايَ وَمَا كَانَ مني فَاعْلَم أَيهَا الْإِنْسَان اني غير معتذر مِمَّا جنيت وَلَا مكترث مِمَّا بِهِ اتيت فأعلن سرك واظهر أَمرك فَقَالَ مُعَاوِيَة يَا غُلَام أخرجه عني فقد بلغ مني وَلَوْلَا مَا سبق مني لما فَاتَهُ طعم السَّيْف وَلَعَلَّ ذَلِك يكون بعد هَذَا ثمَّ قَالَ للحاجب أَدخل عَليّ عَليّ عَليّ عَمْرو بن الْحمق الْخُزَاعِيّ فَلَمَّا دخل قَالَ السَّلَام عَلَيْكُم يَا معشر الكهول والشباب من الرِّجَال وَالصبيان فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة يَا اخا خُزَاعَة لم لَا تخاطب بأمير ؤمنين وسلمين قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ وَهَذَا الْيَوْم الَّذِي وعد بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة إِذا لَا نؤاخذك لِأَنَّك أشهرت سَيْفك وأهويت لنا حتفك وأطلت الْإِعْرَاض وأجررت رسنك مَعَ كلال بغرور جشمك الْمَحْذُور وَكَيف رَأَيْت صنع الله بِنَا وَبِه ألم تضق برحيله وعارضة أَجله
فَبكى عَمْرو بن الْحمق حَتَّى وَقع على وَجهه ثمَّ أَفَاق وَقَالَ بِأبي وَأمي من ذكرت وتنقصت كَانَ وَالله الْعَالم بِكِتَاب الله الْعَامِل بِحكم الله الْمَحْمُود عِنْد الله المستمسك بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّاهِد فِي الفانية الرَّاغِب فِي الْبَاقِيَة لم يضمر تكبرا وَلم يظْهر مِنْهُ تجبر يعْمل بِمَا يُرْضِي الله عَنهُ وَيقرب من رَحْمَة الله فَصَلَاة الله عَلَيْهِ وتحياته وَبَرَكَاته وَلَقَد ضربنا فَقده وتمنينا الْمَوْت بعده وَأما أَنا يَا مُعَاوِيَة فِي خَاصَّة نَفسِي فقد لعمري دانيت مِنْك أوغاد السامري وَأَوْلَاد الطُّلَقَاء من بني أُميَّة وَمَا ذَاك إِلَّا لأمر مفعول وتقديرات مِنْهُ ليحيط بكم غَضَبه وَهَذِه أَحْوَال ألهمكم الله فعالها ليدخلكم ناره سرمدا وددت أَنِّي قتلت بَين يَدَيْهِ وبمرافقة الْأَبْرَار الَّذين اسْتشْهدُوا كعمار وَمن شاكله وَلَقَد استرحت الْيَوْم من ملاقاة الأشرار فِي هَذَا الْيَوْم الظامىء المظلم
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة لَوْلَا علمي بِمَا تصير إِلَيْهِ لعجلت ذَلِك وَمَا تلبثت ثمَّ قَالَ أخرجه فَأخْرجهُ وَأدْخل عَليّ عدي بن حَاتِم الطَّائِي
فَلَمَّا دخل وَسلم قَالَ مُعَاوِيَة مَا أبقى لَك الدَّهْر من حب عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ كحب أم مُوسَى إِذْ ألقته فِي اليم وعدوه فِرْعَوْن ثمَّ قَالَ حبي وَالله لَهُ شَدِيد لَا يقل بل يزِيد وَلَوْلَا حبه لما كنت أَرْجُو الْجنَّة وَلَا انالها إِلَّا بحبه وَشر أبي يزِيد أما كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقامه علما يَوْم حجَّة الْوَدَاع ونادى عَلَيْهِ يَوْم غَدِير خم أَلا من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَال من وَالَاهُ وأخذل من خذله وانصر من نَصره أما سَمِعت فِي ذَلِك الْيَوْم نداءه عَلَيْهِ وَهُوَ آخذ بعضده وَهُوَ على الأقتاب لقد سَمِعت كَمَا سمعنَا وَشهِدت كَمَا شَهِدنَا فالحجة عَلَيْك وعَلى غَيْرك وعَلى كل من شهد ذَلِك الْيَوْم وَسمع كَلَام مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا نزل من الأقتاب إِلَّا وَقد تَفَرَّقت قُلُوبنَا شعبًا فَقَالَ قد كَانَ ذَلِك وَكَيف رضاك عَن ولدك زيد
فَقَالَ كَيفَ أَسخط عَلَيْهِ وَقد أقرّ عَيْني بقتل فَارس الْجَيْش
فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ الْأَمر فَوق ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أصبح وَالله عدي بعد صفّين ذليلا فَبكى عدي وَأَنْشَأَ وَجعل يَقُول

(يجادلني مُعَاوِيَة بن حَرْب ... وَلَيْسَ إِلَى الَّذِي ارجو سَبِيل)
(يكاشرني وَيعلم ان طرفِي ... على مَا فِي الضَّمِير لَهُ دَلِيل)
(يذكرنِي ابا حسن عليا ... وخطبي فِي أبي حسن جليل)
(وَيَزْعُم اننا قوم سفاه ... حراديون لَيْسَ لنا عقول)
(وَكَانَ جَوَابه عِنْدِي عتيدا ... وَيَكْفِي مثله عِنْدِي الْقَلِيل)
(وَقَالَ ابْن الْوَلِيد وَقَالَ عَمْرو ... عدي بعد صفّين ذليل)
(فَقلت صَدقْتُمْ قد ذل ركني ... وفارقني الَّذين بهم أصُول)
(سيخسر من يؤازره ابْن هِنْد ... ويربح من يؤازره الرَّسُول)

(عَليّ أَنِّي على مَا كَانَ مني ... اقضي حَاجَتي فِي مَا أَقُول)
قَالَ الْهَيْثَم وَأدْخل من بعده عَمْرو بن وَاثِلَة الْكِنَانِي
فَلَمَّا دخل وَسلم رحب بِهِ مُعَاوِيَة فَقَالَ الْقَوْم هَذَا الَّذِي رَحبَتْ بِهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هُوَ خَلِيل عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام وَفَارِس الْعرَاق وشاعرهم وَلَقَد انضج أكبادنا وأحرق جلودنا بنبله وفضحنا بطعناته وضرباته علام رَحبَتْ بِهِ وقربته مِنْك فَهَل نسيت مَا جرى علينا يَوْم صفّين وَلَقَد كدر علينا الْحيرَة وأفحش أعراضنا بِلِسَانِهِ وَصَارَ الْجَمَاعَة ينالون مِنْهُ وَمن عرضه
فَغَضب عَمْرو بن وَاثِلَة وَقَالَ يَا مُعَاوِيَة مَا سبني هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُمْ لأَقل من ذَلِك وَمَا سبني غَيْرك فَإِن لم تجزني من سبني وَإِلَّا حق عَليّ سبك وشتمك
فَقَالَ مُعَاوِيَة هَذَا عمروبن الْعَاصِ ومروان بن الحكم وَسَعِيد بن الْعَاصِ فَقَالَ عَمْرو بن وَاثِلَة أما عمروبن الْعَاصِ فأنطقته خِيَانَة أمه وَمَا أَتَت بِهِ من الزِّنَا وَأما مَرْوَان بن الحكم وَسَعِيد بن الْعَاصِ فأنطقتهما خِيَانَة الْحجاز وَأما ابْن أَبِيه فَإِنَّهُ انطقته حَيَاته تهَامَة وَأما ابْن اخيك فَوَهَبته لَك فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة يَا بن وَاثِلَة مَا ابقى لَك الدَّهْر من حب عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ كحب الفاقد لأَخِيهَا وَزوجهَا وَوَلدهَا وَإِلَى الله تَعَالَى اشكو التَّقْصِير
فَقَالَ مَا ابقى لَك الدَّهْر من الوجد عَلَيْهِ قَالَ كوجد الْعَجُوز المقلات
فَقَالَ مَا بلغ من بغضك لنا قَالَ بغض آدم لإبليس لَعنه الله ثمَّ بَكَى وَهُوَ يَقُول

ي (أيشتمني عَمْرو ومروان ضلة ... بِحكم ابْن هِنْد والشقي سعيد)
(وحول ابْن هِنْد سامرون كَأَنَّهُمْ ... إِذا مَا استقاموا للْحَدِيث قرود)
(يعضون من غيظ عَليّ اكفهم ... ودرؤك من لَا يستجيب شَدِيد)
(وماسبني إِلَّا ابْن هِنْد وانني ... لتِلْك الَّتِي يسخو بهَا لنكود)
(كَمَا بلغت أَيَّام صفّين نَفسه ... تراقيها والشامتون شُهُود)
(فَلم يمنعوه والرماح تنوشه ... وَمَا قل حَرْب للسان عُقُود)
(وطارت بِعَمْرو فِي العجاج وسبطه ... ومروان من وَقع السيوف بعيد)
(وَمَا لسَعِيد غير همة نَفسه ... وعل الَّتِي نسخو بهَا فنعود)
(تخطفهم فِي الْحَرْب خطفا كَأَنَّهُ ... وَقد ثار نقع لِلْقِتَالِ صفود)

فَقَالَ مُعَاوِيَة كَأَنَّك مِمَّن خذل أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان يَوْم الدَّار والشاهر علينا سَيْفك يَوْم صفّين فَقَالَ عَمْرو بن وَاثِلَة أما قَوْلك فِي قتل عُثْمَان وتركي نصرته لأَنا رَأَيْنَاك وَأَنت ابْن عَمه ونازل بإزائه وَقد اسْتَغَاثَ بك فَتركت إجَابَته وانت ابْن عَمه فهان علينا ذَلِك وتربصت بِنَفْسِك عَنهُ فَزعًا من الْمنون وَلَو انك اظهرت فِي ذَلِك الْيَوْم مَا قد اعلنته الْيَوْم لما كنت تقعد هَذِه الْقعدَة وَلَقَد كنت أول طريح لمُحَمد بن أبي بكر وَرَأَيْت من خذله من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فوسعني مَا وسعهم
فَقَالَ مُعَاوِيَة أَلَيْسَ طلبتي بدمه نصْرَة لَهُ فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن وَاثِلَة بِعُذْرِهِ فِي ذَلِك وَلَكِن يصيبك كَقَوْل عبيد حَيْثُ يَقُول
(فَإِن قتلت فَلَا تطلب بثائرتي ... وان مَرضت فَلَا الزمك عوادي)
(فَقَالَ الْقَوْم اقتله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد اجلى نَفسه
فَقَالَ كلا قد جعلت لَهُ الْأمان أخرجه ايها الْحَاجِب قَالَ الْهَيْثَم بن عدي وَأدْخل من بعده هانىء بن عُرْوَة فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة أَنْت المائل علينا مَعَ عَليّ بن أبي طَالب الْعَدو الْمُحَارب الْخَارِج علينا فِي جمَاعَة الْمُسلمين يَوْم صفّين
فَقَالَ هانىء بن عُرْوَة أما خروجي عَلَيْك يَا بن هِنْد فإنني غير معتذر مِنْك وَلَو كنت مبارزي يَوْم صفّين لقد كنت ايتم مِنْك هَذَا الْمجْلس وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْجُلُوس لَو انهم بارزوا لأعولت عَلَيْهِم نِسَاؤُهُم فِي جملَة المعولات وَإِنَّمَا تربصت بِنَفْسِك عَن أَن تلْحق الْكِرَام فوَاللَّه مَا أَحْبَبْنَاك مُنْذُ عرفناك ويروي مُنْذُ ابغضناك وَلَا قلبنا السيوف الَّتِي فِيهَا جالدناك وَإِنَّهَا لحداد بأيدي أنَاس شَدَّاد وَإِن نصر الله لينزل علينا وَإِنَّا لنعرف ايادي الله عز وَجل علينا
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة اتأكل المستحسن لرعايتك والمضمر لكفايتك فَمَا حَاجَتك قَالَ إِن تتركني كفاف لَا تُعْطِينِي وَلَا تطمع فِي وصالي وَإِن تأيس فِي مودتي وإنني من الله كافيات نعمتي وَأَنا اشكر الله على نعْمَته وعَلى مَا أولاني من أهل وَولد وَمَال وَكَثْرَة عشيرة
فَقَالَ أَنا أفعل ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ قَالَ للحاجب اخرجه فَأخْرجهُ وَتقدم إِلَى الوافدين من أهل الْبَصْرَة إِن يدْخل وَاحِد بعد وَاحِد قَالَ الْهَيْثَم بن عدي دخل من بعد أهل الْكُوفَة صعصعة بن صوحان الْعَبْدي وَكَانَ من جملَة الْبَصرِيين الوافدين فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَرَأى الرِّجَال عَلَيْهِم السِّلَاح قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله سُبْحَانَ الله وَالله اكبر
فَالْتَفت مُعَاوِيَة يَمِينا وَشمَالًا فَلم ير مَا يكرههُ فَقَالَ يَا بن صوحان مَا اظنك تعرف الله تَعَالَى قَالَ بلَى انه رَبِّي وَرب آبَائِي الْأَوَّلين يحيي وَيُمِيت وَهُوَ بالمرصاد كَبِير متعال وَمن وَرَاء الْعباد فَقَالَ مُعَاوِيَة كنت أحب ان اراك فِي هَذَا الْمقَام حَتَّى يصيبك ظفر من أظفاري اهدي بِهِ نَفسِي مِمَّا تَجدهُ مِنْك وَمن مرارات أدخلتها بكلامك وَصدق قتالك يَوْم صفّين على قلبِي وَلَقَد كنت أتوقع عذرك يصلني مَعَ الترغيبات الَّتِي رغبتك عل اني اقامسك شطر قلبِي فَمَا فعلت
فَقَالَ لَهُ صعصعة وَكَذَلِكَ كنت أَنا أَقُول ان لَا تقعد هَذِه الْقعدَة وَلَا وَلَا تستعير هَذِه الْعَارِية وَلَقَد فرحت لَك لِأَنَّهُ مقَام يورثك النَّار فِي لظى الخلود السرمد وَقد كنت أحب ان لَا احييك بِهَذِهِ التَّحِيَّة حَتَّى تفي مقادير الله تَعَالَى فِيك وَأما قَوْلك لَو عذرت لقاسمتك شطر دولتك فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوفائي لَهُ وحفظي وَصيته وتلزمي بسنته فَيكون أَمْرِي فِي دولته ومملكته كأمره وَمَا عِنْد الله خير وابقى للابرار
فَالْتَفت مُعَاوِيَة إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وَقَالَ لَهُ أوسع لخالك حَتَّى يجلس إِلَى جَنْبك فَقَالَ عَمْرو لَا أوسع لَهُ انه ترابي فَقَالَ صعصعة أجل وَالله من التُّرَاب خلقت وَإِلَيْهِ أَعُود وَمِنْه أبْعث وانك يَا بن الْعَاصِ نَارِي من النَّار خلقت وإليها تعود فَضَحِك مُعَاوِيَة حَتَّى اسْتلْقى على صفحته ثمَّ عَاد فَقعدَ وَقَالَ يَا بن صوحان انما انت تهزل بلسانك وتفرح سلطانك وَمَا تنظر فِي الْأُمُور وَالْأَيَّام ونوادر الْكَلَام وَالله لقد هَمَمْت ان احملك خطب الْعرَاق فَقَالَ وَالله لَو رمت ذَلِك لغزوتك فِي مائَة أَمْرَد على مائَة ألف اجرد فَامْتَلَأَ مُعَاوِيَة غيظا واطرق طَويلا وَرفع رَأسه وَقَالَ لقد اكرم الله قُريْشًا اذ يَقُول لنَبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك وسوف تسْأَلُون} فَقَالَ لَهُ صعصعة وَمَا قَالَ الله {وَكذب بِهِ قَوْمك وَهُوَ الْحق} أما القَوْل الأول فلرسول الله ولقومه من قرَابَته وَذريته وَأما القَوْل الثَّانِي فلك ولقومك وَمن شاكلهم
فَقَالَ مُعَاوِيَة قَاتلك الله لقد غلبتني سكت لَا أم لَك فَمَا أعجل جوابك واصعب خطابك مَا اظنك منتهيا حَتَّى افرق بَين روحك وجسدك قَالَ لَهُ صعصعة لَيْسَ ذَلِك اليك انما ذَلِك بيد من لَا يُؤَخر نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة لقد فقهكم عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام مَا تركْتُم حجَّة فَلَنْ تطاقوا وَلَوْلَا أنني لم اجرع بجرعة افضل من جرعة غيظ لم أمكنك من الْحَيَاة ثمَّ ان مُعَاوِيَة قَالَ
(عَفَوْت عَن جهلهم حلما وتكرمة ... والحلم عَن قدرَة فضل من الْكَرم)
فَقَالَ لحاجبه اخرجه وَأدْخل من بعده الْأَحْنَف بن قيس
فَمَا دخل الْأَحْنَف بن قيس على قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة أَنْت المطلع علينا بالغدر والناظر فِي عطفيه شزرا انت الَّذِي مَرضت نَفسك بالغرور وقدمت على مفظعات الْأُمُور مَعَ إعانتك عَليّ بن أبي طَالب وجلادك إيَّايَ اجلابك عَليّ الْخَيل وَالرجل يَوْم صفّين وتحملك على أهل الشَّام بقوائم السيوف وَطول الرماح فَقَالَ الْأَحْنَف مَه يَا مُعَاوِيَة فَإِن لي مثل مَا أعرف وَمَا لَا أعرف فَإِن شِئْت ذكرتك مَا تعرف وأوضحت لَك مَا لَا تعرف وَأما قَوْلك اعنت أَمِير الْمُؤمنِينَ وأجلبت يَوْم صفّين الْخُيُول وَالرِّجَال فَأنْتم وَالله معاشر قُرَيْش قتلتم أميركم وجررتم افلاذه وَالدَّار منا نازحة عَنهُ وقطعتم رَحمَه وسفكتم دَمه ثمَّ إِنَّكُم ألزمتمونا دَمه فوَاللَّه إِن الْقُلُوب الَّتِي أبغضناك بهَا لبين جوارحنا وَإِن السيوف الَّتِي جالدناك بهَا لفي أعناقنا حمائلها وبأيدينا قَوَائِمهَا وإيم وَالله مَا تَدْنُو بباع من الْغدر إِلَّا دنونا مِنْهُ بباع من الختر وَإِن شِئْت لتصفين قُلُوبنَا بِحِلْمِك
فَقَالَ مُعَاوِيَة إِنِّي لفاعل ذَلِك ثمَّ قَالَ للحاجب أخرجه فَأخْرجهُ قَالَ الْهَيْثَم وَأدْخل من بعده خَالِد بن معمر السدُوسِي فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة يَا خَالِد لقد رايناك تضرب أهل الشَّام بسيفك وانت على فرسك الْأَشْقَر العالي فَقَالَ لَهُ خَالِد وَالله مَا أَصبَحت على مَا كَانَ مني نَادِما وَلَا على مَا فعلته مصارما وَإِنِّي أعيذ نَفسِي وَأَنا على ذَلِك مُقيم وَالله الْمُسْتَعَان على قُوَّة الظَّالِمين فَقَالَ مُعَاوِيَة مَا علمت يَا خَالِد مَا نذرت أَن أفعل فِي قَوْمك قَالَ لَا قَالَ إِنِّي نذرت اقْتُل مقاتلهم وَسبي ذَرَارِيهمْ وأفرق بَين الْأُمَّهَات وَأَوْلَادهَا ثمَّ ثنى عزمي بيع الخلب قَالَ لَهُ خَالِد عملت مَا علمت فِي ذَلِك قَالَ مُعَاوِيَة لَا قَالَ خَالِد فاسمع مَا أَقُول

(يروم ابْن حَرْب نَذره فِي نسائنا ... وَدون الَّذِي يَنْوِي سيوف قواضب)
(وَسمر يحلونَ الْعَوَاتِق تبتغي ... سوى بَعْلهَا بعلا فتبكي العرائب)
(فَإِن كنت لَا تُعْطِي على الْحِنْث فاعترف ... بِحَرب تحامتها اللحى والتراتب)

فَقَالَ مُعَاوِيَة أَنا نعطيك على الْحِنْث قَالَ خَالِد اغمدنا سُيُوفنَا وأصفيناك مودتنا ثمَّ قَالَ لحاجبه أخرجه فَأخْرجهُ قَالَ الْهَيْثَم بن عدي وَأدْخل من بعده جَارِيَة بن قدامَة فَدخل وَسلم
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة ماعسيت ان تبلغ هَل انت إِلَّا نحلة ضَعِيفَة الْبدن ضيقَة الْبَهَاء
فَقَالَ جَارِيَة وَالله لقد شعبتني بِشَهْوَة النطاف والحامية اللسعة وانت بِمَنْزِلَة الْكِير تحرق وتحيف وَلَا تطيب وَمَا انت بِطيب
فَقَالَ مُعَاوِيَة انت الشاهر علينا سيف صفّين فِي بني سعد بن زيد مَنَاة تمنيهم الْفِتَن وتحملهم على مُقَدمَات الْأجر مَعَ قَتلك أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان وخذلانك أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة فَقَالَ جَارِيَة قد كَانَ ذَلِك وَمَا أَنا بمعتذر مِنْهُ وَأما اسْمِي فَخير من اسْمك
قَالَ مُعَاوِيَة وَكَيف ذَلِك قَالَ لِأَن الْجَارِيَة لَا يكون إِلَّا من قُرَيْش أَو من اقيال الْعَرَب وَمُعَاوِيَة لَا يكون إِلَّا من آثَار الضبع وَأما مَا ذكرت من أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَنت وَبَنُو عَمْرو بن أُميَّة خذلتموه وقتلتموه ودارنا نازحة عَنهُ وَأما قَوْلك فِي أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة فَإنَّا نَظرنَا فِي كتاب الله فَلم نجد لَهَا حَقًا فِيمَا ادَّعَت تلزمنا الطَّاعَة لَهَا لَان قعودها فِي بَيتهَا وطاعتها لِرَبِّهَا كَانَ اجدر بهَا فَلَمَّا أَلْقَت جلابيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن وَجههَا بَطل بذلك مَا كَانَ لَهَا علينا من حق وَأما مَا ذكرت من حَال يَوْم صفّين وانما ذَلِك حَيْثُ أردْت ان تقطع اعناقنا وَلم تنظر فِي عَاقِبَة وَلم تخف جَائِحَة فقدمنا عَلَيْك بِالْخَيْلِ مَعَ خير النَّاس وأورعهم وافضلهم علما واعظمهم حلما وَمَا اتيناك إِلَّا وَقد تحققنا انخلاعك عَن الْإِسْلَام فقدمنا على جلادك على البصيرة وانت تطلب جلادنا على الغروروالعمى فَمَا شِئْت فافعل وان أردْت يَوْمًا مثل ذَلِك فخيلنا معدة ورماحنا محدة
فاغتاظ مِنْهُ وَقَالَ للحاجب اخرجه من بَين يَدي فَأخْرجهُ قَالَ الْهَيْثَم بن عدي وَأدْخل من بعده شريك الْأَعْوَر وَسلم عَلَيْهِ بالإمارة وَكَانَ شريك قَصِيرا فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة مَا انت وَيحك قَالَ أَنا من لَا تنكره وَلَا تجهله أَنا شريك الْحَارِثِيّ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة انك لِشَرِيك وَالله مَا لَهُ شريك وَإنَّك لاعور وَالصَّحِيح خير من الْأَعْوَر فَكيف سدت قَوْمك فَقَالَ شريك يَا مُعَاوِيَة انك لمعاوية وَمَا مُعَاوِيَة إِلَّا كلبة عوت واستعوت وانك لِابْنِ صَخْر والسهل خير من الصخر وانك ابْن حَرْب وَالسّلم خير من الْحَرْب وانك ابْن أُميَّة وَمَا أُميَّة إِلَّا أمة صغرت فَكيف صرت أَمِير الْمُؤمنِينَ وَاعْلَم بِأَنِّي خلفت خَلْفي اذرعا شدادا ورجالا انجادا وَأَنا سيدهم اقيم بهَا عوجك ويقرى بهَا ضيفك ويعز بهَا الذَّلِيل ويذل بهَا الْعَزِيز
فَأمر بِإِخْرَاجِهِ فَأخْرج وَهُوَ يَقُول

(ايشتمني مُعَاوِيَة بن حَرْب ... وسيفي صارم وَمَعِي لساني)
(وحولي من بني عمي لُيُوث ... ضراغمة تهش إِلَى الطعان)
(يعيرني الدمامة من سفاه ... وربات الخدود هِيَ الغواني)
(فَلَا تبسط لسَانك يَا بن حَرْب ... علينا قد بلغت مدى الْأَمَانِي)

(فَإِن تَكُ للشقاء لنا أَمِيرا ... فَإنَّا لَا نقر على الهوان ...
فان تَكُ فِي أُميَّة فِي ذراها ... فَإِنِّي فِي بني عبد المدان)
(وَلَو اني بليت بهاشمي ... خؤولته بَنو عبد المدان)
(لهان عَليّ مَا القى وَلَكِن ... تَعَالَى وانظري بِمن ابتلاني)

قَالَ ونهض وَدخل على أُخْته أم الحكم فَقَالَ لَهَا كَيفَ رَأَيْت يَا أختاه قَالَت مَا رَأَيْت أحدا هُوَ أذلّ مِنْك وَلَقَد هَمَمْت ان أخرج إِلَيْهِم لاجل مَا استخفوا بك وأوعدوك من المواعيد فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَة لَا تتحدثين مَا نلْت هَذَا الْأَمر إِلَّا بالحلم والرفق وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ نفر من شيعَة على بن أبي طَالب
ثمَّ أَمر بِأَن يخلع عَلَيْهِم وَأَجَازَهُمْ الجوائز السّنيَّة وردهم مكرمين إِلَى الْكُوفَة وَالْبَصْرَة
وَهَذَا مَا انْتهى إِلَيْنَا من حَدِيث الوافدين من أهل الْكُوفَة وَالْبَصْرَة على مُعَاوِيَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا