تكملة حكاية الوزير نور الدين مع شمس الدين أخيه
وبداية حكاية الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع بينهم

الليلة الخامسة والعشرون

قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن جدة عجيب لما سمعت كلامه اغتاظت ونظرت إلى الخادم وقالت :
ويلك هل أنت أفسدت ولدي لأنك دخلت به إلى دكاكين الطباخين .
فخاف الطواشي وأنكر ، وقال : ما دخلنا الدكان ولكن جزنا جوازاً .
فقال عجيب : والله لقد دخلنا وأكلنا ، وهو أحسن من طعامك .
فقامت جدته وأخبرت أخا زوجها وأغرته على الخادم فحضر الخادم قدام الوزير ، فقال له :
لم دخلت بولدي دكان الطباخ ؟
فخاف الخادم وقال : ما دخلنا .
فقال عجيب : بل دخلنا وأكلنا من حب الرمان حتى شبعنا ، وسقانا الطباخ شراباً بثلج وسكر .
فازداد غضب الوزير على الخادم وسأله فأنكر ، فقال له الوزير : إن كان كلامك صحيحاً فاقعد وكل أمامنا .
فعند ذلك تقدم الخادم وأراد أن يأكل فلم يقدر ورمى اللقمة وقال :
يا سيدي إني شبعان من البارحة .
فعرف الوزير أنه أكل عند الطباخ فأمر الجواري أن يطرحنه فطرحنه ونزل عليه بالضرب الوجيع فاستغاث وقال :
يا سيدي إني شبعان من البارحة .
ثم منع عنه الضرب وقال : أنطق بالحق .
فقال : اعلم أننا دخلنا دكان الطباخ وهو يطبخ حب الرمان فغرف لنا منه والله ما أكلت عمري مثله ولا رأيت أقبح من هذا الذي قدامنا .
فغضبت أم حسن بدر الدين ، وقالت : لا بد أن تذهب إلى هذا الطباخ وتجيء لنا بزبدية حب الرمان من الذي عنده وتريه لسيدك حتى يقول أيهما أحسن وأطيب .
فقال الخادم : نعم .
ففي الحال أعطته زبدية ونصف دينار فمضى الخادم حتى وصل إلى الدكان وقال للطباخ : نحن تراهنا على طعامك في بيت سيدنا لأن هناك حب رمان طبخه أهل البيت فهات لنا بهذا النصف دينار وأدر بالك في طهيه وأتقنه فقد أكلنا الضرب الموجع على طبيخك .
فضحك حسن بدر الدين وقال : والله أن هذا الطعام لا يحسنه أحد إلا أنا ووالدتي وهي الآن في بلاد بعيدة .
ثم أنه عرف الزبدية وأخذها وختمها بالمسك وماء الورد فأخذها الخادم وأسرع بها حتى وصل إليهم فأخذتها والدة حسن وذاقتها ونظرت حسن طعمها فعرفت طباخها فصرخت ثم وقعت مغشياً عليها فبهت الوزير من ذلك ، ثم رشوا عليها ماء الورود بعد ساعة أفاقت وقالت :
إن كان ولدي في الدنيا فما طبخ حب الرمان هذا إلا هو وهو ولدي حسن بدر الدين لا شك ولا محالة لأن هذا طعامه وما أحد يطبخه غيره إلا أنا لأني علمته طبيخه .
فلما سمع الوزير كلامها فرح فرحاً شديداً ، وقال : واشوقاه إلى رؤية ابن أخي أترى تجمع الأيام شملنا وما نطلب الاجتماع به إلا من الله تعالى .
ثم إن الوزير قام من وقته وساعته وصاح على الرجال الذين معه وقال :
يمضي منكم عشرون رجلاً إلى دكان الطباخ ويهدمونها ويكتفونه بعمامته ويجرونه غصباً إلى مكاني من غير إيذاء يحصل له .
فقالوا له : نعم .
ثم إن الوزير ركب من وقته وساعته إلى دار السعادة واجتمع بنائب دمشق وأطلعه على الكتب التي معه من السلطان فوضعها على رأسه بعد تقبيلها وقال :
من هو غريمك ؟
قال : رجل طباخ .
ففي الحال أمر حجابه أن يذهبوا إلى دكانه فذهبوا فرأوها مهدومة وكل شيء فيها مكسور لأنه لما توجه إلى دار السعادة فعلت جماعته ما أمرهم به وصاروا منتظرين مجيء الوزير من دار السعادة وحسن بدر الدين يقول في نفسه :
يا ترى أي شيء رأوا في حب الرمان حتى صار لي هذا الأمر .
فلما حضر الوزير من عند نائب دمشق وقد أذن غريمه وسفره به فلما دخل الخيام طلب الطباخ فأحضروه مكتفاً بعمامته .
فلما نظر حسن بدر الدين إلى عمه بكى بكاء شديداً وقال :
يا مولاي ما ذنبي عندكم ؟
فقال له أنت الذي طبخت حب الرمان ؟
قال : نعم فهل وجدتم فيه شيئاً يوجب ضرب الرقبة .
فقال : هذا أقل جزائك .
فقال له : يا سيدي أما توقفني على ذنبي .
فقال له الوزير : نعم في هذه الساعة .
ثم إن الوزير صرخ على الغلمان وقال هاتوا الجمال وأخذوا حسن بدر الدين معهم وأدخلوه في صندوق وقفلوا عليه وساروا ولم يزالوا سائرين إلى أن أقبل الليل فحطوا وأكلوا شيئاً من الطعام وأخرجوا حسن بدر الدين فأطعموه وأعادوه إلى الصندوق ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى مكان فأخرجوا حسن بدر الدين من الصندوق وقال له :
هل أنت طبخت حب الرمان ؟
قال : نعم يا سيدي .
فقال الوزير : قيدوه .
فقيدوه وأعادوه إلى الصندوق وساروا إلى أن وصلوا إلى مصر وقد نزلوا في الزيدانية فأمر بإخراج حسن بدر الدين من الصندوق وأمر بإحضار نجار وقال :
اصنع لهذا لعبة خشب .
فقال حسن بدر الدين : وما تصنع بها فقال أصلبك وأسمرك فيها ثم أدور بك المدينة كلها .
فقال : على أي شيء تفعل بي ذلك ؟
فقال الوزير : على عدم إتقان طبيخك حب الرمان كيف طبخته وهو ناقص فلفلاً .
فقال له : وهل لكونه ناقص فلفلاً تصنع معي هذا كله أما كفاك حبسي وكل يوم تطعمون بأكلة واحدة ؟
فقال له الوزير : من أجل كونه ناقصاً فلفلاً ما جزاؤك إلا القتل .
فتعجب حسن بدر الدين ، وحزن على روحه وصار يتفكر في نفسه فقال له الوزير :
في أي شيء تتفكر ؟
فقال له : في العقول السخيفة التي مثل عقلك فإنه لو كان عندك عقل ما كنت فعلت معي هذه الفعال لأجل نقص الفلفل .
فقال له الوزير : يجب علينا أن نؤدبك حتى لا تعود لمثله .
فقال حسن بدر الدين : إن الذي فعلته معي أقل شيء فيه أدبي .
فقال : لابد من صلبك .
وكل هذا والنجار يصلح الخشب وهو ينظر إليه ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل الليل فأخذه عمه ووضعه في الصندوق وقال : في غد يكون صلبك .
ثم صبر عليه حتى عرف أنه نام فقام وركب وأخذ الصندوق قدامه ودخل المدينة وسار إلى أن دخل بيته ثم قال لابنته ست الحسن :
الحمد لله الذي جمع شملك بابن عمك قومي وافرشي البيت مثل فرشة ليلة الجلاء .
فأمرت الجواري بذلك ، فقمن وأوقدن الشمع وقد أخرج الوزير الورقة التي كتب فيها أمتعة البيت ثم قرأها وأمر أن يضعوا كل شيء في مكانه حتى أن الرائي إذا رأى ذلك لا يشك في أنها ليلة الجلاء بعينها ، ثم أن الوزير أمر أن تحط عمامة حسن بدر الدين في مكانها الذي حطها فيه بيده وكذلك السروال والكيس الذي تحت الطراحة ثم أن الوزير أمر ابنته تتحف نفسها كما كانت ليلة الجلاء وتدخل المخدع وقال لها :
إذا دخل عليك ابن عمك فقولي له قد أبطأت علي في دخولك بيت الجلاء ودعيه يبيت عندك وتحدثي معه إلى النهار وكتب هذا التاريخ .
ثم أن الوزير أخرج بدر الدين من الصندوق بعد أن فك القيد من رجليه وخلع ما عليه من الثياب وصار بقميص النوم وهو رفيع من غير سروال .
كل هذا وهو نائم لا يعرف بذلك ثم انتبه حسن بدر الدين من النوم فوجد نفسه في دهليز نير ، فقال في نفسه :
هل أنا في أضغاث أحلام أو في اليقظة .
ثم قام حسن بدر الدين فمشى قليلاً إلى باب ثان ونظر وغدا هو في البيت الذي انجلت فيه العروسة ، ورأى المخدع والسرير ورأى عمامته وحوائجه ، فلما نظر ذلك بهت وصار يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وقال في نفسه :
هل هذا في المنام أو في اليقظة .
وصار يمسح جبينه ويقول وهو متعجب : والله إن هذا مكان العروسة التي انجلت فيه علي ، فإني كنت في صندوق .
فبينما هو يخاطب نفسه وإذا بست الحسن رفعت طرف الناموسية وقالت له :
يا سيدي أما تدخل فإنك أبطأت علي في بيت الجلاء .
فلما سمع كلامها ونظر إلى وجهها وضحك وقال : إن هذه أضغاث أحلام .
ثم دخل وتنهد وتفكر فيما جرى له وتحير في أمره وأشكلت عليه قضيته ولما رأى عمامته وسرواله والكيس الذي فيه الألف دينار ، قال :
الله أعلم أني في أضغاث أحلام .
وصار من فرط التعجب متحيراً ، فعند ذلك قالت له ست الحسن :
مالي أراك متعجباً متحيراً ما كنت في أول الليل ?
فضحك وقال : كم عام لي غائب عنك ?
فقالت له : سلامتك بسم الله حواليك أنت إنما خرجت إلى بيت الراحة لتقضي حاجة وترجع فأي شيء جرى في عقلك .
فلما سمع حسن بدر الدين ذلك ضحك وقال لها : صدقت ولكنني لما خرجت من عندك غلبني النوم في بيت الراحة ، فحلمت أني كنت طباخاً في دمشق وأقمت بها عشرة سنين وكأنه جاءني صغير من أولاد الأكابر ومعه خادم وحصل من أمره كذا وكذا .
ثم أن حسن بدر الدين مسح بيده على جبينه فرأى أثر الضرب عليه . فقال :
والله يا سيدتي كأنه حق لأنه ضربني على جبيني فشجه فكأنه في اليقظة .
ثم قال : لعل هذا المنام حصل حين تعانقت أنا وأنت ونمنا ، فرأيت في المنام كأني سافرت إلى دمشق بلا طربوش ولا عمامة ولا سروال وعملت طباخاً .
ثم سكت ساعة وقال : والله كأني رأيت أني طبخت حب رمان وفلفله قليل ، والله ما كأني إلا نمت في بيت الراحة فرأيت هذا كله في المنام .
فقالت له ست الحسن : بالله وعليك أي شيء رأيته زيادة على ذلك ؟
فحكى لها جميع ما رآه ، ثم قال : والله لولا أني انتبهت لكانوا صلبوني على لعبة خشب .
فقالت له : على أي شيء ؟
فقال : على قلة الفلفل في حب الرمان ورأيت كأنهم خربوا دكاني وكسروا مواعيني وحطوني في صندوق وجاؤوا بالنجار ليصنع لي لعبة من خشب لأنهم أرادوا صلبي عليها فالحمد لله الذي جعل ذلك كله في المنام ولم يجعله في اليقظة .
فضحكت ست الحسن وضمته إلى صدرها وضمها إلى صدره ثم تذكر وقال : والله ما كأنه إلا في اليقظة فأنا ما عرفت أي شيء الخبر ولا حقيقة الحال .
ثم إنه نام وهو متحير في أمره فتارة يقول رأيته في المنام وتارة يقول رأيته في اليقظة ، ولم يزل كذلك إلى الصباح ، ثم دخل عليه عمه الوزير شمس الدين فسلم عليه فنظر له حسن بدر الدين ، وقال :
بالله عليك أما أنت الذي أمرت بتكتيفي وتسمير دكاني ، من شأن حب الرمان لكونه قليل الفلفل .
فعند ذلك قال الوزير : اعلم يا ولدي أنه ظهر الحق وبان ما كان مختفياً ، أنت ابن أخي وما فعلت ذلك حتى تحققت أنك الذي دخلت على ابنتي تلك الليلة ، وما تحققت ذلك حتى رأيتك عرفت البيت وعرفت عمامتك وسروالك وذهبك والورقتين التي كتبتهما بخطك والتي كتبها والدك أخي فإني ما رأيتك قبل ذلك وما كنت أعرفك ، وأما أمك فإني جئت بها معي من البصرة .
ثم رمى نفسه عليه وبكى فلما سمع حسن بدر الدين كلام عمه تعجب غاية العجب وعانق عمه وبكى من شدة الفرح ، ثم قال له الوزير :
يا ولدي إن سبب ذلك كله ما جرى بيني وبين والدك .
وحكى له جميع ما جرى بينه وبين أخيه ، وأخبره بسبب سفر والده إلى البصرة ، ثم إن الوزير أرسل إلى عجيب فلما رآه والده قال :
هذا الذي ضربني بالحجر .
فقال الوزير : هذا ولدك .
فعند ذلك رمى نفسه عليه وأنشد هذه الأبيات :
ولقد بكيت على تفرق شملـنـا ........ زماناً وفاض الدمع من أجفاني
ونذرت أن أجمع المهيمن شملنا ........ ما عدت أذكر فرقـة بلسانـي
هجم السرور علي حتـى أنـه ........ من فرط ما قد سرني أبكانـي
فلما فرغ من شعره التفتت إلى والدته وألقت روحها عليه ، وأنشدت هذين البيتين :
الدهر أقسـم لا يزال مـكـدري ........ حنثت يمينك يا زمـان فـكـفـر
لسعد وافى والحبيب مسـاعـدي ........ فانهض إلى داعي السرور وشمر
ثم إن والدته حكت له جميع ما وقع لها بعده ، وحكى لها جميع ما قاساه فشكروا الله على جمع شملهم ببعضهم ثم أن الوزير طلع إلى السلطان وأخبره بما جرى له فتعجب وأمر أن يؤرخ ذلك في السجلات ليكون حكاية على مر الأوقات .
وهذا ما كان من أمر الوزير شمس الدين وأخيه نور الدين .
فقال الخليفة هارون الرشيد : والله إن هذا الشيء عجاب .
ثم إن شهرزاد قالت :
وما هذا بأعجب من حكاية الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع لهم .
قال الملك : وما حكايتهم ؟
قالت : بلغني أيها الملك السعيد ، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان في مدينة الصين رجل خياط مبسوط الرزق يحب اللهو والطرب وكان يخرج هو وزوجته في بعض الأحيان يتفرجان على مرائب المنتزهات فخرجا يوماً من أول النهار ورجعا آخره إلى منزلهما عند المساء ، فوجدا في طريقهما رجل أحدب رؤيته تضحك الغضبان وتزيل الهم والأحزان فعند ذلك تقدم الخياط هو وزوجته يتقوزان عليه ثم أنهما عزما عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت فخرج الخياط إلى السوق وكان الليل قد أقبل ، فاشترى سمكاً مقلياً وخبزاً وليموناً وحلاوة يتحلون بها ثم رجع وحط السمك قدام الأحدب وجلسوا يأكلون فأخذت امرأة الخياط جزلة سمك كبيرة ولقمتها للأحدب وسدت فمه بكفها وقالت :
والله ما تأكلهما إلا دفعة واحدة في نفس واحد .
ولم تمهله حتى يمضغها فابتلعها وكان فيها شوكة قوية فتصلبت في حلقه ، لأجل انقضاء أجله فمات .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .