تكملة حكاية الخياط والأحدب
واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع بينهم

الليلة الثامنة والعشرون

قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الصين لما قال :
لا بد من شنقكم .
فعند ذلك تقدم المباشر إلى ملك الصين وقال : إن أذنت لي حكيت لك حكاية وقعت لي في تلك المدة قبل أن أجد هذا الأحدب وإن كانت أحب من حديثه تهب لنا أرواحنا .
فقال الملك : هات ما عندك .
فقال : اعلم أني كنت تلك الليلة الماضية عند جماعة عملوا ختمة وجمعوا الفقهاء فلما قرأوا المقرؤون وفرغوا مدوا السماط فمن جملة ما قدموا زرباجة فقدمنا لنأكل الزرباجة فتأخر واحد منا وامتنع عن الأكل منها فحلفنا عليه فأقسم أنه لا يأكل منها فشددنا عليه فقال :
لا تشددوا على فكفاني ما جرى لي من أكلها فأنشدت هذا البيت :
إذا صديق أنكرت جانـبـه ........ لم تعيني على فراقه الحيل
فلما فرغنا قلنا له : بالله ما سبب امتناعك عن الأكل من هذه الزرباجة ?
فقال : لأني لا آكل منها غلا إن غسلت يدي مائة وعشرون مرة .
فعند ذلك أمر صاحب الدعوى غلمانه فأتوا بالماء الذي طلبه فغسل يديه كما ذكر ، ثم تقدم وهو متكره وجلس ومد يده وهو مثل الخائف ووضع يده في الزرباجة وصار يأكل وهو متغصب ونحن نتعجب منه غاية التعجب ويده ترتعد فنصب إبهام يده فإذا هو مقطوع وهو يأكل بأربعة أصابع فقلنا له :
بالله عليك ما لإبهامك هكذا أهو خلقة الله أم أصابه حادث ?
فقال : يا إخواني أهو هذا الإبهام وحده ولكن إبهام الأخرى وكذلك رجلاي الاثنين ولكن انظروا .
ثم كشف إبهام يده الأخرى فوجدناها مثل اليمين وكذلك رجلاه بلا إبهامين .
فلما رأيناه كذلك ازددنا عجباً وقلنا له : ما بقي لنا صبر على حديثك ، والأخبار بسبب قطع إبهامي يديك ورجليك وسبب غسل يديك ، مائة وعشرون مرة .
فقال : اعلموا أن والدي كان تاجر من التجار الكبار وكان أكبر تجار مدينة بغداد في أيام الخليفة هارون الرشيد وكان مولعاً بشرب الخمر وسماع العود فلما مات لم يترك شيئاً فجهزته ، وقد عملت له ختمات وحزنت عليه أياماً وليالي ثم فتحت دكانه فما وجدته خلف إلا يسيراً ووجدت عليه ديوناً كثيرة فصبرت أصحاب الديون وطيبت خواطرهم وصرت أبيع وأشتري وأعطي من الجمعة أصحاب الديون ولا زلت على هذه الحالة إلى أن وفيت الديون وزدت على رأس مالي . فبينما أنا جالس يوماً من الأيام إذا رأيت صبية لم تر عيني أحسن منها عليها حلي وحلل فاخرة وهي راكبة بغلة وقدامها عبد وورائها عبد فأوقفت البغلة على رأس السوق ودخلت ورائها خادم ، وقال :
يا سيدتي اخرجي ولا تعلمي أحداً فتطلقي فينا النار .
ثم حجبها الخادم فلما نظرت إلى دكاكين التجار لم تجد أفخر من دكاني ، فلما وصلت إلى جهتي والخادم خلفها وصلت إلى دكاني وسلمت علي فما وجدت أحسن من حديثها ولا أعذب من كلامها ، ثم كشفت عن وجهها فنظرتها نظرة أعقبتني ألف حسرة وتعلق قلبي بمحبتها ، وجعلت أكرر النظر إلى وجهها وأنشد :
جودي علي بزورة أحيا بـهـا ........ ها قد مددت إلى نوالك راحتي
فلما سمعت إنشادي أجابتني بهذه الأبيات :
عدمت فؤادي في الهوى أن سلاكم ........ فإن فـؤادي لا يحـب سـواكـم
وإن نظرت عيني إلى غير حسنكم ........ فلا سرها بعد العبـاد لـقـاكـم
حلفت يميناً لست أسلـوا هـواكـم ........ وقلبي حزين مغـرم بـهـواكـم
سقاني الهوى كأساً من الحب صافياً ........ فيا ليته لما سقـاني سـقـاكـم
خذوا رمقي حيث استقرت بكم نوى ........ وأين حللتم فادفنـوني حـداكـم
وإن تذكروا اسمي عند قبري يجيبكم ........ أنين عظامي عند رفـع نـداكـم
فلو قيل لي ماذا على الله تشتهـي ........ لقلت رضا الرحمن ثم رضـاكـم
فلما فرغت من شعرها قالت : يا فتى أعندك تفاصيل ملاح ?
فقلت : يا سيدتي مملوكك فقير ، ولكن اصبري حتى تفتح التجار دكاكينهم وأجيء لك بما تريدينه .
ثم تحدثت أنا وإياها وأنا غارق في بحر محبتها تائه في عشقها ، حتى فتحت التجار دكاكينهم فقمت وأخذت لها جميع ما طلبته ، وكان ثمن ذلك خمسة آلاف درهم وناولت الخادم جميع ذلك فأخذه الخادم وذهبا إلى خارج السوق فقدموا لها البغلة فركبت ولم تذكر لي من أين هي واستحيت أن أذكر لها ذلك والتزمت الثمن للتجار ، وتكلفت خمسة آلاف درهم وجئت البيت وأنا سكران من محبتها ، فقدموا لي العشاء لأكلت لقمة وتذكرت حسنها وجمالها فأشغلني عن الأكل ، وأردت أن أنام فلم يجيئني نوم ولم أزل على هذه الحالة أسبوعاً وطالبتني التجار بأموالهم فصبرتهم أسبوعاً آخر ، فبعد الأسبوع أقبلت وهي على البغلة ومعها خادم وعبدان ، فلما رأيتها زال عني الفكر ونسيت ما كنت فيه وأقبلت تحدثني بحديثها الحسن ثم قالت :
هات الميزان وزن مالك .
فأعطتني ثمن ما أخذته بزيادة ، ثم انبسطت معي في الكلام فكدت أن أموت فرحاً وسروراً ثم قالت لي :
هل لك أنت زوجة ?
فقلت : لا ، إني لا أعرف امرأة .
ثم بكيت فقالت لي : مالك تبكي ?
فقلت : من شيء خطر ببالي .
ثم أني أخذت بعض دنانير وأعطيتها للخادم وسألته أن يتوسط في الأمر فضحك وقال :
هي عاشقة لك أكثر منك وما لها بالقماش حاجة وإنما هي لأجل محبتها لك فخاطبها بما تريد فإنها لا تخالفك فيما تقول .
فرأتني وأنا أعطي الخادم الدنانير فرجعت وجلست ثم قلت لها : تصدقي على مملوكك واسمحي له فيما يقول .
ثم حدثتها بما في خاطري فأعجبها ذلك وأجابتني وقالت : هذا الخادم يأتي برسالتي واعمل أنت بما يقول لك الخادم .
ثم قامت ومضت وقمت وسلمت التجار أموالهم وحصل لهم الربح ، إلا أنا فإنها حين ذهبت حصل لي الندم من انقطاع خبرها عني ولم أنم طول الليل .
فما كان إلا أيام قلائل وجاءني خادمها فأكرمته وسألته عنها ، فقال :
إنها مريضة .
فقلت للخادم : اشرح لي أمرها .
قال : إن هذه الصبية ربتها السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد وهي من جواريها ، وقد اشتهت على سيدتها الخروج والدخول فأذنت لها في ذلك فصارت تدخل وتخرج حتى صارت قهرمانة ، ثم أنها حدثت بك سيدتها وسألتها أن تزوجها بك ، فقالت سيدتها : لا أفعل حتى أنظر هذا الشاب فإن كان يشبهك زوجتك به ونحن نريد في هذه الساعة أن ندخل بك الدار فإن دخلت ولم يشعر بك أحد وصلت تزويجك إياها وإن انكشف أمرك ضربت رقبتك فماذا تقول ?
فقلت : نعم أروح معك وأصبر على الأمر الذي حدثتني به .
فقال لي الخادم : إذا كانت هذه الليلة فامض إلى المسجد الذي بنته السيدة زبيدة على الدجلة فصل فيه وبت هناك .
فقلت : حباً وكرامة .
فلما جاء وقت العشاء مضيت إلى المسجد وصليت وبت هناك .
فلما كان وقت السحر رأيت الخادمين قد أقبلا في زورق ومعهما صناديق فارغة فأدخلوها في المسجد وانصرفوا وتأخر واحد منهما فتأملته وإذا هو الذي كان واسطة بيني وبينها فبعد ساعة صعدت علينا الجارية صاحبتي فلما أقبلت قمت إليها وعانقتها فقبلتني وبكت وتحدثنا ساعة فأخذتني ووضعتني في صندوق وأغلقته علي ولم أشعر إلا وأنا في دار الخليفة وجاؤوا إلي بشيء كثير من الأمتعة بحيث يساوي خمسين ألف درهم ثم رأيت عشرين جارية أخرى وهن نهد أبكار وبينهن الست زبيدة وهي لم تقدر على المشي مما عليها من الحلي والحلل فلما أقبلت تفرقت الجواري من حواليها فأتيت إليها وقبلت الأرض بين يديها فأشارت لي بالجلوس فجلست بين يديها ثم شرعت تسألني عن حالي وعن نسبي فأجبتها عن كل ما سألتني عنه ففرحت وقالت :
والله ما خابت تربيتنا في هذه الجارية .
ثم قالت لي : اعلم أن هذه الجارية عندنا بمنزلة ولد الصلب وهي وديعة الله عندك .
فقبلت الأرض قدامها ورضيت بزواجي إياها ثم أمرتني أن أقيم عندهم عشرة أيام فأقمت عندهم هذه المدة وأنا لا أدري من هي الجارية إلا أن بعض الوصائف تأتيني بالغداء والعشاء لأجل الخدمة ، وبعد هذه المدة استأذنت السيدة زبيدة زوجها أمير المؤمنين في زواج جاريتها فأذن لها وأمر لها بعشرة آلاف دينار فأرسلت السيدة زبيدة إلى القاضي والشهود وكتبوا كتابي عليها وبعد ذلك عملوا الحلويات والأطعمة الفاخرة وفرقوا على سائر البيوت ومكثوا على هذا الحال عشرة أيام أخر وبعد العشرين يوماً أدخلوا الجارية الحمام لأجل الدخول بها ثم أنهم قدموا سفرة فيها طعام من جملته خافقية زرباجة محشوة بالسكر وعليها ماء ورد ممسك وفيها أصناف الدجاج المحمرة وغيره من سائر الألوان مما يدهش العقول فوالله حين حضرت المائدة ما أمهلت نفسي حتى نزلت على الزرباجة وأكلت منها بحسب الكفاية ومسحت يدي ونسيت أن أغسلها ومكثت جالساً إلى أن دخل الظلام وأوقدت الشموع ، وأقبلت المغنيات بالدفوف ولم يزالوا يجلون العروسة وينقطون بالذهب حتى طافت القصر كله وبعد ذلك أقبلوا علي ونزعوا ما عليها من الملبوس . فلما خارت بها في الفراش وعانقتها وأنا لم أصدق بوصالها شمت في يدي رائحة الزرباجة فلما شمت الرائحة صرخت فنزل لها الجواري من كل جانب فارتجفت ولم أعلم ما الخبر فقالت الجواري :
ما لك يا أختنا ؟
فقالت لهن : أخرجوا هذا المجنون فأنا أحسب أنه عاقل .
فقلت لها : وما الذي ظهر لك من جنوني.؟
فقالت : يا مجنون لأي شيء أكلت من الزرباجة ولم تغسل يدك فوالله لا أقبلك على عدم عقلك وسوء فعلك .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .