فضل أهل العراق على سائر أقوام الآفاق في جمع شتات لغة العرب

كان سكان جزيرة العرب يتكلمون لغات عديدة ولغياتٍ شتى حتى جاء الإسلام فوحدها وميز لغة قريش مضر الحمراء عن سائر أخواتها لفصاحتها وكثرة أوضاعها ومعظم اتساعها. وما كادت تنبغ بين لدائها حتى زادت مباني ومعاني فأصبحت بحراً زاخراً بعد أن كانت نهراً دافقاً بيد أنها بقيت قرنين لا ينمو قرن غزالها الشارقة بعد أن ذر ذروراً بيناً. حتى خالط العرب العجم فعني هؤلاء الأغراب غاية العناية بتدوين اللغة وأصولها وقواعد ضبط شواردها وأوابدها. ووضعوا مبادئ أخذها وتلقيها والجري على أساليب العرب بأحكام ضوابطها الجزئية وروابطها الكلية. فنشأت حينئذٍ علوم اللغة العربية على ضروب تنوعها في الكيفية والكمية.
على أن الفضل كل الفضل في ذلك عائد إلى أهل العراق باتفاق أهل الآفاق لأن جميع العلماء الذين نبغوا في صدر الإسلام كانوا من العراقيين أو ممن خالطوهم أو ممن أخذوا عنهم.
وهل أنت تجهل سبب تمحيص اللغة العربية الشريفة وترقيها وتدوين وتحقيق أصولها واتباع السراط القوم من طرقها المتعددة المختلفة؟ أليس في المصرين الكوفة والبصرة من ديار العراق نشأت طائفتا العلماء الذين تفتخر بهم اليوم اللغة القرشية؟. طائفتان تشبهان ما يسميها اليوم أدباء عصرنا من الإفرنج الأكاديمية أي المجمع اللغوي. أجل. إنك ترى في هذا العهد مجمعاً لغوياً في كل أمة من أمم الغرب التي يمتاز أهلها عن جيرانهم بلغتهم الخاصة بهم. والغاية منه الداب في تحسين لغة أصحابه ولذا ترى أعضاء هذه الأكاديمية (التي لا يتعدى عددها الواحد في كل أمة) يسهرون على حفظ سلامة اللغة من كالخلل أو فساد. ويقتبسون من عوامهم بعد الألفاظ المأنوسة التي لا مقابل أو مرادفها في لغتهم الفصيحة والتي لا مندوحة لهم عنها للتعبير عن أفكارهم. ويدخلون الألفاظ الحديثة المعنى أو الطريفة الوضع والاكتساب لقرب العهد باستنباط مدلولاتها أو باكتشاف وجودها.

والخلاصة أن هذه الأكاديمية (أي المنتدى اللغوي) تسعى كل السعي لأن تجعل لغة قومها حية ابنة اليوم والعصر تغتذي بأطعمة جديدة لتعوض بها عما فنى ويفنى منها لقيامها
بوظائف الحياة. وتقذف بأحشائها ما لم يعد صالحاً لبقائه في المذاخر (وهي من الأعضاء الداخلية ما يدخل فيها الطعام كالاجواف والأمعاء والعروق واسافل البطن) على غير جدوى.
على أن الأكاديمية إذا كانت واحدة قد تهفو إن لم يعارضها معارض أو يناوئها مناوئ. أما إذا ناظرها منتدى آخر لغوي كفوء لها وناقشها في المسائل وجاذبها أطراف ما يقع فيه الخلاف أو يمكن أن يقع فيه نظر منتقد جهبذ خلصت اللغة من كل شائبة مشوبٍ. وتخلصت قائبة من قوب. ولم تبق حاجة في نفس يعقوب.
فهذا الذي يتمناه كل عاقل لبيب محب للغته ومغرم بمحاسنها وقع في لغة العرب عندما أميطت عنها قمط الطفولة وشبت عن الطوق فأزيحت عنها التمائم وألبست القلائد. فبرزت من حجلها شابة بارعة الجمال رائعة الكمال كاملة السن كافلة لنفسها البقاء مهما صادفها وصادمها من الأحداث والطوارئ القومية والاجتماعية والعمرانية وقد زودت من الوسائط ما تدفع عنها كل غائلة أو كل ما يشين عرضها ويدنس نسبها أو حسبها.
وخلاصة القول عن مذهب البصريين والكوفيين: إن البصريين أصح قياساً لحفظ لغة قريش. لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ والكوفيون أوسع روايةً. لأنهم جمعوا شتات لغات جميع قبائل العرب وحفظوها. قال ابن جني: الكوفيون علامون بأشعار العرب مطلعون عليها. (نقله صاحب الاقتراح ص 100) ولهذا فنتبع آراء الكوفيين واستقراؤها يطلعك على لغات قدماء العرب. وهو أمر جليل الشأن وأما تأثر آراء البصريين فلا يوقفك إلا على لغة قريش الفصحى. وقال الأندلسي في شرح المفصل: الكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جواز شيء مخالف للأصول (المتعارفة في لغة مصر) جعلوه أصلاً وبوَّبوا عليه. بخلاف البصريين. قال: ومما افتخر به البصريون على الكوفيين: نحن نأخذ اللغة من حرشة الضباب وآكلة اليرابيع. وأنتم تأخذونها من آكلة الحلوى وباعة الكواميخ. (عن كتاب الاقتراح للسيوطي ص100)
على أنه هناك من سبق البصريين والكوفيين معاً. وكان قبل ظهور الإسلام بمائتي وخمسين سنة وهو من أهل العراق أيضاً. وبه يتضاعف فضل العراقيين على من سواهم ويتطاول طولهم على من نازعهم شرف حفظ اللغة العربية وآدابها وأشعارها وأريد به
النعمان ابن المنذر المتنصر فقد قال عنه حماد الراوية ما نصه: (أمر النعمان بن المنذر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي (الكراريس)) ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد الثقفي (وهو أبو اسحق المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي الذي طوى بساط أيامه في القرن الأول من الهجرة في عهد الأمويين) قيل له إن تحت القصر كنزاً فاحتفره. فأخرج تلك الأشعار. فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة. (اهـ كلامه نقلاً عن المزهر121: 1)
وكأن أهل العراق خصوا من بين أقوام الآفاق لترقية شأن اللغة العربية كلما مست الحاجة إليه. لأنه ما عدا ما أتى به النعمان بن المنذر المتنصر من المآثر الجليلة بحفظ أشعار العرب. وما خلا ما قام فيهم من علماء المصرين (البصرة والكوفة) من جمع شتات لغات القبائل وتدوين منظومها. فقد جاء بعد ذلك عهد العباسين فدفعوا اللغة في ميدان السباق حتى استنزفوا حضرها (بضم الحاء) وبلغوا بها إلى شأو الحصر (بفتح الحاء وهو التضييق والحبس) لأنهم بلغوا بها إلى أبعد غاية يكن الوصول إليها في عهدهم.
أما في عهدنا فإذا كان العراقيون لم يشبهوا السلف بجلائل مآثرهم فليس الذنب ذنبهم. وإنما الجريرة جريرة المربي (بكسر الباء المشددة) وحالة المربى (بفتح الباء الخفيفة) ليس إلا. ومع ذلك فإننا نستبشر بسنة التأسل في وطنيينا العراقيين إذا أعانتهم الحكومة. إذ من شأنها أن تساعد حملة الأقلام ورافعي أعلام العلم بين الأنام. وما ذلك بعزيز على ربك العليم العلام.
مما جاء في مدح العلم
قال عبد الله بن مسعود: إن الرجل لا يولد عالماً. وإنما العلم بالتعلم وأخذه الشاعر فقال:

تعلم فليس المرء يولد عالماً. ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
وقال آخر بالمعنى المذكور:
تعلم فليس المرء يخلق عالماً ... وما عالم أمراً كمن هو جاهله
وقال غيره:
ولم أر فرعاً طال إلا بأصله ... ولم أر بدء العلم إلا تعلماً
وقال رابع:
العلم يحيي قلوب الميتين كما. ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلى سواد الظلمة القمر