ما معنى اسم المنتفق

أن نكتب كثيرا عن أعراب العراق. إلا أن عملنا هذا يجرنا إلى إعادة العنوان الواحد مرارا عديدة. وهذا مما يدفع إلى السام فحذراً من هذه الرطمة قصدنا أن نصدر البحث الواحد بعناوين أقسامه دفعاً للملل وتشويقاً لمطالعة الموضوع. وهانحن نبتدئ بأصل معنى المنتفق.
أعراب المنتفق يلفظون الكلمة (المنتفج) بميم مضمومة بعدها نون ساكنة يليها تاء مثناة مفتوحة ووراءها فاء مكسورة وفي الآخر جيم مثلثة النقط فارسية اللفظ كما في جيم جهره وجهار وجه الفارسيات التركيات. وأنت تعلم أن كل ما يلفظه الأعراب بالجيم المثلثة هو بالكاف العربية إذ لا يسمع منهم لفظ الكاف الحقيقي إلا نادراً فهم يقولون مثلاً جال وحجي وشبجه وشباج في كال (يكيل) وحكى (يحكى) وشبكة (للصيد) (وشباك للطاقة أو النافذة) وعليه: فيكون في لفظة المنتفق لغة ثانية وهي (المنتفك) على أنك إذا تسمعت بعضهم ممن يعنون بحسن اللفظ والكلام تحققت أنهم يقولون (المنتفج) بالجيم العراقية الفصيحة وهي الجيم المنصوص عليها في كتب النحاة والصرفيين والقراء والمجودين لا الجيم الشامية أو المصرية. وأعراب المنتفق كسائر أعراب البادية لا يعرفون لفظ القاف الفصيح وهم يكرهونه أشد الكراهية ويقلبونه جيماً عراقية أينما وقعت وفي أي لفظة جاءت ومنهم من ينطق بها كافاً فارسية كما في كلستان وكوز وكرم الفارسيات.
وعليه ففي لفظة (المنتفق) خمس لغات وهي المنتفق بقاف والمنتفك بكاف والمنتفج بجيم فارسية وفصحاهن الأولى لأنها هكذا وردت في كتب الأقدمين من البلغاء وهي لا تزال ترد بهذه الصورة في من يتحرى الفصيح في كتابته وكلامه كما يتضح لك صحة هذا اللفظ من الشواهد الآتي إيرادها.
ما معنى المنتفق ولمَ سموا كذلك
لكل اسم من أسماء العرب يرجع إلى حكاية أو واقعة أو بيت شعر أو صناعة أو ما ضاهى هذه الأبواب وهي كثيرة عندهم. فما عسى أن يكون معنى المنتفق ولمَ سموا بهذا الاسم.
قلنا: علينا أولاً أن نعلم ما معنى انتفق في اللغة. فقد جاء في تاج العروس ما معناه انتفق
اليربوع: خرج من نافقائه. . . وانتفق الرجل: دخل النفق. . . والنفق: السرب ووكر اليربوع أيضاً. اه
فيكون سبب هذه التسمية إما لأن الجد الأكبر لبني كان يحرش قبل الإسلام فبقي عليه هذا الاسم وهو غير بعيد لأنهم سموا أيضاً حريشاً وحرشاء ومحرشاً فمن سمي بحريش كأمير: قبيلة من بني عامر. وبحرشاء كصفراء: امرأة وبمحرش كمحدث: محرش الكعبي ومحرش بن عبد عمر والحنفي وغيرهما.
وإما لأنه كان يقيم في نفق لشدة الحر. فيكون شبيهاً بسكنة المغاور. وقد وجد في بلاد العرب أناس (منتفقة) أي سكنة الأنفاق أو الأسراب والمغاور وقد ذكر ذلك بعض المؤرخين ومنهم من وجد في غير بلاد العرب ويسميهم الإفرنج تروكلوديت، كما مر الكلام عنهم في الجزء الأول.
وأول من ذكر هؤلاء الأقوام كتاب اليونان فقد قالوا عنهم انهم أناس نازلون في الشمال الشرقي من أفريقية ويأوون إلى الأنفاق والمغاور وأكثر ما يكونون بين نهر النيل والبحر الأحمر وكان يحتل تلك الجهات أيضاً قوم من العرب يأتون إليها من بلادهم. وإلى هذا العهد يوجد جم غفير من الأفريقيين هم (منتفقون) حقيقة وهم مبثوثون في أصقاع مختلفة من قارة أفريقية.
وفي بلاد العرب قطر كله جبال تحيط به الأودية العظيمة العديدة وفيها من الكهوف والأنفاق شيء كثار تأوي إليه قبائل من الأعراب الأوابد والشراذم والشوارد. ولا يبعد أن يكون هؤلاء من أولئك أو أن منتفقة بلاد العرب من منتفقة بلاد الحبشة ونواحيها والله أعلم.
أما رأينا الخاص فهو أن بني المنتفق لم يسموا بهذا الاسم لكون جدهم كان من منتفقة اليرابيع أي محرشها ولا من المنتفقة بمعنى سكنة الكهوف. إنما سموا كذلك لكونهم اتفقوا على التناصر والتكلف اشتقاقاً من الاتفاق لا من الانتفاق. ويؤيد قولنا هذا أن بني المنتفق هم عبارة عن ثلاث قبائل كبار قد اجتمعت متحدة بينها كل الاتحاد وهي: قبيلة بني مالك وبمي سعيد والأجود (الأجود كأفضل لا الأجواد بألف بين الواو والدال) وكثيراً ما كان يفعل العرب والأعراب على التعاقد والتعاهد والتناصر ليكونوا اشد صولة على أقرانهم.
وقد كان ذلك قبل الإسلام وبعده ومن هذا القبيل الأحلاف والأحابيش وقريش وخثعمة والرباب ولعقة الدم والقارة وجمرات العرب ورضفات العرب وجمهرة العرب وتنوخ والضفير (هذه الكلمة تكتب بالضاد لا بالظاء المنقوطة المشالة) والمطيبون وغيرهم ولعلك تقول: إذا كان المنتفق من الاتفاق فكان يجب عليك أن تقول: (المتفق أو بنو المتفق) فمن أين هذه النون في المنتفق إذا كان من الاتفاق؟
قلنا أن العرب كثيراً ما تفك الحرفين المدعمين وتبدل الأول منهما نوناً وتبقي الثاني على حاله. وهذا الأمر معروف عندهم وإن لم يصرحوا بهذه القاعدة في كتبهم. فقد قالوا: الأجار بتشديد الجيم والأنجار. والأجاص والإنجاص. والرز والرنز. والإجانة والإنجانة. والقبرة والقنبرة. والخروب والخرنوب. وربما أبدلوا نوناً من الحرف الثاني لا من الحرف الأول كقوله الخرنابتان وهما الخرابتان. وهناك غير هذه الأمثال مما يطول سرده.
ومما يؤيد هذا الاشتقاق أن (المنتفق وردت بدلاً من المنتفق في نسخ ياقوت القديمة وقد صرح بذلك الفاضل وستنفلد في طبعه لمعجم البلدان. وهكذا وردت في نسخ الأغاني القديمة.
وقد يتفق أمران والجوهر واحد كما يجتمع زندان في وعاء. فقد يمكن أن يكون المنتفق رجلاً سمي لبعض الأوجه اللغوية التي ذكرناها فكان رأس قبيلة. ثم ضعف في ما بعد أمر عشيرته حتى اضطرت إلى أن تنضم إلى أحياء أو أقوام أخرى فكان منها هذه العميرة أو هذه العشائر المشهورة باسم المنتفق.
نسب المنتفق
قال في تاج العروس: المنتفق أبو قبيلة وهو المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وقال السيد إبراهيم فصيح الحيدري في كتابه عنوان المج في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد: وجميع قبائل المنتفق بطن من عامر بن صعصعة من العدنانية وهم بنو المنتفق بن عامر بن ربيعة بن كعب بن عامر بن صعصعة ويقال المنتفق متفق. اهـ. وبنو صعصعة: بطن من هوازن
من العدنانية. وهم بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن كان له من الولد: عامر ومرة ومازن وغامر ووائل. وأمهم عمرة بنت عامر بن الضرب. وغالب وأمه
غامزة بها يعرفون. وقيس وعوف ومساور ويسار ومثجور وأمهم عدية بها يعرفون. وكبيرة وزبينة وأمهم وائلة بها يعرفون وربيعة وأمه غويصرة بها يعرفون وعامر أكثرهم بطوناً. (عن أنساب العرب للقلقشندي).
وذكر صاحب لسان العرب المنتفق ولم ينسبه ولم يذكر قبيلته.
ومن العجب العجاب أن القلقشندي كتب سفراً مطولاً عن قبائل العرب ولم يذكر المنتفق أبداً. مع أنها قبيلة ضخمة بل عميرة جليلة.
وممن ذكر نسب بني المنتفق ابن خلدون المغربي في تأريخه في المجلد 312: 2 قال: ومن بني كعب بن ربيعة. . . بنو عقيل (بن كعب وهم بطون كثيرة. منهم: بنو المنتفق بن عامر بن عقيل) ومن أعقاب بني المنتفق هؤلاء الأعراب المعروفون في الغرب (بالخلط). قال علي بن عبد العزيز الجرجاني: (الخلط): بنو عوف وبنو معاوية ابنا المنتفق بن عامر بن عقيل). انتهى. . . . قلت: والخلط في هذا العهد في أعداد جشم بالمغرب.
ومن بني عقيل بن كعب: بنو عبادة بن عقيل: منهم الأخيل واسمه: كعب بن الرحال بن معاوية بن عبادة. ومن عقبه: ليلى الاخيلية بنت حذيفة بن سداد بن الأخيل.
وذكر ابن قتيبة: أن قيس بن الملوح المجنون منهم. وبنو عبادة لهذا العهد فيما قال ابن سعيد بالجزيرة الفراتية فيما يلي العراق. ولهم عدد وذكر وغلب منهم على الموصل وحلب في أواسط المائة الخامسة قريش بن بدران بن مقلد فملكها هو وابنه مسلم بن قريش من بعده. ويسمى شرف الدولة. وتوالى الملك في عقب مسلم بن قريش منهم إلى أن انقرضوا. قال ابن سعيد: ومنهم لهذا العهد بقية بين الحازر والزاب يقال لهم: عرب شرف الدولة. ولهم إحسان من صاحب الموصل. وهم في تجمل وعزٍ. إلا أن عددهم قليل نحو مائة فارس.
وذكر المنتفق صاحب الأغاني في كلامه عن يزيد بن الطثرية قال: أن طثراً من عبد بن وائل أخوة بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وكان أبو جراد أحد بني المنتفق بن عامر بن عقيل أسر طثراً فمكث عنده زماناً ثم خلاه وأخذ عليه أصراً ليبعثن إليه بفدائه أو ليأتينه بنفسه وأهله فلم يجد فداء فاحتمل بأهله حتى دخل على أبي جراد فوسمه سمة إبله. فهم حلفاء لبني المنتفق إلى اليوم نحو من خمسمائة رجل متفرقين فببني عقيل يولون إلى بني المنتفق وهم يعيرون بذلك
الوسم. وقال بعض من يهجوهم:
عليه الوسم وسم أبي جراد) اه
وذكرهم في موطن آخر فقال: زعم علماؤنا أنه لما انهزم الناس خرجت بنو عامر وحلفاؤهم في آثارهم (في آثار بني تميم) يقتلون ويأسرون ويسلبون فلحق قيس بن المنتفق بن عامر بن عقيل عمرو بن عمرو فأسره (اهـ المراد من ذكره للتنويه بنسب المنتفق)
وممن ذكر نسب المنتفق الطبري قال: وبارز زياد بن النضر أخاً له لأمه يقال: عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل. وكانت أمهما امرأة من بني يزيد. فلما التقيا تعارفا فتوافقا. ثم انصرف كل واحد منهما عن صاحبه وترتجع الناس. اهـ.
وقد ذكر بني المنتفق غير هؤلاء الكتاب فاجتزأنا بالقليل السلسبيل الراوي للغليل عن الكثير الأجاج المهيج لعلة العليل.
ديارهم القديمة
قد جاء في كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر لابن خلدون المغربي في الجزء 302: 2 ما هذا نصه: (وأٌما بنو عجل بن لجيم بن صعب وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة. وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر:) فهذا كلام نفيس يدلك على قدم احتلال بني المنتفق لهذه البلاد.
وقال ابن خلدون في موطن آخر من كتابه في المجلد 2: 312 نقلا عن ابن سعيد: (ومنازل المنتفق الآجام التي بين البصرة والكوفة. . . ومن بني عامر بن عقيل: بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف وهم اخوة بني المنتفق وهم ساكنون بجهات البصرة وقد ملكوا البحرين بعد بني أبي الحسن ملكوها من تغلب. قال ابن سعيد: وملكوا أرض اليمامة من بني كلاب وكان ملكهم لعهد الخمسين من المائة السابعة عصفور وبنوه.) اهـ
ومما يدلنا على الربوع التي احتلوها في سابق العهد المياه التي كانت لهم فإنها تطلعنا احسن الاطلاع على منازلهم وديارهم القديمة. فمن مياه بني المنتفق:
(الميثب) كمبرد قال ياقوت: الميثب ماء بنجد لعقيل ثم للمنتفق واسمه معاوية بن عقيل. وقال الأصمعي: المثيب ماء لعبادة بالحجاز وقال غيره: مثيب واد من أودية الأعراض
التي تسيل من الحجاز في نجد اختلط فيه عقيل بن كعب وزبيد من اليمن.) اهـ
ومن مياههم (البيضاء) قال ياقوت: البيضاء ماء لبني عقيل ثم لبني معاوية بن عقيل وهو المنتفق. ومعهم فيها عامر بن عقيل. قال حاجب بن ذبيان المازني يرثى أخاه معاوية بالبيضاء قال.
تطاول بالبيضاء ليلى فلم انم ... وقد نام قساها وصاح دجاجها
معاوى كم من حاجةٍ قد تركتها ... سلوباً وقد كانت قريباً نتاجها

السلوب في النوق. التي ألقت ولدها لغير تمام.) اه ومن ربوعهم (العقيق) قال الهمداني في جزيرة العرب: العقيق عقيقان: العقيق الأعلى للمنتفق ومعه معدن صعاد على يوم أو يومين وهو اغزر معدن في الجزيرة العرب. وهو الذي ذكره النبي عليه السلام في قوله: مطرت أرض عقيل ذهباً. والأسفل هو في طي.) اهـ
ويقال لهذا العقيق الأعلى: (عقيق بني عقيل). قال ياقوت: (ومن الاعقة) العقيق الذي في بلاد بني عقيل. قال أبو زياد الكلابي عقيق بني عقيل فيه منبر من منابر اليمامة. ذكره القحيف بن حمير العقيلي حيث قال.
أأم ابن إدريس ألم يأتك الذي ... صبحنا ابن إدريس به فتقطرا
فليتك تحت الخافقين ترسه ... وقد جعلت درعاً عليها ومغفرا
يزيد العقيق ابن المهير ورهطه ... ودون العقيق الموت ورداً وأحمرا
وكيف تريدون العقيق ودونه ... بنو المحصنات اللابسات السنورا

انتهى النقل عن ياقوت.
ومن هنا ترى أن المنتفق كانوا منتشرين بين العرق وجزيرة العرب ويترددون بين بلاد وبلاد للانتجاع أو للغزو أو لغاية أخرى على ما هو معهود في حياة أهل البادية.
ربوعهم الحالية
تمتد من الناصرية إلى الحي وبينهما شطرة المنتفق والحمار وسوق الشيوخ والبطحاء والبدعة وبني أسد وبني سيد والمشارقة وقلعة صقر إلى غيرها من الأقضية والنواحي. وقصبة اللواء: الناصرية. وبكلمة واحدة هي البلاد التي احتلوها من سابق العهد.
ومن ديارهم المشهورة في الأزمنة الخالية والحالية (الغراف) وهو نهر كبير تحت واسط بينها وبين البصرة وعلى هذا النهر كان في سابق العهد كورة عظيمة فيها قرى كثيرة وأما اليوم فلم يبق منها شيء يذكر. وكذلك القول عن البطائح التي كانت في جواره. فإنها كانت متسعة الأطراف مترامية الضفاف وأما في هذا العهد فقد نضبت مياهها وضاق عقيقها.
وسمى الإفرنج نهر الغراف باسم (شط الحي) نقلاً عن العوام والحي قرية ضخمة راكبة الغراف سابقاً. واسم الغراف في العهد الماضي (المسرهد) على وزن مدحرج بفتح ما قبل الآخر وقريته الحي تبعد عن هذا النهر نحواً من نصف ساعةٍ لتحول مجراه مع الزمان. ونهر الغراف أو المسرهد أو شط الحي ينقسم هناك إلى شعبتين فالشعبة التي عن يمينك تسمى (أبو حجيرات) مجموع حجيرة مصغرة حجرة. والشعبة التي عن يسارك يقال لها (شط العمى) لأنه لا يدفع مياهه إلى نهر آخر ولان الرمال تدفن عقيقه رويداً رويداً. ولا يوجد الماء في شعبة إلا أربعة أشهر في السنة هي أشهر الشتاء.
ومن غريب تأويل بعض كتاب الإفرنج أن هذا الشط يسمى (شط الحية) لا شط الحي. وسمى بذلك لأنه يتمعج الحية قلنا. وليس الأمر كذلك لأنه لا يوجد نهر إلا ويكون متعرجاً في سيره تبعا لحركة الماء. نعم لو كان متعرجة شديداً يفوق منعطفات سائر الأودية والأنهر لصح التأويل. إلا أن الأمر ليس كما توهموه. وقد رأيت سبب تسمية العامة له بنهر الحي وسمى الحي حيا لحيوية أرضه وقوة إنباتها وخصب طينته مما لا يشبهه نظير قط في القرى المجاورة أو المندرسة.