الكلدانيون واصل اسمهم ومعناه واختلاف الروايات فيه

كان الكلدانيون في سابق العهد أمة عظيمة بلغت من شاو الحضارة مبلغا بعيدا، وكانت تسكن العراق من شماليه إلى جنوبيه، وكان لهم شهرة طبقت الخافقين.
وقد ورد ذكرهم في كتب الأقدمين على اختلاف أجيالهم ولغاتهم، وقد جاء بنوع أخص في أسفار الكتبة المحدثين، لكثرة تتبعهم للحقائق، وتطال أعناقهم إلى تواريخ الأمم الخالية، وإمعانهم فيها بنوع لا يجاريهم مجار بل ولا يشق لهم غبار.
ولما كان شغفهم بالروايات الصادقة لا يضاهيه شغفهم بغيرها نقبوا عن مصادرها كل التنقيب حتى ظفروا بضالتهم، أعنى بذلك: الآثار والعاديات التي اكتشفوها في بلادنا بينما نحن في غفلة عنها وعن المنقبين وكل ما عثروا عليه منقوش على الحجارة أو الصخر أو الآجر أو الفخار أو ما ضاهي هذه المواد من مشوية في النار أو غير مشوية في النار أو غير مشوية أو مقطوعة من مقالعها ومدافنها أو غير ذلك.
واليوم يعرف الإفرنج تواريخ بلادنا وأممها وأجيالها ومواقع مدنها وأنهارها وسابق مجدها ما لا تعرف منه عناوين أبحاثهم فيها أو عناوين المضامين التي بحثوا عنها. هذا فضلاً عن إننا لا نجد في المصنفات العربية من حديثة وقديمة ما يتصدى لهذا الفرع من العلوم الضرورية للعمران والتبسط في الحضارة والمدنية.
ولهذا رأينا من الواجب علينا أن نتعرض لهذا البحث الغزير الفائدة ليقف عليه أهل الوطن، ويعرف ما كان عليه أصحاب هذه الديار في سابق الإعصار من الهمة والنشاط والتيقظ فيعظم في قلبهم حبها ويغارون عليها، ويسعون كل السعي إلى الاحتفاظ بها، وترقيتها إلى أوج الفلاح، كما فعل من سبقنا على هذه الأرض وعلى الله الاتكال.
وأول شيء نستهل به بحثنا هذا هو كلمة الكلدانيين واصلها أو معناها مع أيراد جميع أقوال العلماء المختلفة فيها من قديمة وحديثة، فتقول:. .
جاءت هذه الكلمة بصور شتى وكل يعتقد أنها اللغة الفصحى واللفظة الحقيقة القديمة التابعة لأتصل الوضع، وان ما سواها من اللفظ المرغوب عنه بيد انك إذا سالت: من المحق في كلامه؟ أجابك كل منهم من فوره: أنا المحق. فتعال يا أيها الأديب ننظر في الأمر لننشد
ضالتنا.
إن لفظة الكلدانيين وردت في التوراة البرية منذ العصر الذي طوى فيه الكلدانيون أيامهم أي منذ القرن العشرين قبل المسيح. وقد جاءت بصورتين متقاربتين وهما: كسديم وكشديم أي بالسين وبالشين وكذا أيضاً وردت في بعض الرقم البابلية اللغة أو الأصل أو النقل أو الرواية وقد ذهب العلماء مذاهب في معناها. فمنهم من قال إنها تعنى الفاتحين. وفريق أولها ببلاد الكس (بفتح الكاف) لان (كس). اسم الجبل نفسه، و (ده) البلد وصرح آخرون أن الرواية الفصحى هي كشيديم بالشين المثلثة (لاكسيديم) بالسين المهملة وكذا وردت في النسخ القديمة من نسخ التوراة ومعناها عندهم. (الفاتكون). لأنهم كانوا في أول أمرهم أهل غزو وغارات وفتك. فتكون الكلمة من أصل شائع في العربية والبابلية واللغات السامية معاً. فقد جاء في كتب اللغة عن معنى كشد: قطع بأسنانه كقطع الجزر، وكشد الناقة حلبها بثلاث أصابع، وهذا يدل على انهم كانوا أصحاب ابل وأنعام. وكشد فلان: اخلص الزبدة وهو يدل على انهم كانوا في سابق عهدهم أهل بادية يمخضون الألبان ويخلصون الزبدة.
ومن اللغويين من اثبت أنها مشاقة من الكشد (بضمتين) والياء والميم من علامات الجمع عند العبريين) ومعناها: الكثيروا الكسب والكادون على عيالهم، الواصلون أرحامهم، والواحد: كاشد وكشود وكشد (وهذه الأخيرة مفتوحة الأول والثاني) والكلدانيون كانوا مشهورين بكثرة كسبهم وحبهم لعيالهم.وذهبت جماعة من البحثين إلى أن أصل (كسيديم أو كسديم: حسيديم اوحسديم) أي بالحاء في الأول بدلاً من الكاف ومعناها في العبرية: المحبون عيالهم الواصلون أرحامهم. وكان الكلدانيون معروفين يوصل الأرحام. والأخبار التي تنقل عنهم في هذا الباب كثيرة مستفاضة في أسفار تاريخ هذا الجيل.
وقال بعض المحققين بان الأصل هو (كرديم) لاكسديم أو كشديم ومعناها الأكراد. لان الكلدانيين لما اخذوا بالانقراض لجاءوا إلى جبال أو بلاد كردستان فبقى اسمهم القديم عليهم وما الاسم المصحف فبقى في بطون المهارق والأوراق.
وقد وردت الكلمة في الكلمة في بعض نسخ التوراة العربية بصورة (خلدانيين وسبب ذلك هو أن للخاء والكاف صورة واحدة في اللغة الارمية فالذين قرؤوها خاء في العربية والذين
جروا على رسم اللغة الارمية أثبتوها كافا عند نقلهم إياها إلى لغتنا. على أن المشهور المستفاض هو كلدانيون بالكاف بعدها لام.
وأما العرب فقد تلاعبوا باللفظة كل التلاعب. وهم يفعلون ذلك في جميع الكلم الدخيلة في لسانهم ولا عجب في ذلك فان الأعاجم يتصرفون أيضاً كل التصرف بالألفاظ العربية ويسومونها الذل والخسف والتصحيف والتشويه فلا يحق لهم أن يعيروا العرب بم يركبون متنه. وقد أشار بن عربشاه إلى تصرف العرب هذا بقوله: أن كرة الألفاظ الأعجمية، إذا تداولها صولجان اللغة العربية، خرطها في الدوران على بناء أوزانها ودحرجها كيف شاء في ميدان لسانها،. . اهـ.
وعليه فقد ذكر كتاب العرب الكلدانيين بصور مختلفة وهانحن نورد بعض ما جاء من القبيل. قال في تاج العروس في مستدرك مادة ك ل د: الكلدانيون بالضم: طائفة من عبدة الكواكب. اهـ وقد وردت (ك ش د) الكشدانيون بالضم: طائفة من عبدة الكواكب. اهـ وقد وردت في كتاب الفهرست لابن النديم بصور مختلفة كرداني وكزداني وكسداني (ص194 و195 من التذبيل الذي ذيله فلوغل) وكأنها بضم الكاف وهو غريب لان الأصل هو بفتح الكاف إلا أن العرب لم تجار الأجانب في نقلهم هذا.
وجاء في مروج الذهب طبعة باريس 2: 112 و4: 681 أن الصابئين كانوا يعرفون أيضاً باسم كماريون وهو لفظ غريب أيضاً فقيل الأصح كتباريون وقيل كسكريون وفي مروج الذهب المطبوع على حاشية نفح الطيب (279: 1) الكيماريين وفي (2: 152) الكنياريون وهذه التصحيفات أيضاً تختلف باختلاف طبعات مروج الذهب الكثيرة وفي كل طبعة رواية جديدة غريبة وعندي ثلاث طبعات منه وفي كل طبعه ما يؤيد قولي هذا. ولو سردت الكل لطال المقال على غير جدوى.
وقد ذكرهم ابن خلدون باسم قنطارية قال. والقنطارية أصحاب قنطارين ارفكشاد. وقد جاءت مصحفة على اوجه شتى منها كنتاريون وكتباريون وقطباريون والأصح في ذلك كشدانيون فصحفت كشرانيون وكنترانيون وقترانيون. وأساس كل هذه التصحيفات والتحريفات والتشويهات الكتابة غير المنقوطة.
وأما الرواية الصحيحة فهي الكلدانيون نسبه إلى كلدة بفتح الكاف فسكون اللام أو كلدة
بفتحتين وهو اسم شيخ أو أمير من شيوخ العرب غزا ديار العراق في بطائح الفرات فتسمت البلاد باسمه ومن صلبه ولد الملك مرودخ بلدان ملك بابل وكان الشيخ كلدة في عهد إبراهيم الخليل وحارب الآشوريين ومنعهم من التسلط على العراق.
واسم كلدة كان في صدر الإسلام معروفاً عند العرب ومنه اسم الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي طبيب العراب المشهور والكلدة بكسر الكاف وسكون اللام نبت مشهور بالعراق يسميه أهل البادية بهذا الاسم كما يسميه أهل بلاد العرب أيضاً وهو يشبه بعض الشبه الحلفاء أو غيرها من الانبتة وهو إذا تأصل في الأرض فشا فيه فشواً مريعاً ولا يقلع أو يزال إلا بجهد جهيد وأمل البلاد سميت بهذا الاسم من باب التشبيه لان العرب الكلديين أو الكلدانيين لما نزلوا هذه الديار لم يستأصلوا منها إلا بشق النفس.
ومن غريب الأمر أن العراق فخذا من الإعراب يرجعون إلى العبيد اسمهم الكلادنة أو الكلدانية وصيحتهم للحرب (أي استنفارهم) هي واحدة مع أعراب الغوالبة والكبيشات وقد رأيت هؤلاء البدو في 14 آذار سنة 1904 سألتهم عن سبب تسميتهم بهذا الاسم فلم يستطيعوا أن يفيدوني فائدة تذكر. فلعلهم سموا بهذا الاسم لأنهم احتلوا أراضي بابل فعرفوا باسم الأرض التي نزلوها لأول مرة وهي الأرض المعروفة باسم كلدية في هذه الأيام عند بعض سكان البادية. والله اعلم هذا جملة ما يقال في أصل هذا الاسم وتشويه المختلف ومعناه المشتبه والخلاصة هي: أن الكلدانيين قوم من العرب فتحوا العراق وبقوا فيه وتغلبوا على من عاداهم فنشأت منهم هذه الدولة الضخمة المشهورة. ومن غريب الأمر أن العرب لم يعرفوا أن هؤلاء كانوا منهم في سابق الزمن بل كما اتفق لهم الكلام عنهم ذكروهم باسم نبط العراق أو أنباط العراق ونسوا اسم الكلدانيين بتاتا. قال المسعودي في كتابه مروج الذهب في الباب العشرين: (ذكر ملوك بابل وهم النبط وغيرهم المعروفين بالكلدانيين): ذهب جماعة من أهل التنقير والبحث والعناية بأخبار ملوك العالم: أن أول ملوك بابل هم أول ملوك العالم الذين مهدوا الأرض بالعمارة. وان الفرس الأولى إنما أخذت الملك عن هؤلاء كما اخذ الروم المملكة من اليونانيين فكان أولهم نمرود الجبار. . . إلى آخر البحث.
ولم يذكر اسم الكلدانيين إلا شيئا نزراً، على أن الذي أثبته العلماء اليوم أن الكلدانيين غير
الأنباط. لا يجوز خلط اسم قوم باسم قوم آخر وقد جرى سائر مؤرخي العرب على هذه التسمية المغلوطة أن كانوا ممن تقدم المسعودي أو ممن جاء بعده.
هذا فضلاً عن أن لفظة النبط أو الأنباط جاءت عند كتاب العرب بمعان عديدة. منها: بمعنى الأنباط الحقيقيين. ومنها معنى الآراميين ومنها بمعنى السريانيين. ومنها بمعنى الكلدانيين. واغلب هذا الوهم ناشئ من اللغة الشائعة بين هؤلاء الأقوام فإنها كانت الارمية. ولهذا وقع الكتاب في مهواة هذه المغواة. والله الهادي إلى سبيل الهداية والسداد.