قصة (عمى) يعقوب حزنا على فقدان ولده يوسف والتي ذكرها القرآن الكريم ، اختفت من التوراة ولكنها تلوح للمتمعن من خلال التوراة ولكنها تحتاج إلى تدقيق وقراءة متأنية للسطور. اليهود برعوا في إخفاء بعض النصوص التي لا تعجبهم كعادتهم التي عرفناها من خلال بحوث طويلة عريضة أثبت فيها اليهود براعتهم في طمس الحقائق وإخفاءها أو تزويرها.
القرآن أثّبت قصة يوسف بتفاصل أشمل وأكمل وذكر في أثنائها قصة (عمى) يعقوب، وجاء على تفصيلات دقيقة كمنت خلفها أسرار وحكايات طويلة عانت منها هذه الأسرة تمثل في صراع الاخوة الناشئ من اختلاف الامهات رسّخهُ حب الأب وتفضيله لبعض الابناء على البعض الأخرلأسباب لم يكن بمقدور هؤلاء الفتية اليافعين ادراكها، ولكنها اتضحت لهم بعد حينِ من الزمن. ولولا أن القرآن حكى لنا طرفا من هذا الصراع، لقلنا أن اليهود رفعوا يوسف هذا المكان العلي ، لأنهم إذا أحبوا شخصا رفعوه وإذا ابغضوا شخصا وضعوه. وفي قصة إسماعيل وإسحاق خير دليل على ذلك.
الأسباب التي من أجلها اخفى اليهود قصة (عمى) يعقوب حزنا على فقدان ولده يوسف هي اسباب نفسية اعتمدوا فيها على قياس باطل يدل على غباء هذه الامة وصلابة عقولها. فعندما أمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة لمباركة خيمة الاجتماع كما في ((وكلم الرب موسى وهارون قائلا: هذه فريضة الشريعة التي أمر بها الرب قائلا: كلم بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها، ولم يعل عليها نير، فتعطونها لألعازار الكاهن، فتُخرج إلى خارج المحلة وتُذبح قدامه. ويأخذ ألعازار الكاهن من دمها بإصبعه وينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات)).
اليهود عندما سمعوا أن الله تعالى فرض وشرط عليهم أن تكون هذه البقرة( صحيحة خالية من أي عيوب) وأن كل ما يُقدموه له يجب أن يكون خاليا من العيوب ، سحبوا هذا الحكم على البشر فأقروا تشريعا يُبعدون فيه كل ذي عاهة فلا يقربوه او يعطوه اي منصب ديني او قيادي مهما كان حتى أنهم عدّوا الفقر عيبا ابعدوا بسببه قيادات عسكرية نافعة. ومن هنا نرى أن اليهود أنكروا أن يكون (يعقوب) أعمى لأن هذا من شأنه وحسب شريعتهم ان يُبعده ويُبعد ولده يوسف عن الزعامة والرئاسة الدينية والسياسية لأنهُ ذو عاهة. والامثلة على ذلك كثيرة في التوراة وفي القرآن الكريم.(1)
أول هذه الامثلة هو أن يعقوب شخصيا طبّق هذا القانون عندما عرض عليه (لابان) أخيه أن يتزوج احد بناته مقابل خدمة يعقوب لغنم لابان سبع سنين ، وكان عند لابان ابنتين هما (ليئة وراحيل) وكانت ليئة (عمشاء العينين) في عيونها عيب ولما كان التقليد اليهودي يقول بأن البنت الكبيرة يجب أن تتزوج أولا ، خالف يعقوب هذا القانون وطلب يد (راحيل) التي كانت صحيحة لا شيّة فيها وهذا ما نراه واضحا في التوراة : ((ثم قال لابان ليعقوب: ألأنك أخي تخدمني مجانا؟ أخبرني ما أجرتك. وكان للابان ابنتان، اسم الكبرى ليئة واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين، وأما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. فقال: أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى... فخدم يعقوب براحيل سبع سنين،... ورأى الرب أن ليئة مكروهة ففتح رحمها، وأما راحيل فكانت عاقرا)).(2)
كانت ليئة مكروهة لوجود عيب فيها وهو ضعف عينيها (عمشاء). واليهود يكرهون كل ذي عاهة. وعندما خيّر لابان أخيه يعقوب بين ليئة وراحيل اختار راحيل لأنها كاملة لا عيب فيها. ولذلك رفع اليهود من شأن يوسف وأخوه بنيامين لأنهما ابنا السليمة من العاهات فجعلوا في نسله النبوة والخلافة ولم يجعلوا ذلك في بقية اخوته الإثنا عشر أبناء ليئة (العمشاء).
دليل آخر هو موسى الذي كانوا ينتظروه طويلا ، عرف موسى أن اليهود لن يقبلوه طبق قانونهم سوف يرفضوه لأنه (الثغ) ثقيل اللسان أو سميك الشفتين (أغلف الشفتين) وهذا يُعتبر عيبا حسب قوانين اليهود، وسوف يعتبروه نبي كذاب ، لأن الله لا يختار لهم ذوي العاهات . فما كان من موسى إلا أن يطلب من الله ان يعفيه من المهمة أو يعضده بأخيه لأنه (افصح لسانا منه) لاعَيبَ فيه حيث نرى ذلك واضحا في القصة التي ذكرتها التوراة فعندما اختار الله موسى للتبليغ اعترض موسى : ((فقال موسى للرب: استمع أيها السيد، لست أنا صاحب كلام، بل أنا ثقيل الفم واللسان. فحمي غضب الرب على موسى وقال: أليس هارون أخاك؟ أنا أعلم أنه هو يتكلم وهو يكلم الشعب عنك. وهو يكون لك فما ادخل قل لفرعون ملك مصر أن يطلق بني إسرائيل من أرضه. فتكلم موسى أمام الرب قائلا: هوذا بنو إسرائيل لم يسمعوا لي، فكيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين؟)).(3)
هذه العقدة التي يُعاني منها اليهود لم يغفلها القرآن بل جاء على ذكرها وبأوضح صورة وعند مراجعتي لكل التفاسير المتعلقة بهذه الايات التي سوف اذكرها لم اجد اي مفسر تطرق للاسباب النفسية التي ينطلق منها اليهود في تقييمهم للاشخاص ، لا بل لم اجد أي مفسر معاصر أيضا ذهب إلى التوراة ورأى ما فيها. ولذلك جاءت الرؤية التفسيرية شبه ناقصة لهذه الاسباب.
القرآن كان واضحا في مراعاة هذا الجانب عند اليهود لكي يقطع عليهم الطريق ويُلقي عليهم الحجة فحكم لهم بما اختاروه وتأكيدا لنص التوراة فإن موسى في القرآن شرط على الله نفس الطلب الذي طلبه في التوراة فقال : (واحلل عُقدة من لساني يفقهوا قولي.. وأخي هارونُ هو أفصحُ مني لسانا فأرسلهُ معي .. إني أخافُ ان يُكذبون)). (4)
فبيّن موسى هنا أن اليهود لا يقبلون به لسبب وجود هذه العلة وسوف يُكذبوه لأنهم حسب عقيدتهم أن الله لا يبعث نبيا فيه عيب حسب قياساتهم الباطلة التي سوف نأتي على ذكرها.
شاهد آخر وهو أن الله عندما أمرهم أن يذبحوا بقرة عاندوا لأنهم أين يجدون بقرة لا عيب فيها قالوا (تشابه البقر علينا) أي ان كل البقر فيه عيب إما في اللون او الخلقة .
فمشى الله معهم واخذ يذكر مزايا هذه البقرة ، ولكنهم مع ذلك لم يفعلوا حتى ذكر لهم أخيرا أن هذه البقرة لا عيب فيها ودلهم عليها كما نرى في النص : ((وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ... قالوا ادعُ ربك يُبين لنا ماهي ... قال إنهُ يقول إنها بقرة لا ذلول تُثير الأرض وتسقي ولا تسقي الحرث مُسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها)) . (5)
بمجرد ان قال لهم موسى بأن الله يقول (مسلمة لا شية فيها) تخلو من كل عيب : قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها. فكل المزايا التي ذكرها الله للبقرة لم يقبلوا بها اعتبروها ليست حق، وطلبوا ايضاح اكثر فلما قال لهم موسى ان الله يقول أن البقرة سالمة لا عيوب فيها . استجابوا والسبب أنهم عرفوا أن الذي أمرهم بذلك هو إله إسرائيل وليس إله آخر وأن موسى صادق في ما يقوله ، لأنهم سبق وأن ذبحوا بقرة سليمة بهذه المواصفاة لا عيب فيها حسب وصف التوراة.
التوراة وبكل وضوح وعلى لسان الله حسب زعمهم أمرت بعدم قبول ذوي العاهات لخدمة الله فقالت في سفر اللاويين 21: 18 ((وكلم الرب موسى قائلا:كلم هارون : إذا كان رجل من نسلك في أجيالهم فيه عيب فلا يتقدم ليقرب خبز إلهه. لأن كل رجل فيه عيب لا يتقدم. لا رجل أعمى ولا أعرج، ولا أفطس ولا زوائدي،ولا رجل فيه كسر رجل أو كسر يد،ولا أحدب ولا أكشم، ولا من في عينه بياض، ولا أجرب ولا أكلف، ولا مرضوض الخصى)).
لا بل أن الله تشدد كثيرا في هذه المسألة فأمر بأن يُمنع ذوي العاهات من دخول بيوت العبادة ومنع تقديم الاضاحي المعاقة أيضا فقال كما في سفر صموئيل الثاني 5: 8 ((لا يدخل البيت أعمى أو أعرج، وجئتم بالمغتصب والأعرج والسقيم، فأتيتم بالتقدمة. فهل أقبلها من يدكم؟ قال الرب)). (6)
وفي هذا المجال يقول القس انطونيوس فكري : ((اشترطت الشريعة في الكاهن أن يكون بلا عيب خلقى أو عرضى أي مولود به أو يكون ناتج لإصابة. ولذلك كان مجمع السنهدريم يجتمع لفحص الكهنة وفرزهم عند وصولهم للسن القانونى، ومن كان صالحاً يقدمونه للخدمة الكهنوتية. وقد رأى البابا غريغوريوس (الكبير) في الشريعة التي بين أيدينا فهمًا رمزيًا لشروط الكاهن، إذ يجب ألا يقبل من كان أعمى أو أعرج أو أفطس)).
انطلاقا من هذه العقدة الفاسدة قام اليهود بإخفاء مسألة (عمى) يعقوب فكل النصوص التي جاءت في القصة توحي بأن يعقوب كان صحيحا لا عيب فيه ولم يكن أعمى لا بالولادة ولا بسبب بكاءه على ولده، ولكن فاتهم أنهم ذكروا في التوراة نفسها بأن يعقوب كان أعمى ، ولكنهم نسبوا له العمى بسبب كبر العمر فقالوا : ((وأما عينا إسرائيل فكانتا قد ثقلتا من الشيخوخة، لا يقدر أن يبصر)). (7)
ولكننا نرى في مكان آخر أن يعقوب كان أعمى وأن ولده يوسف أرجع له بصره بأن وضع يده على عينيه فأبصر وهذا ما نراه واضحا في قوله : ((فكلم الله إسرائيل في رؤى الليل وقال: «يعقوب، يعقوب!. أنا أنزل معك إلى مصر، وأنا أصعدك أيضا. ويضع يوسف يده على عينيك)). (8)
وهناك ملاحظة مهمة قد اتفقت التوراة والقرآن على ذكرها وهي أن يوسف طلب من اخوته أن يأتوه (بأخ لهم من أبيهم). يعني أخوه من أمه(9) فعرف يعقوب أن ولده يوسف حيّ لأنه طلب أخيه من أمه ولم يطلب غيره، فأرسل يعقوب القميص سرا مع (بنيامين) اخو يوسف، لأن القميص لم يكن مع يوسف ، لأن اخوته وضعوا عليه دما كذِبا وجاءوا به إلى أبيهم بحجة أن الذئب أكله. وهذا يُفسر لنا سرّ وجود القميص عند يوسف الذي رجع به البشير فيما بعد ليُلقيه على وجه أبيه يعقوب.
انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وهو بعنوان : (من الذي راود يوسف عن نفسه ؟ زوجة فوطيفار رئيس شرطة فرعون او زوجة العزيز فرعون) .
المصادر.
1- لكن اليهود الذين لا يقبلون نبيا فيه عيب او قائدا يُعاني من نقص خلقي لأنهم يعتقدون أن أمثال هؤلاء كلهم عقد نفسية تدفعهم للمكر والخبث لسد النقص ولكن اليهود سوف يقبلون بالأعور الدجال قائدا لهم على رغم إعاقته النفسية والجسدية لأنه في نظرهم يحمل مجموعة من العقد النفسية التي تدفعهُ قسرا للانتقام من أعدائهم ولربما هم بصدد صناعة هذا القائد كما أنهم يسعون جاهدين إلى صناعة تلك البقرة الحمراء التي لا شيّة فيها والتي ستكون من أهم العلامات على بناء الهيكل أو نزوله من السماء.واما سبب طلب الله من اليهود أن يذبحوا بقرة ولا يذبحوا خروفا او دجاجة او بعير اوتيس ، ذلك لأن اليهود متعلقون بالعجل الذي هو ابن البقرة . ولذلك عبدو العجل . (واشربوا في قلوبهم العجل) .اضافة إلى أن البقرة رمزا مهما في عقلية اليهود.
2- سفر التكوين 29: 15 يقول المفسر القمص تادرس يعقوب : (ليئة تعني مُعياة ربما بسبب مرض عينيها وراحيل هي ذات العيون القوية الجميلة. وكلمة مكروهة في أصلها أنها محبوبة بدرجة أقل ويتضح هذا من الآيتين والله الذي سمح لها بأن تكون عينها هكذا عوضها بكثرة البنين).
3- سفر الخروج 4: 10 . 6 : 11 . كان سبب ثقل لسان موسى أنه كان متورم الشفتين يقول في تفسير القس انطونيوس فكري (أغلف الشفتين= الغلف هو نوع من النقص. ويكون المعنى أنني غير كامل في نطقي، غير كامل الشفتين). على ما يبدو لم يلتف أحد إلى هذا السر الذي من أجله يرفض اليهود ان يتزعمهم ذوي العاهات حتى مفسري المسيحية لم يلتفتوا لذلك. ولذلك انطلقت التبريرات من هنا وهناك ولعل اغربها هو ما جاء في تفسير الدكتور غالي المعروف بإسم هولي بايبل في كتابه شبهات حول التوراة فيقول في تفسير هذه الآية : ((موسي يقول انه من حين ما كلمه الرب من عدة ايام هو لايزال لايستطيع ان يتكلم العبرانيه او المصريه بطلاقه)). أي كان لسانه معقود من الخوف والرهبة فلا زال يتعثر بالنطق.
4- سورة القصص آية: 34.
5- سورة البقرة آية : 67. ولا شية فيها هو نفس قول التوراة (لا عيب فيها) اي خالية من العيوب وهذا ما اجمع عليه المفسرون ومن مختلف الديانات عن قتادة: (مسلمة لا شية فيها)، أي مسلمة من العيوب. وعن أبي العالية: (مسلمة)، يعني مسلمة من العيوب ، وفي قول ابن عباس : لا عوار فيها. ولكن لعل اغرب تفسير سمعناه هو تفسير يوحنا الذهبي الفم القديس اللاهوتي يوانوس خريسوستوموس بطريرك القسطنطينية حيث يقول في تفسير (بقرة لا عيب فيها): إنه يسوع المسيح ربنا هو وحده بلا خطيّة، ليس فيه عيب الذي يقول عن نفسه من أجلكم أقدس أنا ذاتي مظهرا أن الذي ذُبح هو بلا خطية. وهذا ما ذهب إليه أيضا القس (أسبر عجاج) في موقعه على الانترنت : نشر المسيح مركز النبوات في باب العقائد المسيحية يقول : ذبييحة البقرة الحمراء رمز المسيح (. ولكننا نقول له يا صاحب الفم الذهبي ويا قس عجاج ، انهم ذبحوا بقرة وليس ثورا. لأنه لا يجوز التأنيث وقياس يسوع بالبقرة. ولكن ما هو تفسيرك لقول التوراة بأن كل من يلمس هذه البقرة بعد ذبحها يكون نجسا إلى المساء.
6- انظر أيضا سفر ملاخي 1: 13.
7- سفر التكوين 48: 10 .
8- سفر التكوين 46: 4.
9- سفر التكوين 35: 24 : (وابنا راحيل: يوسف وبنيامين)
مصطفى الهادي

منقوول