شـاهــد... كيف أنقذت هدى الراوي أبناءها من {داعش}؟ do.php?imgf=14312374

مدونة عن صناعة الرعب الارهابية:
نينا ستروجليك ترجمة – أنيس الصفار
عندما دقّت "داعش" على باب "هدى الراوي" طالبين ابنتها للزواج وولدها لحمل السلاح بين صفوفهم والقتال أدركت هذه المعلّمة العراقية أن الوقت قد أزف وأن عليها الفرار. وعندما نفذت ما عزمت عليه وانتهى بها المآل خارج العراق كانت قد مرّت عشر سنوات تقريباً على مقتل زوجها بيد متشدّدي {القاعدة}. كان زوجها يملك محلاً للحلاقة ويمارس نزع الشعر لزبائنه بالخيط، وهو أسلوب في التجميل تعتبره "داعش" منافياً للإسلام وعليه قتل فاعله.
اتخذت هدى قرارها بعد مرور خمسة أشهر تكرّر خلالها اقتحام عتاة "داعش" دارها بالقوة ليضعوا فوهات بنادقهم في عنقها ويصمونها بأنها جاسوسة بسبب تلقيها راتباً من الحكومة العراقية مقابل عملها مديرة مدرسة. اتخذته بعد أن تكرّرت عليها زيارات قامت بها نساء منقبات مريبات كن يطرقن بابها بحجة رغبتهن في إلحاق أطفالهن بمدرستها ثم لا يلبثن أن ينتقلن إلى سؤالها إن كانت ابنتها في سنّ مناسبة للزواج وإن كان ولدها في سنّ تؤهله للانضمام إلى حملة "داعش" القتالية.
اليوم، بعد أن تمكنت من التسلل عبر أميال من المناطق التي تسيطر عليها "داعش" وبعد أن باعت كل ممتلكاتها كي تدفع ثمن التذاكر إلى الأردن المجاور قبل أربعة أشهر، لم يعد في يد هدى ما تقدر أن تفعله.
مضت السيارة في سيرها منعطفة من مسار إلى مسار عبر شوارع عمّان المنحدرة وهدى، بوشاحها المزين بزهور دقيقة ينساب على جانب رأسها، تعطي السائق توجيهات سريعة. قلّبت قليلاً بين محتويات حقيبة يدها ثم أخرجت رزمة من الصور الفوتوغرافية التي يبدو أنها لا تفارقها حيثما ذهبت. في الصورة الأولى تبدو مع ابنتها شمس ذات العشرة أعوام وقد ارتدين النقاب الأزرق الذي يغطيهن من قمة الرأس إلى أخمص القدم. راحت تشرح لي كيف أن "داعش" عندما دخلت البلدة فرضت على النساء ارتداء هذا النقاب الذي يخفي هويّة صاحبته حتى في البيت من قبيل الاحتياط توقياً من دخول أحد للتفتيش. كانتا في الصورة تقفان أمام منزلها في العراق الذي لم يبق منه، كما تثبت باقي الصور، سوى كومة من حطام.
أشارت إلى الصورة، التي تمثل شاهداً ومبرراً لوضعها الحالي كلاجئة، ثم قالت: "هل أعطيهم ابنتي للزواج؟ كلا. هل أسلّم ولدي لداعش كي يقتل الناس؟ كلا."
الأردن في الوقت الحاضر هو البلد المضيف لأكثر من 800 ألف لاجئ، أغلبيتهم الساحقة مدنيون هاربون من لظى الحرب الأهلية في سوريا. ولكن منذ أن توسّعت "داعش" بعنفها إلى داخل العراق ارتفع عدد العراقيين الوافدين إلى الأردن إلى ما يقارب الضعفين فبلغ نحو 60 ألفاً. معظم هؤلاء يقيمون في المدن، ولأن القانون لا يسمح لهم بممارسة العمل فانهم يضطرون للعيش في الأطراف. ولكن بعد أربع سنوات من الصراع في سوريا أخذ سيل اللاجئين المتدفّق يسلّط على كرم الضيافة الأردني ضغوطاً فاقت طاقته. اللاجئون لا يسمح لهم بالعمل، كما أسلفنا، ثم عمدت الحكومة وبرنامج الغذاء الدولي خلال الأشهر القليلة الماضية إلى إجراء تخفيض حاد في الخدمات الاجتماعية والمعونات الغذائية المقدّمة إلى هذه الشريحة التي تكافح لسدّ احتياجاتها الأساسية.
عبر مدخل يطل على الشارع الرئيسي ارتقت هدى سلماً منحدراً يوصل إلى شقتها المكوّنة من غرفتين. فهي تكسب ما يعادل 350 دولاراً في الشهر من عملها منظفة في أحد المراكز الاجتماعية التي تديرها منظمة "كير إنترناشنال" في الأردن، بيد أن عقدها معهم أمده ثلاثة أشهر وقد انتهى في شهر نيسان، لأن المنظمة لا تستطيع إبقاءها أكثر من ذلك تماشياً مع الضوابط. إلا أنها حتى بوجود الراتب كانت لا تكاد تقوى على تغطية إيجار الشقّة البالغ 240 دولاراً مضافاً إليه الخدمات والطعام لمدة شهر، ويبدو أنها من بعد هذه النقطة لم تعد تدري ما الذي يمكنها أن تفعله في خطّتها التي كانت إلى الآن تدور حول هدف واحد هو الأمان ولا شيء غيره. تقول هدى: "هذه أمور تحدث، ولكنني امرأة مستقلة وأريد أن أعمل .. أريد أن أكسب عيشي من عملي ولا أريد الصدقة."
جلسنا على فراش في غرفة الجلوس بينما انصرفت ابنتها شمس بردائها القطني الأبيض لتعد لنا الشاي في المطبخ المرفق، وجلس ولدها الأكبر عبد الله، الذي يبلغ من السن ستة عشر عاماً، على دكّة صغيرة. كان له وجه أبيه النحيل وعلى شفتيه ابتسامة مداعبة لا تفارقه حتى عندما راحت أمه تصف قصف القنابل وقطع الرؤوس. أما ابنها الأصغر أحمد ذو التسع سنوات فقد بقي صامتاً مقطّباً طول الوقت ساهماً بعينيه إلى الأرض. تقول امه أنه أصيب بصدمة نفسية شديدة فصار يتخيّل أن كل شخص هو "داعش" وأنه جاء لكي يقتله.
عملت هدى في حقل التدريس طيلة 23 عاماً، ولكنها مع هذا لم تكن تملك من المال ما يمكنها من دفع 60 دولاراً عن كل واحد من أبنائها كي تلحقهم بالمدرسة، لذا صار هؤلاء يلزمون البيت ويلعبون الغميضة أو يصعدون إلى سطح المنزل ويتدربون على حفظ عشر كلمات من اللغة الانكليزية يومياً استعداداً للخطوة التي يتمنون أن يتمكنوا من تحقيقها ذات يوم وهي السفر إلى أميركا. وعندما سئلت شمس عما تستطيع أن تتذكره من حياتها قبل أن تهجر بلدتها القديمة بكت ثم قالت وهي تغطي وجهها بنقابها الأبيض: "لا أذكر سوى لحظة اندلاع النار في منزلنا."
من قبل دخول "داعش" كانت العائلة تتابع كيف تحوّلت بلدتها المسماة القائم، -وهي بلدة يقطنها نحو ربع مليون نسمة تقع بعد الحدود مباشرة للقادم من سوريا إلى العراق-، إلى ساحة معركة بسبب العصابات المسلّحة الدخيلة. وبعد مرور عام على دخول الأميركيين إلى العراق تحولت القائم إلى منطقة حرب تدور رحاها بين تنظيم القاعدة ورجال العشائر. تقول هدى أن زوجها اعتقل خلال تلك الفترة، ثم تمضي مستعيدة ذكرى تلك الأيام: "لقد قتل أناس كثيرون حتى أنك كنت ترى الرؤوس المقطوعة متروكة في الشوارع." ثم تناولت ملفاً فيه نسخ مصوّرة لوثائق كانت تجمعها بكل حرص ومواظبة منذ وفاة زوجها وأشارت إلى شكوى كانت قد قدّمتها بكل جرأة ضد قتلة زوجها مطالبة بالاقتصاص منهم جزاء فعلتهم.
ثم شنت القوات الأميركية والجماعات المسلحة المحلية سلسلة من العمليات السريعة الناجحة إلى أن تمكنوا من استرداد القائم في نهاية الأمر، ولكن العصابات عادت إلى التشكل في المنطقة مجدداً خلال 2010، وميّزت هدى وجوه بعض اولئك المسلحين، فقد كانوا تلاميذ سابقين عندها في مدرستها التي تدرّس فيها. كثير منهم تركوا الدراسة في سن مبكرة وانجذبوا لإغراءات الهواتف الذكيّة والأسلحة والأموال التي تعرض على الأعضاء الجدد. تقول: "السلاح بيد والهاتف الخلوي باليد الأخرى .. تلك كانت غاية أحلامهم ومنتهى أمانيهم."
عندما اجتاحت "داعش" الحدود في حزيران 2014 صادفت نصراً سهلاً في القائم حيث استولت عليها بالإضافة إلى بلدتين عراقيتين أخريين. كان الارهابيون قد استولوا قبل ذلك على ثلاث قرى على الجانب السوري أيضاً، وعندما واصلوا تقدمهم فر حرس الحدود العراقيون. وبسيطرتهم على المعبر الحدودي والبلدات التي احتلوها في ذلك اليوم اتصل خط الامدادات عبر البلد. وأرسلت هذه المكاسب رعدة تسري حتى وصلت بغداد.
تتذكّر هدى كيف تغيّر كل شيء يوم حلّت "داعش"، تقول: "هؤلاء يعتبرون الناس في أية منطقة يستولون عليها غنائم لهم." قالوا لها أنها زنديقة مثل زوجها لأنها تعمل مديرة مدرسة وتتقاضى راتباً من الدولة، بعد ذلك أرغموها على ارتداء نقاب كامل ولم يعد بإمكانها مغادرة المنزل إلا بصحبة ذكر من العائلة.
تمضي هدى في رواية قصتها فتقول: "إنهم لا يعرفون شيئاً عن ديننا" ويضرب عبد الله بيده على كتفه ليرينا كيف كان مسلحو "داعش" يقتحمون منزلهم ويوجهون أسلحتهم إلى والدته وينعتونها بالخائنة والجاسوسة. كانوا يسألونها: "لماذا يذهب ابنك إلى المدرسة؟ واجبه هو أن يقاتل." ونساء منقبات يطرقن على بابهم مدعيات أنهن يردن تسجيل أطفالهن في المدرسة ثم يسألن عن "ابنتها الجميلة" وهل بلغت سن النضج أم بعد.
تملي القوانين التي وضعوها على جميع النساء أن يتزوجن، خصوصاً من كانت مطلّقة أو أرملة. أما العازبات فكنّ يقتلن أحياناً أو يطردن من بيوتهن ليستولي عليها المقاتلون وعرائسهم الجديدات. تقول هدى: "اعتقدت أني سوف أرغم على الزواج من أحدهم وكذلك ابنتي، لذلك لزمت الصمت لأني لم يكن في قدرتي عمل شيء. لم أكن أريد أن انتهي إلى مثل هذا الوضع الذي انتهيت إليه، بلا سكن ولا وعمل ولا راتب."
بعد ذلك أخذ أبناء بعض المعلمات من زميلات هدى يختفون، لذلك منعت هدى ابناءها الثلاثة من مغادرة المنزل بشكل شبه تام. تقول: "توقفت عن إرسال أطفالي إلى مدارسهم لأنني خشيت أن يأخذوا الأولاد ويضموهم إلى صفوفهم وتؤخذ ابنتي للزواج."
شخّص عبد الله أن بعض المجندين الجدد الذين أخذوا يظهرون في الشوارع حاملين السلاح هم من زملائه السابقين في المدرسة. يقول: "كنت أعرفهم من وجوههم ولكني تحاشيت الكلام معهم خوفاً من أن ينتبهوا لي. لم أكن أستطيع تصور أن أصبح واحداً منهم باختياري، ولكني كنت خائفاً من أن أؤخذ عنوة وأجبر على ذلك."
بعد أيام قليلة من سقوط البلدة بدأ القصف عندما أخذت طائرات مجهولة تسقط قنابلها على القائم. قالت وسائل الإعلام العراقية أنها عمليات جوية تقودها الولايات المتحدة، بينما ادعت الولايات المتحدة أن القوة الجوية السورية هي التي قامت بذلك. قتل يومها عشرون شخصاً وأصيب عشرات آخرون.
في أواخر شهر تموز، أي بعد مرور شهر على دخول "داعش" إلى البلدة، كانت هدى وابنتها في المطبخ تعدان طعام الإفطار مع مغيب شمس رمضان عندما هوت قنبلة على المنزل. تقول أن الحظ شاء أن يكون المطبخ هو الغرفة الوحيدة التي نجت من تلك الضربة، وعرضت صوراً تظهر أكواماً من الطابوق والحجارة وقطعاً ملتوية من المعدن، وعلى مدى الأشهر القليلة التي أعقبت الحادثة صارت العائلة تبيت ليلها في المطبخ. شظية من ذلك الانفجار أصابت جارها الذي يسكن المنزل المجاور في عنقه فقتلته. هكذا أصبحت القائم هدفاً في معركة طرد "داعش" من العراق، وتعتقد هدى أن بيتها استهدف بالقصف لأن مقاتلي التنظيم كانوا يكثرون من التردد عليه.
في شهر تشرين الثاني بدأت غارات التحالف بدكّ البلدة فقتلت عشرات المتشدّدين وسوّت أبنية لـ "داعش" بالأرض، وأدركت هدى أنها لم يعد لها من شيء يستحق البقاء. وفي ذلك الشهر دفعت ما يعادل ألف دولار إلى رجل كي يأخذهم بسيارته إلى بغداد في رحلة تقارب 290 كيلومتراً وتستغرق يومين. كانت هدى تعاني من علّة في عينها، لذلك كان السائق يبرز تقاريرها الطبيّة كلما اعترضتهم نقطة تفتيش لـ "داعش" ويقول لهم أنه يأخذها إلى بغداد لإجراء عملية جراحية. كان ذلك الرجل والد اثنتين من طالباتها القديمات اللائي كبرن وأصبحن طبيبات وكانت رحلتهم محفوفة بالأخطار. فإذا ما اكتشف المتشدّدون أن السائق لا يمت لها بصلة قرابة أو علاقة ما قتلوهما، وفي بغداد باعت خاتم زواجها وبعض الحلي لشراء تذاكر الطائرة وتأشيرة إلى الأردن الذي دخلته في 23 كانون الأول 2014.
في شهر شباط كانوا بمأمنهم في الأردن عندما قتلت ضربات للتحالف الأميركي 17 متطرّفاً في بلدة القائم وتطايرت شائعات تقول أن زعيم "داعش" المسمى أبو بكر البغدادي قد أصيب في تلك الغارة. وقالت التقارير يومها أن المتشدّدين طلبوا دعماً من أعوانهم في سوريا للتعامل مع الدمار الذي أصابهم.
تقول هدى: "كل شيء هنا مرتبط بالمال، ولكن أبنائي يستطيعون النوم بسلام وهذا هو كل ما يهمني." أما الأبناء فتسيطر عليهم فكرة مفادها أن الرئيس أوباما سوف يرتّب الأمور لإعادة توطين العراقيين الذين أنهكتهم الحرب أمثالهم في أميركا. تقول الابنة شمس أن أوباما سوف يتحمل نفقات طلب التأشيرة، والصغير أحمد صار يبكي كلما ذكر اسم الرئيس الأميركي. تقول: "هذه هي صورة أوباما عندهم، إنه المخلص." وتمضي مبيّنة أن ذلك مردّه افتقادهم إلى نموذج الرجل والأب في حياتهم. تقول هدى: "نحن نعلم أن الحياة في الولايات المتحدة ليست سهلة رغم أن الناس يعتقدون أنها الجنّة، ولكن هناك تتوفر الفرص، أما البلدان العربية فليس فيها سوى الفوضى والقلاقل. فما أن تذهب القاعدة حتى تأتي "داعش"، وما أن يستقر بلد ما حتى تنشب الحرب مخالبها في بلد آخر. وليس هذا هو ما أتمناه لأبنائي."
الحياة صعبة وليست فيها أشياء مؤكدة، ولكن عائلة هدى مصممة بعناد على عدم العودة أبداً إلى بلدتهم. يقول عبد الله: "إلى من أعود الان؟ هل أعود إلى الحرب والقنابل والمصير المجهول؟" يريد عبد الله أن يصبح محامياً ويتخصص في حقوق الإنسان لكي يدافع عن حق عائلته في الاستقرار في الولايات المتحدة. بيد أن الأرقام ليست مشجعة: حيث تتوقع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أن 1500 من العراقيين فقط سوف يمكن توطينهم خارج الأردن خلال العام 2015.
تقول هدى: "قد يموت الناس وهم ينتظرون، ولكن الفرق في حالتنا هي أننا انتقلنا من موت سريع إلى آخر بطيء."
*عن مجلة ديلي بيست