تميزت الفترة التاريخية التي عاصرت إمامة موسى الكاظم (ع) ، والتي امتدت لخمسة وثلاثون سنة ، بأنها شهدت منعطفات كبيرة وخطيرة عاشتها الأمة الإسلامية على المستويين السياسي والعقائدي ، فقد كان الصراع محتدم وعلى أشده داخل الأسرة العباسية من اجل تثبيت دعائم الخلافة لأبناء أبي جعفر المنصور وتنحية الفرع الآخر من الآسرة العباسية المتمثل بعبد الله بن علي وعيسى بن موسى الذي كان ولي عهد المنصور ، وفي الجانب الآخر السعي للقضاء على التهديد الأسرة العلوية المتمثلة بعبد الله ابن الحسن المثنى وأولاده ، الذين كانوا يسعون للإطاحة بالحكم العباسي وإعادته إلى الأسرة العلوية فرع الإمام الحسن (ع) .. وقد تمثل هذا التوجه بالثورة التي قادها محمد بن عبد الله الملقب (محمد النفس الزكية) على أبي جعفر المنصور سنة 145 هجرية ومقتله بالحجاز ، وقد عمدت الخلافة العباسية إلى محاولة إبادة نسل العلويين من الوجود كونها تدرك أحقية أهل هذا البيت بالخلافة ، وأن الثورة العباسية على بني أمية قد رفعت شعار الثأر لأهل بيت النبوة مما اكسبهم ود وتعاطف الناس معهم ، وبعد أن تنصلوا عن وعودهم لأهل البيت واتضح للناس زيف ادعائهم عمدوا إلى إزاحة هذا الخطر الذي يهدد وجودهم وسلطانهم ، إضافة إلى وجود صراع خفي داخل أسرة المنصور نفسها تمثل باغتيالات طالت ابنه الخليفة محمد المهدي الذي قتل مسموما ، والخليفة موسى الهادي الذي اغتيل على يد أمه الخيزران بنت عطاء ، والتي أمرت إحدى جواريها بخنقه وهو نائم ، لأنه أراد تحويل ولاية العهد لابنه جعفر وخلع أخيه هارون الرشيد ... في ظل هذه الظروف المضطربة عاش الإمام موسى الكاظم في مدينة جده رسول الله (ص) ، محاولا إبعاد نفسه عن كل ما يحول بينه وبين التصدي لمهمة نشر علوم أهل البيت كونه إمام زمانه، والقيام بصلواته ونسكه .. لكن بالرغم من ذلك فقد بقيت أنظار السلطة العباسية ترنو إليه خوفا من أي تحرك يبديه اتجاه كرسي الخلافة ، كونهم يدركون جيدا انه أحق الناس به .. كما يروي ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية الجزء السابع) .. (إن هارون الرشيد حج فلما دخل ليسلم على قبر رسول الله (ص) وكان معه الإمام موسى الكاظم (ع) ، فقال الخليفة السلام عليك يا ابن عم ، فقال الإمام الكاظم السلام عليك يا أبت .. عندها قال هارون الرشيد وهذا هو الفخر يا أبا الحسن ).. ويعتقد ابن كثير إن هذه الحادثة هي السبب التي جعلت الرشيد يضمر العداوة للإمام الكاظم (ع) ويقوم بسجنه ثم قتله .. وقد شكل الإمام هاجسا للخوف لخلفاء بني العباس منذ توليه مهام الإمامة عندما كان في ريعان الشباب ولم يتجاوز عمره العشرين عام ، بعد وفاة أبيه الإمام الصادق (ع) سنة 148 هجرية ، حيث يروى إن أول من سعى إلى سجنه ومحاولة قتله هو الخليفة المهدي ، الذي استدعاه إلى بغداد واجبره على الإقامة فيها ليبقى تحت أنظاره ، وفي رواية أخرى ، حبسه لفترة إلى أن رأى علي بن أبي طالب (ع) في المنام يعاتبه فأطلق سراحه وأعاده إلى المدينة .. ومن يتتبع هذه الإحداث يجد إن إخفاء الإمام الصادق خبر إمامة موسى الكاظم ، إلا على خاصته كانت تنبع من مخاوف حقيقية كان يدركها ويعيها جيدا حول مستقبل ومصير ولده وحفاظا عليه من بطش السلطة العباسية إذا ما علمت بإمامته بعد أبيه .. وقد شكل هذا التكتم نوع من الالتباس عند بعض الشيعة وجهلهم في معرفة من هو الإمام بعد وفاة الصادق (ع) .. وانقسموا إلى عدة فرق كما جاء في كتاب (الملل والنحل ) للشهرستاني ..
فظهرت فرقة تدعى الإسماعيلية تؤمن بان الإمامة قد انتقلت إلى إسماعيل ابن الإمام الصادق ، وفرقة أخرى سمو بالواقفة والذين توقفت عندهم الإمامة بموت الصادق (ع) .. وهم أتباع عجلان بن ناووس ، وادعوا إن الإمام لم يمت وهو مهدي هذه الأمة .. وفريق آخر عرفوا الافطحية نسبة إلى عبد الله الافطح اكبر ولد الإمام الصادق ، غير إن الإمام الكاظم قد اجتمعت على إمامته وجوه الشيعة ، وهم هشام بن سالم وهشام بن الحكم ومؤمن الطاق محمد بن علي ابن النعمان البجلي ، وهؤلاء هم أعيان وفقهاء الشيعة في زمانهم .. وقد روى الشيخ المفيد في كتابه (الإرشاد) .. عن عبد الأعلى بن الفيض قال (قلت لأبي عبد الله الصادق (ع) .. من لنا بعدك؟ .. قال فدخل أبا إبراهيم موسى الكاظم وهو يومئذ غلام فقال هذا صاحبكم فتمسك به ) وكذلك روى الكليني في كتابه (الكافي) عن صفوان الجمال عن الإمام الصادق قال له منصور بن حازم سائلا (بابي أنت وأمي إن الأنفس ليغدى عليها ويراح فإذا كان ذلك فمن .. فقال الإمام الصادق إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب بيده على منكب أبي الحسن موسى الكاظم وهو يومها ابن خمس سنين ) .. وقد أحيط الإمام موسى الكاظم برعاية استثنائية من أبيه الإمام الصادق منذ ولادته في الابواء سنة 128 هجرية .. ويذكر عبد الله الشيرازي في كتابه (الإتحاف بحب الأشراف) إن الإمام الصادق قال .. (وددت أن ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبي احد) .. وكانت أمه من البربر من شمال إفريقيا وهي (حميدة بنت صاعد ) الذي كان من أشراف البربر ، وهي جارية اشتراها الإمام الصادق (ع) وتزوجها وقد قال فيها .. (حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب ) .. وكان لهذا النسب الطاهر والنشأة العظيمة في أحضان الإمام الصادق(ع) ، صاحب أول مدرسة للفقه والحديث في الإسلام والتي أقامها في مسجد رسول الله (ص) ، والتي خرجت مئات العلماء والفقهاء والمحدثين ، أن يكون لها الأثر الأكبر في بلورة شخصيته وصقلها ، فنشئ عالما عابدا زاهدا كريما كاظما للغيظ حتى لقب (راهب أهل البيت) .. يقول فيه ابن عنبة صاحب كتاب (عمدة الطالب في انساب أبي طالب) .. (كان اسود اللون عظيم الفعل ،رابط الجأش، واسع العطاء ، لقب بالكاظم لكظمه الغيظ وحلمه ، وكان يخرج في الليل وفي كمه صرر من دراهم فيعطي من لقيه ومن أراد بره ، وكان يضرب المثل بصرة موسى الكاظم وكان أهله يقولون عجبا لمن جاءته صرة موسى فشكا القلة) .. وقال فيه ابن كثير (كان كثير العبادة والمروءة إذا بلغة أحدا انه يؤذيه أرسل له بالذهب والتحف) .. وأما ابن حجر الهيثمي فقال فيه .. (هو وارث أبيه علما ومعرفة وكمالا وفضلا ، سمي بالكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه وكان معروفا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله ، وكان اعبد أهل زمانه وأعلمهم واسخاهم) .. وعرف عن الإمام الكاظم (ع) بأنه أول من كتب في الفقه كما يقول محمد يوسف في كتابه (الفقه الإسلامي) .. (نستطيع أن نقول إن أول من كتب في الفقه هو الإمام موسى الكاظم الذي مات سجينا عام 183 هجرية وكان ما كتبه إجابات عن مسائل وجهت إليه تحت اسم الحلال والحرام ) .. .وقد روى عن الإمام جملة من المحدثين والرواة منهم الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد) ، والعلامة السمعاني في كتابه ( الرسالة القوامية) والثعلبي في (الكشف والبيان) .. وكان الإمام احمد إمام الحنابلة يقول إذا روى عنه (حدثني موسى بن جعفر عن أبيه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه السجاد عن الحسين بن علي عن أبيه عن رسول الله وهذا إسناد لو قرئ على مجنون لأفاق) .. إن سعة العلم هذه وزهده ونسبه الشريف وكرمه وعبادته المنقطعة النظير ، جعلته يشكل خطرا على الخلافة العباسية التي كانت تعيش هاجس السلطة والملك بقول هارون لأبنه المأمون بأن (الملك عقيم ولو نافستني فيه لأخذت الذي فيه عينيك) ..
كل هذه الأسباب جعلت هارون العباسي يتحين الفرص للنيل من الإمام .. وقد عزا ابن حجر الهيثمي سبب سجنه من قبل الرشيد ، إلى أن الرشيد لما حج سعى به إليه وقيل له .. إن الأموال تحمل إليه من كل جانب فقبض عليه وأنفذه لأمير البصرة عيسى بن جعفر ، ثم كتب والي البصرة يستعفي الرشيد فيه وان لم يرسل لتسليمه أخلا سبيله ، فكتب هارون للسندي بن شاهك بتسلمه وأمره فيه بأمر فجعل له سما في رطب فتوعك ومات بعد ثلاثة أيام .. وفي سجنه بعث الإمام رسالة إلى هارون قال فيها .. (أما بعد انه لم ينقض علي يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء حتى يفضي بنا إلى يوم يخسر فيه المبطلون) .. وقد قضى الإمام (ع) .. في أشهر الروايات ثلاثة عشر سنة في سجن الرشيد ، وعند استشهاده مسموما شهد على جثته أعيان القوم ، وألقيت على جسر بغداد ، كما ذكر أبو فرج الأصفهاني في كتابه (مقاتل الطالبيين) .. (إن الإمام موسى الكاظم (ع) لما توفي مسموما ادخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره ليشهدوا على انه مات حتف انفه دون فعل الرشيد وجلاوزته ، ولما شهدوا بذلك اخرج جثمانه ووضع على جسر بغداد ونودي بوفاته) .. وقد أجمعت الروايات التاريخية على انه توفي في الخامس والعشرون من رجب سنة 183 هجرية ، ودفن في جانب الكرخ من بغداد في مقابر قريش .. إن هذا السفر الخالد من الصبر والزهد والعطاء الذي قدمه الإمام موسى الكاظم (ع) في سبيل الله والإنسانية ، هو الذي يدفع بملايين المحبين الزاحفين إلى مشهده المبارك سيرا على الأقدام لإحياء ذكرى استشهاده وإعلان مظلوميته إلى العالم ، والتي هي عنوان عريض وكبير لكل مضطهديه ومظلوميه على مر العصور والأزمنة ، وان الطامورة الظلماء التي شهدت محنته وغربته ، استحالت إلى صرح خالد عظيم يحج إليه الناس من كل حدب وصوب ليكون شاهدا على سمو ورفعة أهل هذا البيت وعلو شأنهم عند الله تعالى .


منقول