عصفورين وقصة 150 عاماً غامضة في تاريخ البحرين والظروف الطبيعية بالبحرين مستقرة للقبائل الراحلة من البوادي البيئة البحرية بجزر أوال ولدت طبقة من السكان لها ثقلها في الحياة الاقتصادية
توطئة في السمات العامة لبلاد البحرين استقرار بني عامر في البحرين علاقة بني عامر بقرامطة البحرين ونشاطهم في هذه الفترة
علاقة بني عامر بالعيونيين
قيام إمارة العصفوريين العامرية
علاقة إمارة العصفوريين بالسلغريين (اتابكة فارس)
علاقة إمارة العصفوريين بمماليك مصر ومغول العراق وإيران
علاقة العصفوريين بالطيبيين حكام فارس وجزيرة قيس
علاقة العصفوريين بمملكة هرموز
نهاية الإمارة العصفورية
البيئة البحرية بجزر أوال ولدت طبقة من السكان لها ثقلها في الحياة الاقتصادية
إن ما يثير دهشة وحيرة المتتبع لتاريخ شبة الجزيرة العربية ذلك الغموض الذي يكتنف حقبة من تاريخ المنطقة الممتدة من كاظمة شمالاً لتنتهي جنوباً بعمان الشمالي ويدخل ضمن ذلك سلسلة من الجزر الواطئة والواقعة في الخليج العربي والمجاورة للساحل والمحاطة ببحر ضحل مملوء بالحواجز الرملية وقد استقرت في قاعة أشهر مغاصات اللؤلؤ الطبيعي في العالم من حيث الجودة والإنتاج ، وأكبرها حجماً وأوسعها شهرة جزيرة أوال (البحرين) .
أما النهايات الغربية لهذه الرقعة الجغرافية ، المعنية بالبحث فتتصل باليمامة ، اتفق البلدانيون العرب الأوائل على إطلاق اسم بلاد البحرين على هذه الرقعة ، وهي بهذا الاتساع والامتداد تشمل في الوقت الحاضر دول شرق الجزيرة العربية كافة ، ابتداء بالكويت وانتهاء بعمان الشمالي ، فتاريخ بلاد البحرين هو في الواقع يشكل جزءا رئيسياً وهاماً من تاريخ دول شرق الجزيرة العربية كافة .
إن هذا الاتساع والامتداد لبلاد البحرين وعدم وجود موانع طبيعية تفصلها عما يحيط بها ويجاورها ويصعب اجتيازها ، قد أدى إلي ارتباط تاريخها ارتباطاً عضوياً ووثيقاً بتلك المناطق عبر العصور المختلفة. وهذه الحقيقة تستلزم من الباحث المدقق الذي يحاول التصدي لإماطة اللثام عن الغموض الذي يكتنف تاريخ شرق الجزيرة العربية خصوصاً وتاريخ الخليج العربي عموماً بأن لا يكتفي بمصادر وأحداث المنطقة وحدها بل عليه أن يجول بناظريه نحو المناطق المجاورة ليستوعب أحداثها وينقب في مصادرها الخاصة والعامة .
والواقع فإن منطقة الخليج العربي ليس اصطلاحاً جغرافياً يدل على رقعة محدودة من سطح الأرض فحسب وإنما يشير كذلك إلي لون معين من الحياة ، فهي تغري الباحث في التاريخ الحضاري بدراستها كمنطقة متحدة داخلياً إذ أنه بالرغم من المؤثرات الخارجية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعرضت لها عبر العصور فإنها كانت بوتقة انصهرت فيها هذه المؤثرات المتنوعة وبقيت تمتلك وحدتها الداخلية في البناء والتنظيم، فموجات الهجرات البشرية المتبادلة بين سواحلها من جهة، وكذلك فيما بينها وبين السواحل المحيطة بالبحار العربية والتي كانت تجري تحت ضغط الظروف الطبيعية والحاجات البشرية المتبادلة هي من عوامل وحدتها وبالرغم من وجود المغريات لدراسة الخليج العربي كوحدة فان هناك اعتبارات اجتماعية وتاريخية وسياسية تدعو الباحث لإبراز خصوصيات الدول الذي لعبه كل جزء من أجزائها عبر مختلف العصور وبشكل متميز .
إن بحثنا هذا ما هو في الواقع إلا الحلقة الأولى من سلسة دراسات تتناول تاريخ الخليج العربي في العصر الوسيط والحديث ، وسوف يكرس لإبراز الصورة المميزة لتاريخ بلاد البحرين للفترة الممتدة منذ مطلع القرن الحادي عشر حتى مطلع القرن السادس عشر ، وهي من أشد فترات المنطقة غموضاً الأمر الذي حمل الباحث النجدي سليمان الدخيل على القول بأنه يشكل على المؤرخين الوقوف على حوادثها ووقائعها في أوقاتها. ومع بروز الأهمية الإقليمية والدولية لمنطقة الخليج العربي في عصرنا الحاضر وظهور الكيانات السياسية المستقلة فيها، ازداد الاهتمام بتاريخ المنطقة وأخذت تظهر دراسات عديدة وبلغات مختلفة إلا أن الباحثين قد أحجموا حتى الآن عن ارتياد هذه الفترة أو أنهم مروا بها مروراً عابراً لسبب رئيسي هو قلة مصادرها إن لم تكن ندرتها ولإدراكهم أيضا مدى الجهد المضني الذي يحتاجونه لجمع شتات المادة المتناثرة هنا وهناك والتقاط الإشارات من المصادر النادرة وبلغات متعددة .ولقد عبر الأستاذ أبو حاكمه عن أسفه لعزوف الباحثين عن محاولة الكشف عن تاريخ الخليج العربي خلال العصور السابقة لعصرنا هذا ووصف دراستهم التي ظهرت حتى الآن بأنها دراسات عصرية لا تتجاوز ((عصر النفط)) إلا قليلاً . إن هذه الفجوة في معلوماتنا عن تاريخ الخليج العربي تشكل نقطة ضعف كثيراً ما استغلت للتشكيك بالهوية القومية والتاريخية للسواحل العربية ولترديد ادعاءات سياسية وقومية فيها، كما رسمت صورة تاريخية للمنطقة بنيت أساساً على تجاهل دور العرب في صنع أحداثها لكي ينسجم ذلك ومثل هذه الادعاءات وعلى الرغم من أن مثل هذه الادعاءات قد خفت إلي حد كبير فان أثارها الثقافية لا تزال باقية ، الأمر الذي يستلزم التصدي لموضوعية لرسم صورة أقرب إلي وقائع التاريخ للتجاوز الصورة المنحازة التي رسمت لتاريخها .
توطئة في السمات العامة لبلاد البحرين
قبل التطرق لتاريخ بلاد البحرين خلال الفترة المنوه عنها سابقاً، يستحسن أن نشير ولو إشارة موجزة جداً إلي المظاهر العامة لبيئتها الطبيعية والتي أثرت أعمق الأثر في حياتها وطبعت تاريخها السياسي و الاجتماعي والاقتصادي بطابعها، وأول هذه المظاهر سعة رقعتها الزراعية بالمقارنة مع كثير من مناطق جزيرة العرب، حيث تتوفر فيها المياه الغزيرة والعيون التي تجري مياهها على سطح الأرض .
إضافة إلي قرب مياهها الباطنية من سطح الأرض، وهذا العامل ساعد على امتداد الرقعة الزراعية فيها والتي كانت في العصور الماضية أكثر اتساعا مما هي عليه اليوم، ويستدل على ذلك أولا من كثرة أسماء القرى والمستوطنات المأهولة بالسكان والتي أورد ذكرها البلدانيون العرب .إلا أن كثيراً منها قد اختفى من خارطة الإقليم في الوقت الحاضر، وثانياً أن الأبحاث الحديثة قد أيدت أيضاً اتساع الرقعة الزراعية في الماضي . لقد وفرت هذه الظروف الطبيعية المستلزمات الضرورية لقيام حياة مستقرة تعتمد على الفعاليات الزراعية وسد الطلب على المنتجات الزراعية لكل من سكان البوادي وأسواق الخليج العربي ، بل وتصدير ما يفيض عن ذلك وخصوصاً التمور إلي السواحل المطلة على البحار العربية والمحيط الهندي .
إن هذه البيئة الزراعية قد فرضت وجود نشاط اقتصادي ذي أوجه متعددة وقيام علاقات إنتاجية وتركيب اجتماعي في المنطقة يختلف في كثير من خصائصه عما حوله من بوادي . ففي مثل هذه البيئة يفترض سعي سكانها لإقامة سلطة تعمل على توفير الأمن والنظام وحمايتهم من خطر سكان البوادي المتربصين دائماً بالمنطقة، وكذلك الإشراف على توزيع المياه وحماية مصادرها من الاندثار وتنظيم العلاقة بين المستثمرين والمنتجين وأوجه النشاطات الاقتصادية الأخرى، وكل ما ينشأ عنها من علاقات اجتماعية وقانونية، الأمر الذي يستلزم وجود أجهزة متخصصة وقوه رادعه. إن السلطة التي تقوم في مناطق الاستقرار من بلاد البحرين سوف يكون من أهدافها الإستراتيجية الثابتة التطلع لتحقيق صلة وثيقة بالبيئتين المجاورتين. وأن تسعى لإقامة هذه الصلة إما بطريق الإخضاع المباشر أو بإقامة التحالفات القائمة على أساس المنافع المشتركة .
وكثيراً ما ينشأ عن ذلك حرب مع سكان هاتين البيئتين. إن نجاحهما في ذلك سوف يحقق ربط طرق التجارة البحرية بطريق التجارة البرية ، الأمر الذي ينتج عنها نفع اقتصادي كبير لمناطق الأرياف ويحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي فيها والنقطة الأخيرة والجديرة بالإشارة هنا هي أن سكان المناطق الزراعية نظراً لارتباطهم بالأرض وبالملكيات الثابتة هم أطوع للحكام وأسهل خضوعاً للسلطة بل واستغلالاً من قبلها ومن قبل طبقة الملاكين ، وهذا على عكس الحال في البيئتين المجاورتين البحرية والصحراوية .
أما المظهر الثاني لبلاد البحرين فهو البيئة البحرية، إذ أن طول سواحلها الممتدة على الخليج العربي وكثرة تعاريجها أدى لأن يلعب سكانها دوراً مؤثراً في كافة أوجه النشاط التي تحدث في المنطقة كما أنها اصطبحت من المناطق التي تستقبل التأثيرات من خارج حدودها عن طريق سواحلها وجزرها. ونظراً لكون المناخ والبيئة الصحراوية هي السائدة في بلاد البحرين فان الأمر قد أدى لأن تصبح بيئة طاردة لسكانها نحو البيئة البحرية المجاورة والتي هي أكثر غني وضماناً فيما تغله من ثروة سميكة في مياهها ومن لؤلؤ في أعماقها ومن فرص للربح في النشاط التجاري مع الخارج، ومما هو جدير بالذكر هنا أن النشاط الاقتصادي لسكان السواحل والجزر في حرفتي صيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ يتزامن مع النشاط الاقتصادي لسكان الأرياف في بلاد البحرين في جني محصول التمر. على أن هناك وجه شبه بين حياة سكان البيئة البحرية والبيئة الصحراوية فإذا كان البدو ينتقلون مع قطعانهم من مكان إلي أخر طلباً للماء والكلأ فان عرب السواحل والجزر ينقلون هم أيضا من مكان إلي أخر عندما تضطرهم الظروف إلي ذلك ووسيلتهم هي سفنهم التي يحملون فيها أهم ممتلكاتهم . فالسفينة لديهم كوسيلة للحياة في عالم البحار تحتل نفس الأهمية التي تحتلها الإبل لدى البدو . فإن كانت الطبيعة قد سخت على عرب البادية بهذا الحيوان العجيب الذي أطلق عليه جوازا بسفينة الصحراء، فإن المعارف البحرية المتميزة لعرب السواحل قد هدتهم لصنع السفن الشراعية وتطويرها بما يتناسب وحاجاتهم في النشاط البحري فطبعوها بطباعهم وحققت لهم بذلك امتدادا جغرافياً وبشرياً وحضارياً يفوق كثيراً رقعتهم الجغرافية، فكانت استجابتهم لتحدي الطبيعة البحرية استجابة مناسبة جداً تنم عن عبقرية فذة بالمقاييس الحضارية لعصرهم فأكسبتهم بذلك تفوقاً متميزاً في النشاط البحري ولقرون طويلة جداً .
إن البيئة البحرية لبلاد البحرين قد ولدت طبقة من السكان لها ثقلها في الحياة الاقتصادية والسياسية ، لا يجوز للباحث في تاريخ المنطقة إغفالها كما أنها أفرزت زعامات تعتمد في مراكزها على قوتها الاقتصادية الناتجة عن سيطرتهم على قطاعات واسعة وهامة من النشاط الاقتصادي وهؤلاء هم تجار اللؤلؤ وأصحاب السفن ويسندهم عدد كبير من الأتباع الذين يدينون لهم بالولاء نتيجة لتبعيتهم الاقتصادية لهذه الزعامات وهؤلاء صيادو الأسماك واللؤلؤ والعاملون في السفن التجارية .
إن هذه القوة المنتجة اقتصادياً تشكل في الواقع قوة عسكرية احتياطية كثيرا مازجها هؤلاء الزعماء في صراعاتهم السياسية. فكثير من الأحداث التاريخية التي مرت بها منطقة الخليج عبر عصورها المختلفة لا يمكن فهمها فهما سليما من دون الانتباه إلي الدور الذي لعبته هذه القوى في صنع الأحداث في المنطقة.
أما المظهر الثالث والأخير للبيئة الطبيعية لبلاد البحرين والتي لها التأثير الأعمق فهي البيئة الصحراوية السائدة في الإقليم والتي فرضت نمطاً من الحياة الاجتماعية، هي الحياة القبلية والتي طبعت التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمنطقة بطباعها حتى العصر الحديث، مما حدا بأحد المتخصصين بمنطقة الخليج العربي إلي القول بأن من الخطأ أن نعزو الخلافات حول الحدود في شرق الجزيرة العربية إلي سبب رئيسي هو اكتشاف النفط بل يجب الانتباه إلي عامل أخر لا يقل عنه خطورة يسبق اكتشاف النفط إلا وهو الطبيعة القبلية للمجتمع العربي في المنطقة وما يتمسك به من مفاهيم حول حدود السيادة الإقليمية والمستمدة من تراثه القبلي .
إن الظاهرة الرئيسية للبيئة الصحراوية هي فقرها وعجزها عن سد احتياجات سكانها خصوصاً عندما تتزايد أعدادهم ويحدق نقص خطير في مراعي القبائل لذل فهي بيئة طاردة نحو المناطق الأكثر غنى من بلاد البحرين وهي البيئة البحرية والزراعية الأمر الذي يعرض هاتين المنطقتين دائماً لضغط سكان البادية وتوغلهم فيها ويزداد توغلهم كلما أحسوا بضعف السلطة السياسية في هاتين المنطقتين، ويميل قسم منهم إلى الاستقرار ولقد أوضحت دراسة بارث عن البداوة أن الذين يميلون إلي الاستقرار من بين البدو هم الأكثر غنى وكذلك فقرا .
على أن الأفراد الذين لهم ثقلهم بين القبائل بالرغم من استقرارهم وامتلاكهم الأراضي فإنهم يبقون على صلة بقبيلتهم ويحافظون على نفوذهم فيها، وهم بذلك يشكلون همزة وصل ما بين البدو والسكان المستقرين وما بين القبيلة مناطق الاستقرار، وربما يكون استقرار بعض زعماء القبائل بتشجيع من السلطة القائمة في المدن. واستقرار هؤلاء هو في الواقع أضعاف لهذه السلطة لأنهم سوف يكونون جاهزين للعمل كوسطاء مع قبائلهم .
والنقطة الأخيرة التي يجب ذكرها هنا في العلاقة ما بين سكان البادية والسكان المستقرين هو أن عرب البادية في بلاد البحرين يسيطرون دائماً على طرق القوافل التجارية البرية والتي تبدأ عادة أو تنتهي بالموانئ الواقعة على ساحل الخليج العربي. لذا فهم كثيراً ما يحاولون السيطرة على هذه الموانئ التجارية ليمدوا منها سيطرتهم أيضا على الطرق البحرية فتقوم حالة من التعايش ما بين طرق القوافل البرية والطرق البحرية وما بين البدو الذي يسيطرون على الطرق البرية وسكان السواحل والجزر في الخليج العربي الذي يديرون الطرق البحرية .
من هذا ندرك أن القوى القبلية كانت تلعب أدوارا خطيرة كلما سمحت لها الظروف العامة بذلك.
والواقع فان التفاعل مابين البداوة والاستقرار ومابين القبيلة والدولة يمثل احد المظاهر الأساسية لتاريخ شرق الجزيرة العربية خصوصا وتاريخ الوطن العربي عموما. أن هذه السمات البارزة للبيئة في بلاد البحرين وما أفرزته من نتائج قد أوردناها توطئة تساعدنا على تفهم أكثر الوقائع التي سوف نتعرض إليها في الصفحات اللاحقة.
استقرار بني عامر في البحرين
يلاحظ الدارس لتاريخ الخلافة العباسية في فترة ضعفها أن القوى القبلية قد أخذت تلعب أدوارا سياسية رئيسية ضمن مناطق مختلفة من العراق والجزيرتين العربية والفراتية بحيث لا يملك للباحث تجاهلها .
وقد نجحت بعض هذه القوى القبلية في تكوين كيانات سياسية خاصة بها كالحمدانيين وبني عقيل وبني أسد والمنتفق وخفاجة، إلا أنه بظهور الوصاية السلجوقية على الخلافة العباسية أخذت هذه الكيانات تختفي من الخارطة السياسية الواحدة بعد الأخرى .
ومع نهاية القرن السادس للهجرة /الثاني عشر للميلاد ومطلع القرن السابع /الثالث عشر كانت خارطة القوى القبلية المؤثرة في الحياة السياسية قد تغيرت عما كانت عليه في السابق .
ويورد لنا القلقشندى (ت 828/1418) خارطة للتوزيع القبلي في حدود النصف الأول من القرن السابع الهجري / الثالث عشر للميلاد معتمداً فيما يورده من معلومات عن هذه القبائل في هذه الفترة وما بعدها على مؤلفين متأخرين لمعلوماتهم أهمية خاصة .
ومن ابرز هؤلاء ابن سعيد المغربي (685/1286) والحمداني المعروف بابن زماخ المتوفي في مطلع ق 8/14 ، وابن فضل الله العمري (ت 749/1348) وأخيرا ابن خلدون (ت 808/1405) والذي يهمنا من هذه المعلومات هو ما يتعلق منها ببلاد البحرين .
أن روايات هؤلاء جميعاً تكاد أن تتفق تمام الاتفاق على إن القبيلة التي كانت تمتلك زمام السلطة السياسية خلال القرنين السابع والثامن / الثالث عشر والرابع عشر في كل من البحرين واليمامة هي قبيلة بني عامر بن عقيل .
فمن هم بنو عامر وما هو دورهم في الأحداث قبل هذا التاريخ وبعده؟ للإجابة على هذا السؤال سوف نعود القهقري بضعة قرون إلي الوراء لنستعرض جوانب من تاريخ بلاد الوراء بما له من علاقة ببني عامر .
تجمع المصادر على أن بني عامر ينتسبون إلي بني عقيل بن كعب بن ربيعه بن عامر بن صعصعة من العدنانيين، وان بطون بني عقيل المشهورة هم بنو عبادة وبنو المنتفق وبنو خفاجة وبنو عامر .
وكان العراق وبلاد البحرين أحد المواطن الرئيسية التي استقرت بها هذه البطون، بعد أن غادرت موطنها في نجد ، وقد لعبت هذه البطون أدوارا مهمة في هذه الإقليمين وكثيرا ما أطلق اسم بني عقيل على بطن أو أكثر من هذه البطون ، الأمر الذي يثير بعض الأشكال للباحثين في التمييز بين الفرع والأصل وهذا ما يحدث كثيرا عندما يشار لبني عامر في البحرين ببني عقيل . ويبدو أن ذلك راجع إلي تجاورها في المسكن واختلاطها بعضها ببعض .
إن من الأجدى عند دراسة القبائل أن نميز ما بين الاتحادات القبلية وبين زعامة هذا الاتحاد إذ إن بعض العشائر والبطون والأفخاذ كثيراً ما ترتبط بهذا الاتحاد أو تنفصل عنه تحت ضغط الظروف السياسية والطبيعية والاجتماعية .
وفي الحقيقة فان اسم بطون بني عقيل قد ارتبط ببلاد البحرين منذ أن انتقلوا إليها من مواطنهم في أواخر القرن الثالث/التاسع على رأي رنز ، حيث عاشوا جنباً إلي جنب مع قبائل كثيرة مثل بكر بن أوائل وتميم وعبد القيس وبني سليم ، وكان ابرز هذه القبائل القبيلتين الأخيرتين .
أن ترتيب الأحداث يشير إلي أن بطون بني عقيل عندما غادرت مواطنها الأصلية في نجد استقرت في البحرين حيث كانت هذه البلاد تحكم من قبل القرامطة، أو أنهم انتقلوا إليها مع ظهور حركة القرامطة بعد أن تحالفوا معهم، فإبن الأثير يذكر في حوادث سنة 286/899 أن أبا سعيد الجنابي مؤسس دولة قرامطة البحرين قد لقى مؤازرة وتأييد هذه القبائل كذلك منها عقيل عامر، والي هذه المؤازرة يعود نجاحه . إما ابن خلدون فيروي انه عندما قامت فتنة القرامطة بالبحرين صار كل بني سليم والكثير من بني عقيل حلفاء وجنود لأبي طاهر سليمان ابن أبي سعيد الجنابي الذي خلف أباه في حكم قرامطة البحرين في حدود عام 303/915 – كما انه قال في موضع أخر بأن القرامطة كانوا يستنجدون بعرب البحرين على أعدائهم ويستعينون بهم في حروبهم .
والواقع أن هجمات قرامطة البحرين المتكررة على عمان وبلاد الشام وأرياف العراق خلال القسم الأكبر من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي يمكن اعتبارها من بعض الوجوه هجرات قبلية رافقها تسلل واستقرار بعض بطون بني عقيل في هذه المنطقة .
فالروايات المتواترة تشير إلي ظهور نشاط بني عقيل في حدود هذا التاريخ. فبنو خفاجة كانوا قد استقروا في خلال هذا القرن على إطراف الفرات الأوسط حيث تصاعد نشاطهم إلي درجة كبيرة في القرون اللاحقة . يضاف إلي ذلك ظهور نشاط المنتفق بجوار البصرة بقيادة زعيمهم الأصفر اعتبارا من عام 378 ، إما بنو عباده وبنو مالك من بطون عقيل في الموصل والجزيرة في حدود عام 380/990 إلي هذا الفرعين بعد أن استطاعوا انتزاع هذه المناطق من أسرة بني حمدان من قبيلة بني تغلب إلا انه بعد القضاء على دولتهم في الموصل عام 489/1096 عادت هذه البطون أو على الأقل الغالبية العظمى منهم إلى جنوب العراق حيث استقروا ما بين البصرة وواسط والكوفة فعاشت عبادة متجاورة في المسكن مع بني المنتفق.
وبمتابعة النشاط القبلي الذي كان يرافق نشاط قرامطة البحرين نجد أن بني هلال بن عامر بن صعصعة وبني سليم قد استقر قسم منهما في بلاد الشام ضمن دائرة النفوذ القرمطي هناك . إلا انه بعد أن استطاع المعز لدين الله الفاطمي (341-365/953-75) انتزاع بلاد الشام من القرامطة ، قام بنقل أتباعهم من بني هلال وسليم وانزاهم ببلاد الصعيد .
أمام مصير القسم الأكبر من بني سليم في بلاد البحرين ، فانه بعد ضعف قرامطة البحرين وارتخاء قبضتهم على البلاد خلال القرن الخامس/الحادي عشر ، اتحدت عبد القيس مع بني عامر اد بطون عقيل ضد بني سليم وأخرجوهم من البحرين ومعهم قسم من بني المنتفق (الخلط) فغادروها إلي أفريقيا (تونس) .
إن ابن خلدون حينما يتابع نشاط بطون عقيل المختلفة، يمتاز عن القلقشندي بدقة نسبية في التميز بين هذه البطون فهو يذكر انه بعد نزوح سليم والمنتفق (الخلط) إلي أفريقيا بقيت في جهات بلاد البحرين سائر بني عقيل، إلي أن استطاع احد بطونهم وهم بنو عامر أخوة المنتفق أن يتغلبوا على بني أبي الحسين (العيونيون) وينتزعوا الملك منهم في بلاد البحرين وعمان .
بقي أن نضيف ملاحظة أخيرة إلي ماذكرة ابن خلدون من أن بني عامر يعيشون إلي الجنوب من البصرة إلي جوار أخوتهم المنتفق فانه قصد بذلك بأن مساكنهم تمتد من جنوب البصرة حتى البحرين ، وقد استندنا في ذلك إلي ما أورده سابقا من نصوص والي ما سوف نورده حول مواطن بني عامر . كما انه من الممكن أن نشير إلى عدم وجود تعارض بين ما ذكره ابن خلدون هنا من أن مواطن المنتفق في البصرة هي إلي جوار بني عامر وبين ما ذكره في موضع أخر من أن بني المنتفق قد انتقلوا أفريقيا (تونس) وعرفوا هناك بالخلط . إذ أن ابن خلدون قد قصد بذلك إلي أن قسما من المنتفق قد انتقل إلي أفريقيا أما القسم الأكبر فقد استقر بجهات البصرة وقد بقوا في هذه الأماكن دون تغيير كبير حتى العصور الحديثة .
والواقع أن بطون بني عقيل وعلى وجه التخصيص المنتفق وعامر واللذان امتدت ديارهما من البصرة حتى اليمامة وعمان كانوا متداخلين فيما بينهم وكان طبيعياً أن تقوم بينهم صلات التعاون والتناحر على حد سواء .
أن هذا التقارب في الأصل والموطن هو الذي حمل البعض على أن يطلق اسم احد البطون على الأخرى أو أن يستعمل اسما جامعا لكافة هذه الفروع في هاذ الامتداد الجغرافي والقبلي المتصل وهذا ما عبر عنه ابن فضل الله العمري في القرن الثامن الرابع عشر حينما قال بان عرب عقيل وبطونها من عامر والمنتفق وغيرهما يعبر عنهما بعرب البحرين .
علاقة بني عامر بقرامطة البحرين ونشاطهم في هذه الفترة
إن استعراضنا لنشاط بني عامر في هذه الفترة سوف يكون من أهدافه الأولى تأكيد وجود الصلة الوثيقة التي كانت تربطهم ببلاد البحرين ثم إضعاف أن لم يكن نفى الفكرة القائلة بأن ظهورهم فيها ونشاطهم كان مرتبطاً اشد الارتباط بسقوط دولة بني عقيل في الموصل والجزيرة عام 489/1096 إذ أن الأحداث التي سوف نوردها ولعب فيها بنود عام دوراً رئيسيا قد وقعت قبل تاريخ سقوط دولة بني عقيل. على أننا لا نستطيع أن نقطع بعدم وجود صلة بين تصاعد قوتهم وعودة بطون بني عقيل من جهات الموصل إلي جهات البصرة .
لقد سبقت الإشارة إلي ما رواه كل من ابن الأثير وابن خلدون عن قيام تحالف بين قرامطة البحرين وبعض القبائل، والتي كان من بينها بنو عقيل ، وغني عن القول بأن هذا التحالف لا يقتضي بالضرورة وجود اتفاق تام في الأهداف والمبادئ بين الطرفين إذ ليس هناك ما يشير إلي أن هذه قد تقبلت معتقدات القرامطة، كما انه ليس هناك من دليل على أن الزعامة القرمطية كانت تقيم تحالفاتها على أسس عقائدية دائما، بل أنه من المؤكد أن مثل هذه التحالفات قد قامت نظرا لوجود نقاط التقاء سياسية واقتصادية وعسكرية بين الطرفين . إن إقليمي البحرين واليمامة هما من الأقاليم التي تكررت فيها الحركات الخارجة على السلطة المركزية في بغداد قبل ظهور القرامطة، وأن البعض من هذه الحركات كان ذا أهداف وبمادىء سياسية ودينية معينة ، وقد ساهمت بعض قبائل هذه الأقاليم في هذه الحركات خصوصاً قبائل عبد القيس . وبالرغم من فشل هذه الحركات إلا أنها بالتأكيد قد تركت أثارا في نفس وعقول السكان وان اقل ما يمكن أن يقال في ظاهرة التمردات المتعددة في هذه المناطق هو وجود الكراهية للسلطة المركزية وزادها كرها الحملات العسكرية التي جردت ضدها وما يرافقها عادة من تنكيل وبطش ، الأمر الذي جعل السكان على استعداد لتأييد كل خروج على هذه السلطة كلما أتيحت لهم الفرصة لذلك. وفي تقديرنا أن العامل الرئيسي الذي يدفع القبائل للتعاون مع الخارجين على السلطة المركزية هو حالة الفقر المدقع التي يعيشها أفرادها نظرا لفقر بيئتهم وعجزها عن سد متطلباتهم وما ينشأ عن هذه البيئة من قيم بدوية ومفاهيم سياسية يتساءل أمامها أي وازع حتى الوازع الديني لذا فهم ينظرون إلي سكان المناطق الحضرية نظرة فيها الكثير من الازدراء والحق ، لما يتمتع به هؤلاء من رفاء نسبي في العيش مقارنة بحياتهم البائسة. كما أنهم ينظرون إلي المناطق الحضرية على أنها المجال الحيوي لنشاطهم ولسد احتياجاتهم المادية، بصورة سليمة أو حربية، فعيشهم في أطراف سيوفهم كلما اضطروا إلي ذلك.
ومن هنا كان التقاء هذه القبائل التي تغلب عليها البداوة في عيشها أو في قيمها مع الزعامة القرمطية التي قد تتيح لهم فرصة للكسب. أما القرامطة فقد كانوا يرون بالتأكيد في هذه القبائل القوة العسكرية الأساسية التي يمكن بواسطتها تحقيق أهدافهم أو بعضها دون أن تكلفهم أعباء مالية باهظة فهاجموا بواسطتها مناطق واسعة من الهلال الخصيب ومصر والجزيرة العربية وتحقيق للطرفين فوائد مادية وسياسية واضحة، على أنه يجب أن نستدرك فنقول انه لا يمكن أن نتوقع أن تسير العلاقة بين هذين الطرفين بشكل متوافق ولمدة طويلة .
إذ لا بد أن تثور المنازعات فيما بينهم لسبب أو لآخر وقد ألمح ابن خلدون إلي ذلك حيث قال : كان القرامطة يستعينون بعرب البحرين في حروبهم وربما يحاربونهم ويقاطعونهم في بعض الأوقات وكلما ظهرت بوادر ضعف السلطة تزايدت هذه التمردات ، وإذ كنا قد اشرنا فيما سبق إلي اضطرار بعض القبائل المتحالفة مع القرامطة لعدم توفر الدليل الواضح الذي يؤثر ذلك إلا إننا نملك بعض الأمثلة الواضحة على خروج بعض حلفاء القرامطة عليهم خصوصاً في فترة ضعفهم وارتخاء قبضتهم على البلاد حيث أصبحوا تحت رحمة حلفائهم .
إن ما يعنينا هنا من هؤلاء الحلفاء هم بنو عامر ومن يمت إليهم بصلة نسب قريب ونتابع هذا النشاط حتى نجاحهم في الاستيلاء على السلطة في بلاد البحرين .
يقول ابن الأثير انه في سنة 378/988-89 قام زعيم المنتفق المعروف بالأصفر (ويرد تارة باسم الاصيفر) – وهو لقب له فيما يبدو وليس باسمه الحقيقي – بحشد جموع كثيرة وحارب القرامطة وانتصر عليهم وأوقع بهم خسائر كبيرة ثم حاصرهم بالاحساء حيث تحصنوا ، فلما امتنعت عليه زحف إلي القطيف فاكتسحها واخذ ما فيها من عبيد وأموال تعود للقرامطة ثم انسحب إلي البصرة .
إن ابن الأثير لم يعطنا أيه تفاصيل عن الموضع الذي تحرك منه الأصفر، فلا نعلم أكانت البصرة هي المكان الذي تحرك منه واليه عاد أم أن ذهابه إلي حدود البصرة كان خشية من أن ينتقم منه؟ ومهما يكن من أمر فان زعيم المنتفق كان يقوم بنشاطه في مناطق يعتبرها القرامطة واقعة تحت نفوذهم . والدليل على ذلك انه عندما قام معز الدولة ومعه الخليفة المطيع بالله بالزحف على البصرة عام 336/947-48 لانتزاعها من أبي القاسم البريدي وسلكوا إليها طريق الصحراء احتج قرامطة البحرين على ذلك معتبرين هذا العمل خرقاً لحرمة أراضيهم التي لا يمكن سلوكها بدون أذنهم وقد دفعهم هذا الانتهاك لأراضيهم للانتقام بالتعاون مع ابن الوجيه صاحب عمان في الهجوم على البصرة عام 341/952-53 . فزعيم المنتفق الأصفر كان نشاطه مستمراً في هذه البادية ما بين البصرة والبحرين حتى وفاته ، يعترض طريق الحاج ويرغم البويهيين على أن يدفعوا له مبالغ معينة لقاء عدم تعرضه للحاج ، ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه الأعمال كانت في السابق موكولة للقرامطة .
وان بروز نفوذ المنتفق في هذه الفترة وفي بادية البصرة دليل واضح على انكماش نفوذ القرامطة .
أما الرحالة الشهير ناصر خسروا فانه يذكر لنا انه خلال وجوده في الاحساء عام 443/1051 شاهد أميرا عربياً يحاصرها وانه قد مضى على حصاره لها سنة كاملة وقد قال له الأمير العربي انه يعتزم الاستيلاء على الاحساء لأن أهلها لا دين لهم . على أن الرحالة خسروا لم يذكر لنا اسم القبيلة المتمردة أو زعيم هذه القبيلة إلا أنها إشارة مهمة تدل أيضا على تداعي سلطة القرامطة وخروج بعض القبائل عليهم وأعقب هذه الأحداث بقليل قيام احد الأثرياء العرب في جزيرة البحرين الملقب بأبي البهلول واسمه العوام بن محمد بن يوسف الزجاج بالاستيلاء على جزيرة أوال (البحرين) عام 450/1068 ، ولقد سارع القرامطة بالاستعانة ببني عامر وبعض بطون عبد القيس ، إلا أن العوام انتصر عليهم في معركة بحرية وأعلن استقلاله في الجزيرة وولاءه للخليفة العباسي . ثم ثار على القرامطة بنو محارب أحد أقوى بطون عبد القيس بزعامة ابن عياش الذي انتزع القطيف منهم في العقد السادس من القرن الخامس / الحادي عشر ثم مد ابن عياش سيطرته على جزيرة أوال منتزعا إياها من العوام ومن المحتمل جدا أن بني عامر كانوا هم القوة الرئيسية إن لم تكن الوحيدة من بين حلفاء القرامطة التي بقيت إلي جانبهم حتى النهاية. أن دي غوية الذي كتب عن نهاية قرامطة البحرين معتمدا على الشروح والتعليقات الفنية لمخطوطة بومبي . ذلك بان بني عامر كانوا قد فرضوا على القرامطة أن يدفعوا لهم جزءا من حاصلات بلاد البحرين مقابل الحماية أو الخفارة ، والخفارة أو الحماية نظام كان معروف عند العرب قبل الإسلام بقرون عديدة وقد ظل موجودا حتى وقت قريب ، وهم يعتبرونه حقاً من حقوقهم وكان عدم الإقرار لهم بهذا الحق يعرض القوافل التجارية ومناطق الاستقرار لهجماتهم إن اعتراف القرامطة لبني عامر بهذا الحق هو موقف يبدو سليماً من جانبهم لأنه يخفف عنهم أعباء أمنية ومالية كبيرة ، ويؤمن سير القوافل التجارية مقابل نفقات قليلة تدفعها السلطة والتجار ، إلا أنه من الوجهة الثانية يعكس ضعف القرامطة وعجزهم عن القيام بهذا العبء أمام قوة بني عامر .
علاقة بني عامر بالعيونيين
لقد تلا الأحداث التي أشرنا إليها سابقاً والتي هي مؤشر على ضعف وتداعي قوة القرامطة قيام عبد الله بن على العيوني الذي ينتمي إلي عبد القيس بمحاولته الناجحة في إنهاء حكم القرامطة من بلاد البحرين مستعينا بسلطان السلاجقة أبي الفتح ملكشاه الذي أرسل له قوة كبيرة بقيادة أرتق بك ، فتم له انتزاع القطيف أولا من ابن عياش عام 467/1074 ثم تلا ذلك انتزاعه للاحساء من القرامطة في حدود عام 469/1076-1077 وأقام حكومة فيها تدين بالتبعية للخلافة العباسية في بغداد .
ومما هو جدير بالملاحظة أن بني عامر وقفوا إلي جانب القرامطة في محنتهم هذه فقاتلوا جنود العباسين كما قاتلوا جنود عبد الله بن على العيوني .
أن قيام سلطة العيونيين الجديدة في بلاد البحرين لم تمنع بني عامر من محاول فرض نفوذهم عليها ومطالبتهم بأن يدفعوا لهم مثلما كان يدفع لهم القرامطة ، لذا فقد شهروا سلاحهم ضد الأمير عبد الله بن على العيوني الذي كان قد قطع عنهم ما كان يدفعه لهم القرامطة من عوائد وجرايات إلا أن الأخير تصدي لهم بقوة وعنف وأوقع بهم هزيمة كبيرة وخسائر فادحة الأمر الذي اضطر قسماً منهم إلي اللجوء إلي قبيلة المنتفق بجواره البصرة .
على أن نشاط بني عامر لم يتضاءل أو يضعف بعد قيام حكم العيونيين واتجاه سلطة العيونيين نحو الانحدار التدريجي بل أننا نستطيع أن نقول إلا فترة قصيرة ثم أخذ يتزايد بشكل ملفت للنظر وبصورة طردية يتناسب أنهم كانوا أحد العوامل الرئيسية في أضعاف سلطة العيونيين وان ما سوف نورده من وقائع يؤيد ما ذهبنا إليه .
فابن الأثير يذكر في حوادث عام 483/1090 أن زعيم بني عامر قد قام على رأس عشرة الآف رجل بالزحف من الاحساء نحو البصرة ونهب المدينة نهباً شنيعاً وأحرق بعض مواضعها الأمر الذي حمل السلطة ببغداد على الإسراع في إرسال نجدات كبيرة لإنقاذ المدينة المنكوبة .
أن هذا الحادث يعكس لنا أن بني عامر قد اصبحوا سادة البادية ما بين البصرة وبلاد البحرين وهذا ما يؤيده أيضا وصف الشريف الإدريسي (ألف كتابه في حدود عام 548/1153) لبادية البحرين حيث قال .. ( ويتصل بالقطيف إلي ناحية البصرة بر متصل لا عمارة فيه ، أي ليس فيه حصن ولا مدينة وإنما به اخصاص القوم من العرب يسمون عامر ربيعه)
ومهما يكن من أمر فان أشعار ابن المقرب العيوني (ت في حدود عام 630/1232-23) طافحة بالإشارة إلي نشاط بني عامر والي الصدمات التي كانت تحدث فيما بينهم وبين الحكام العيونيين وكثيراً ما حاصروا واحات القطيف والاحساء تحت قيادة زعيمهم غفيلة (أو عقيلة) فقد كان بنو عامر يصرون على أن يدفع لهم العيونيون من الأموال مثلما كان القرامطة يدفعونه لهم .
إلي أن نجحوا في النهاية في أرغام العيونيين على الإقرار لهم بذلك . لذا فقد وصف ابن المقرب في إحدى قصائده بلاد البحرين بأنها أرض عامر لأنهم أهل البادية وأصحاب خفارتها .
أن خضوع الحكام العيونيين لمطالب بني عامر مؤشر واضح على عجزهم عن إخضاعهم بالقوة لذا فقد فضلوا اتباع سياسة الترضية معهم . وان ذلك يمكن أن يترجم على أن بني عامر قد أصبحوا يتحملون مسئولية حماية أرياف البحرين وقوافل التجار والحجاج مقابل مبالغ معينة يحصلونها من المزارعين والتجار والسلطة الحاكمة. الأمر الذي جعلهم على صلة مباشرة بهؤلاء جميعاً مما سوف يمكنهم في المستقبل من تطويرها إلي علاقات ذات طبيعة سياسية أيضا.
كما انه من الجهة الأخرى أصبح زعماء بني عامر في وضع مادي مكنهم من كسب ود زعماء القبائل الصغيرة عن طريق العطايا والهدايا لكي يعترف هؤلاء بزعامة بني عامر وعدم التعرض من جانبهم إلي طرق القوافل وكل ذلك كان يؤدي إلي تزايد الدور الذي يلعبه بنو عامر في حياة بلاد البحرين .
ولعل ما أورده كل من ابن الأثير وابن خلدون يعكس مدى تزايد قوة بني عامر في نهاية القرن السادس/الثاني عشر فقد ذكر بأنه في سنة 588/1192 قام بنو عامر بقيادة زعيمهم عميرة ( بن سنان بن عقيلة بن شبانه ) بمهاجمة البصرة ونهبها ، وعندما تقدمت قبيلتنا خفاجة والمنتفق لصدهم تمكنت عامر من هزيمتهم ، وقد تكرر هذا الهجوم عام 593/1196-97 . إن هذه الهجمات يمكن اعتبارها من بعض الوجوه مؤشرا على ضعف العيونيين الذين كان قد أوكل إليهم الخليفة الناصر لدين الله حماية أرياف البصرة وطريق الحاج .
لقد أشرنا فيما سبق عند الحديث عن سمات البيئة في بلاد البحرين إلي أن البدو يأخذون بالتغلغل التدريجي في مناطق الاستقرار في ظل ظروف معينة ، وكما أوضح كوبر فان أي شيء يضعف الحكومة في مناطق الاستقرار ينتج عنه تغلغل البداوة ومن بين الذين يستقرون منهم بعض أفراد الأسر التي تتزعم القبائل إلا أنهم يحافظون على صلتهم بقبائلهم ، وبحكم استقرارهم يكونون على صلة بالزعامات المؤثرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مناطق الاستقرار وبما يدور بينهم من منافسات وصراعات فينجرون إلي الاشتراك بها بطريقة أو أخرى مرتكزين في قوتهم على قبائلهم .
وتنطبق هذه الصورة بوضوح على بني عامر منذ النصف الثاني من القرن السادس خصوصا بعد أن أصبحوا يشكلون جزءا أساسيا من سكان البحرين ، وكانوا القوة التي ارتكز عليها الحكام العيونيون في المحافظة على مناطق الاستقرار وطرق القوافل من هجمات البدو .
ولقد ازداد ارتباط بني عامل بالأسرة العيونية الحاكمة بالبحرين وذلك عن طريق المصاهرة التي من الواضح أن دوافعها كانت سياسية ، فازداد اتصالهم بالحكام العيونيين واشتركوا في الصراعات التي كانت تدور فيما بينهم فكانوا يمنحون تأييدهم إلي هذا الحاكم أو ذلك بحسب مصالحهم . ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن بني عامر أخذت تظهر بين أفخاذهم زعامات متعددة وينتسب كل فخذ إلي زعيمة فهناك الشبانات نسبة إلي زعيمهم شبانة والقديمات نسبة إلي زعيمهم غفيلة أو عقيلة وكل فخذ أو أكثر كان يمنح ولاءه لزعيم من زعماء العيونيين المتقاسمين حكم البلاد .
إلا أنه من الواضح أن قوة بني عامر الرئيسية كانت تتركز في يد أسرة عميرة بن سنان بن غفيلة . فمصادرنا تشير إلي أن زعيم بني عامر راشد بن عميرة أخذ يلعب دوراً هاماً في الحياة السياسية ، فقد اشترك مع أحد أفراد الأسرة العيونية الطامح في السلطة المدعو غرير بن الحسن في اغتيال الحاكم العيوني محمد بن أبي الحسين مقابل حصول راشد على جميع أموال الحاكم الموجودة في القطيف وأوال بالإضافة إلي حصوله على عدد من السفن والدنانير التي سوف تدفع له سنوياً .
وقد تم تنفيذ المؤامرة وتولى غرير بن الحسن السلطة إلا أن الفضل ابن القتيل سارع إلى الاستعانة بخالة الحسين بن المقداد بن سنان زعيم أحد أفخاذ بني عامر . كما طلب الفضل المساعدة من الخليفة العباسي الناصر لدين الله (575/1180-622/1225) فأنجده بها . ولما نجح الفضل في استلام السلطة قرب إليه قسماً كبيرا من بني عامر الذي أخذوا يمارسون نفوذا كبيرا عليه، فمنحهم ما أرادوا بأن أقطعهم البساتين في أوال والعيون الجارية بما تسقيه من النخيل والأراضي وقسم عليهم جميع مناطق صيد الأسماك. كما ملكهم السفن التجارية وسفن الغوص وما فيها من الغاصة . وأخذوا يتوارثون ذلك .
وقد أوضح الشاعر ابن المقرب في إحدى قصائده بأن بني عامر قد أصبحوا يملكون كل شيء ويلبسون الحرير ويركبون الخيول المطهمة ويأكلون أحسن الطعام .ولعل القصيدة التالية لأبن المقرب العيوني تعبر أصدق تعبير عن مدى تغلغل بني عامر في الحياة الاقتصادية والسياسية في بلاد البحرين ، وتعكس مدى الخطر الشديد الذي أصبح يهدد المستقبل السياسي للأسرة العيونية الحاكمة .
أخـــــــذوا الحســـــــا من الكثيـــــــب إلى محـــــــا
ديـــــــث العيـــــــون إلي نقـــــــا حلـــــــوان
والخـــــــط من صفـــــــواء حازوهـــــــا فمـــــــا
ابقـــــــوا بهـــــــا شبـــــــرا إلي الظهـــــران
والبحـــــــر فاستولـــــــوا على ما فيـــــــه مـــــــن
صيـــــــد إلـــــــي در إلـــــــي مرجــــــــان
ومنـــــــازل العظمـــــــاء منكـــــــم أصبحـــــــت
دوراً لهـــــــم تكـــــــرى بـــــــلا اثمـــــــان
وأمـــــــض شيء للقلـــــــوب قطائـــــــع
بالمـــــــــــــروزان لهـــــــم وكرزكـــــــــان
ومهما يكن من أمر فان هذا التغلغل الواسع لبني عامر في المرافق الاقتصادية للبحرين سوف تنشأ عنه بالتأكيد سيطرة سياسية . لأن كل سيطرة اقتصادية سوف يعقبها حتما سيطرة سياسية. على أن الذي يجدر بالذكر هنا هو أن ضعف وتداعي الدولة العيونية في بلاد البحرين ليس منشأة الضغوط الداخلية فحسب، بل كانت هناك ضغوط خارجية تعرضوا لها صادرة من جزيرة قيس التي حلت محل سيراف كمركز تجاري رئيسي في الخليج العربي.
وقد استطاع ملوكها من بني قيصر بعد عدة هجمات على سواحل وجزر البحرين ، فرض شروط معاهدة لم تكن لصالح العيونيين ، إذ أصبح بموجبها لملوك بني قيصر جزء كبير من واردات بساتين القطيف والاحساء ومن واردات مغاصات اللؤلؤ بالبحرين فحرموا بذلك الدولة العيونية من جزء كبير من واردتها .
إضافة إلي تحكم قيس بتجارة الخليج العربي ، ومما هو جدير بالإشارة هنا أن وصف ابن المجاور لجزيرة البحرين أوال في حدود هذه الفترة يدل على ازدهار حياتها الاقتصادية ، إذ يقول بأن أهلها شبه البحر في كرمهم وأن جزيرة أوال بها ثلاثمائة وستين قرية أمامية المذهب ما خلال قرية واحدة ، وليس هناك أجود من لؤلؤها .
قيام إمارة العصفوريين العامرية
أن حالة التمزق والتداعي الذي أخذ يهدد إمارة العيونيين بالسقوط منذ مطلع القرن السابع /الثالث عشر ، قد أثار كما يبدو حالة قلق واسعة بين أعيان بلاد البحرين، بعد أن أدركوا تمام الإدراك عجز الحكام العيونيين بما هم عليه من الضعف عن حماية الأمن .
الأمر الذي سوف يعرض أموالهم ومصالحهم التجارية للخطر من قبل بني عامر إذا لم يسارعوا لكسب رضاهم، فأخذ أغنياء البحرين وأعيانهم يتسابقون إلي إرضائهم بالأموال والهدايا ويقيمون معهم صلات شخصية وثيقة. بل ويتواطئون معهم ضد العيونيين وعلى رأس هؤلاء المتواطئين كان إبراهيم بن عبد الله بن أبي جروان ابرز أعيان الإحساء وأثريائها . وقد عاتبه على ذلك الشاعر ابن المقرب العيوني المعاصر للأحداث بقصيدة جاء فيها :
أتـــــــراك ترضـــــــى أن يحـــــــدث جاهـــــــل
أو عالـــــــم مـــــــن نـــــــازح أو دان
فيقـــــــول كـــــــان خـــــــراب دار ربيعـــــــه
بعـــــد العمـــــار بنوابـــــي جــــــروان
عربيـــــــة شهـــــــدت بهـــــــا الثقـــــــلان
وقد تطور الأمر أخيرا إلي اتفاق معظم أعيان الإحساء ووجوهها على تسليم السلطة في البلاد إلي زعيم بني عامر المحنك الشيخ عصفور بن راشد بن عميرة ، فاتصلوا به واتفقوا معها على خطة يقوم بموجبها بمحاصرة الإحساء على أن يقوموا بدورهم بخذلان الحاكم العيوني الأمير الفضل بن محمد بن مسعود وإقناعه بعدم جدوى مقاتلة بني عامر بل عليه أن يسترضيهم وان يفتح لهم أبواب أسوار الإحساء. وفي حالة نجاح هذه الخطة فقد اشترط زعماء الإحساء على الشيخ عصفور بأن يكتفي بالاستيلاء على أملاك الأسرة العيونية جميعها وان لا يتعرض لغيرها من الممتلكات.
وقد تم تنفيذ الخطة بنجاح وقبض الأمير عصفور على الأمير العيوني الفضل بن محمد وطرده من الإحساء بعد أن كان قد استولى على كافة أموال أسرته وكف عن أموال الآخرين وهكذا تم لنبي عامر الاستيلاء على السلطة في الإحساء وإنهاء حكم الأسرة العيونية فيها وبذلك استطاعوا أن يحققوا الخطوة الأولى والاهم لكي يتموا سيطرتهم على كافة بلاد البحرين على أن مصادرنا لا تسعفنا بتاريخ محمد لاستيلاء الأمير عصفور بن راشد بن عميره العامري على السلطة في الإحساء لكن الشيخ محمد بن عبد الله العبد القادر الذي إلف كتابا في تاريخ الإحساء قد ذكر بأن ذلك قد تم في العقد الرابع من القرن السابع .
ومن الواضح كما سوف نرى بأن هذا التاريخ الذي حدده الشيخ العبد القادر قد قصد به تاريخ استيلاء العصفوريين على كافة بلاد البحرين ، والذي نميل إليه أن ذلك قد تم على فترات وان تاريخ استيلاء الشيخ عصفور على الإحساء هو حدود العقد الثاني من القرن الثالث عشر ولقد استندنا في تقرير ذلك إلي قائمة الحكام العيونيين ومدة حكمهم في كل من الإحساء والقطيف وأوال والتي أوردها صاحب المخطوطة التيمورية والذي كان معاصرا للأحداث كما يفهم من إشاراته .
بعد أن استولى الأمير عصفور بن راشد بن عميره بن سنان على واحات الإحساء، أصبحت تواجه إمارته الفتية مسئوليات متعددة، وأهمها هي أولا حمايتها من الأخطار المحتملة من بقايا الإمارة العيونية في كل من واحات القطيف وجزيرة أوال وثانياً الخطر المنبعث من مملكة جزيرة قيس التي تملك أسطولا بحريا وتجاريا قويا يتحكم بتجارة وسيادة الخليج العربي، وإذا كان من الصعب حسم العداوة ما بين بني عامر والعيونيين إلا عن طريق القوة، فانه من الممكن جدا إقامة علاقات حسنة مع بني قيصر ملوك جزيرة قيس خصوصا فيما إذا اعترف لهم بحقوقهم في جزء من واردات بساتين الإحساء كانت قد ضمنتها لهم المعاهدة المعقودة سابقا بينهم وبين حاكم الدولة العيونية الأمير الفضل الذي كان قد أطاح بحكمه العصفوريون. وإذا ما تحقق ذلك فان الإمارة العصفورية الناشئة سوف تستطيع المحافظة على منفذها على الخليج وهو ميناء العقير الذي لا يمكن لها الاستغناء عنه في صلاتها ما بين داخل الجزيرة العربية والعالم الخارجي. كما انه من الجهة الأخرى ربما سوف يتمكن الأمير عصفور بن راشد من تحييد بني قيصر فيما إذا حاول الاستيلاء على بقايا ممتلكات العيونيين .
ومن المرجح جدا إن مثل هذه العلاقة الحسنة ما بين الطرفين قد تحققت بما يفهم من كلام ابن المجاور (ت 690/1291) وكما يستدل من وصف المؤرخ العثماني أحمد منجم باشي (ت1113/1702) للأمير عصفور انه مقدم أمراء الملك جمشيد ملك جزيرة قيس فهذا وصف للأمير عصفور بن راشد يحمل في طياته دلالات معينة هي وجود علاقة حسنة بين الطرفين، ومهما يكن من أمر فإن منطق الأمور يقودنا إلي مثل هذا الاحتمال، إذ أن ملوك بني قيصر بالإضافة إلي أنهم سوف يضمنون حقوقهم في جزء من وإرادات الإحساء فان قوة الأمير عصفور هي أحد الضمانات المهمة لاستمرار حصولهم على جزء من واردات أوال والقطيف من العيونيين، إذ يمكن استخدام هذه القوة للضغط من الداخل على العيونيين في سبيل هذا الهدف .
ومهما يكن من أمر فإننا نجهل بشكل دقيق الكيفية التي تم بها انتقال القطيف إلي حكم بني عامر، وكل ما نعرفه أن صاحب المخطوطة التيمورية قد ذكر بأن أخر حاكم عيوني هو الأمير محمد بن محمد بن أبي ماجد كان قد غادر القطيف في حدود عام 630/1231-32 أو قبلها بقليل وان حكمه قد اقتصر بعدها على جزيرة أوال أما وصاف الحضرة (ت 735/1334-35) فانه كان أكثر وضوحاً عن مصير القطيف بعد مغادرة الحاكم العيوني الأمير محمد بن محمد لها فحين تعرضه للحديث عن استيلاء الأتابك أبو بكر السلغري على جزيرة أوال قال بأن القطيف كان يحكمها آنذاك أقوى شيوخ العرب وأوسعهم نفوذا هو أبو عاصم بن سرحان بن محمد بن عمر(عميره) بن سنان. ومما لا شك فيه بأن أبا عاصم هذا ما هو إلا أحد زعماء بني عامر وقريب الصلة بالأمير العصفور .
والسؤال الذي قد يثار هو كيف استولى العصفوريين على السلطة في القطيف وهل أبو عاصم بن سرحان كان يحكم القطيف نائبا عن قريبه الشيخ عصفور بن راشد أم أنه كان مستقلاً عنه تمام الاستقلال؟ والذي نميل إليه هو أن الصلة وثيقة بين الاثنين وأن الأمير عصفور كانت زعامته معترفا بها بين كافة أفخاذ بين عامر، ونستدل على ذلك من الأحداث التي سوف تتلو مقتل الأمير أبي عاصم حيث أن الشيخ عصفور أخذ يحكم القطيف مثلها مثل باقي بلاد البحرين من دون أن تثور في وجهة معارضة قبلية. من الواضح إذا أنه في حدود نهاية العقد الثالث من القرن السابع / الثالث عشر تمكن بنو عامر من بسط سيطرتهم على معظم بلاد البحرين باستثناء جزيرة أوال كما أن سيطرتهم قد امتدت إلي اليمامة وعمان أيضا .
قال أن سعيد المغربي الذي كان قد زار المشرق العربي مرتين ، الأولى بين عامر 648-652/1245-1254 والثانية عام 666/1267 وهو يصف بلاد البحرين بأن (بين القطيف واليمامة مجالات بني عامر ولم يبق معهم لأحد من العرب عز في بلاد اليمامة والبحرين، ومنهم الآن ملوك الصقعين، ثم وصف بني عامر في موضع أخر فقال بأنهم عرب اليمامة والبحرين .
والواقع فان الروايات عن نفوذ بني عامر في القرن السابع / الثالث عشر والتي ترد عند ابن فضل الله العمرى وابن خلدون والقلقشندي كلها منقولة عن ابن سعيد المغربي وهي تتشابه إلي حد كبير لفظاً ومعنى. فهم ينقلون قوله سألت أهل البحرين في سنة 651/1254 حين لقيتهم بالمدينة النبوية عن البحرين فقالوا "الملك فيها لبنى عامر بن عقيل ، وعصفور وبنوه هم أصحاب الإحساء دار ملكهم".
كما ترد رواية عن ابن سعيد المغربي تتعلق بنفوذ بني عصفور في اليمامة فهم يقول "سألت عرب البحرين لمن اليمامة اليوم؟ فقالوا للعرب من قيس عيلان وليس لبنى حنيفة بها ذكر".
ولعل النص التالي الذي يروي عن أبي سعيد هو أكثر وضوحاً ، فعند حديثه عن بني عامر قال "ولمكوا ارض اليمامة من بني كلاب ، وكان ملكهم فيها لعهد الخمسين والستمائة عصفور وبنوه" ومما هو جدير بالذكر أن ابن خلدون ينفرد بأن بني عصفور غلبوا أيضا على عمان .
علاقة إمارة العصفوريين بالسلغريين (اتابكة فارس)
قبل التعرض لعلاقة العصفوريين باتابكة فارس من السلغريين، يجدر بنا أن نثبت ملاحظتين هامتين تتعلقان بمجمل الأوضاع العامة في الخليج العربي في الربع الثاني من القرن السابع/الثالث عشر .
فالملاحظة الأولى هي أن بلاد فارس أخذت تتعرض في هذه الفترة لهجمات الخوارزمين الذين كانوا قد غادروا بلادهم على اثر الهزائم القاسية التي ألحقها بهم المغول. ثم ما لبث أن ظهر خطر المغول بعد اختفاء الخوارزميين من المسرح بقليل فانتشرت هجماتهم في رقعة واسعة من إيران. وقد ولدت هذه الهجمات المتكررة تخريبات واسعة واضطرابا في الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية في إيران ووصل أثره إلي مياه الخليج العربي وسواحله الشرقية وفي مثل هذا الجو من الخوف والهلع يمكن لنا أن نتصور اندفاع سيل من المهاجرين نحو المناطق الأكثر أمنا من الخليج . ولما كانت الجزر والشواطئ العربية بعيدة نسبيا عن مراكز الخطر فهي أكثر أمنا. لذا فأن قسما من المهاجرين كان لابد له أن يندفع للاستقرار فيها وإذا ما توقعنا أن نسبة مهمة من المهاجرين كانوا من التجار والأثرياء الذين هم من أكثر الطبقات شعوراً بالخوف فإننا نستطيع أن نقول بان إمارة العصفوريين قد تعزز مركزها الاقتصادي والسياسي باستقبالها لمثل هؤلاء المهاجرين .
والملاحظة الثانية هي أن الإمارة العيونية التي أصبحت ممتلكاتها قاصرة على القطيف وجزيرة أوال ثم بعد ذلك على جزيرة أوال فقط كانت تعاني ضغطا شديداً في الوقت الذي كان تحت سلطانها أثمن ثروة في الخليج وهي مغاصات اللؤلؤ ومثل ذلك يمكن أن يقال عن ملوك جزيرة قيس من بني قيصر .
أن مجمل هذه الأوضاع في الخليج العربي كان لابد أن تحرك الزعماء الطموحين للاستفادة منها في الحصول على أفضل غنيمة. وكان اسبق هؤلاء أمير هرموز سيف الدين أبو النظر، إذ استطاع في جمادى الآخرة عام 626/مارس 1229 الاستيلاء على جزيرة قيس بعد أن تمكن من قتل الملك سلطان قوام الدين أخر ملوك بني قيصر. وبعد أن تم لأمير هرموز ذلك أرسل نوابه إلي جزيرة البحرين حيث طالبوا حكامها العيوني الأمير منصور بن علي بان يدفع لهم من واردات البحرين مثلما كان يدفعه لبني قيصر على اعتبار أن أمير هرموز أصبح الوارث لكافة ممتلكات وحقوق ملوك قيس بعد أن أدخل قاعدتهم الرئيسية تحت سلطانه .
وقد اضطر الأمير العيوني على الإقرار لأمير هرموز بهذه الحقوق .
إلا أنه بعد وفاة اتابك فارس الأمير سعد بن زنكي بن سنقر بن مودود السغري عام 628/1230/31 خلفه في الملك ابنه أبو بكر (628/1230-658/1260) فثار نزاع بينه وبين أمير هرموز سيف الدين أبو النظر، ويعلل لنا زكريا القزويني سبب ذلك بأن سكان جزيرة قيس وبسبب ظلم أمير هرموز لهم قد استغاثوا بأبي بكر السلغري في حين أن غفارى القزويني (ت 975/1567-68) ومنجم باشي يعللان أسباب هذا النزاع بخروج أمير هرموز عن فروض الطاعة والخضوع التي كان يؤديها سابقاً للسلغرين وذلك بعد وفاة اتابك سعد ، مما حمل الأمير الأتابك أبو بكر على أن يحشد ضده جيشاً كبيراً مستعيناً بأصحاب السفن من أتباع بني قيصر والذين لابد أن يكون القسم الأكبر منهم من العرب. وقد استطاع أبو بكر في محرم 628/تشرين الثاني 1230 انتزاع جزيرة قيس من أمير هرموز. وبعد ذلك سعى أبو بكر لأن يبسط نفوذه على كافة المناطق التي كان لبني قيصر نفوذ عليها فقام بإرسال عماله الي جزيرة أوال ليطالبوا حكامها العيوني بأن يدفع له مثل ما كان يدفعه لبني قيصر سابقاً ولأمير هرموز لاحقاً .
ولكن الأموال التي تجبى في هذه المرة كانت تتم باسم حقوق الخلافة العباسية في بغداد وان أبا بكر نائب عنه وقد خضع الأمير العيوني لهذه المطالب. ومما يجدر ذكره هنا أن صاحب المخطوطة التيمورية كان من بين موظفي الاتابك الذين كانوا يتولون الإشراف على جباية حقوقه في جزيرة أوال .
على أن الأتابك أبا بكر السلغرى لم يكتف بما حصل عليه من العيونيين بل تطلعت نفسه للسيطرة المباشرة على جزيرة أوال، وربما كان قد حصل على تأييد وتشجيع في خطته هذه من الأمير عصفور بن راشد، فأرسل ضدها حملتين بحريتين احدهما عام 630/1232-33 والثانية عام 633/1235-36 إلا أن الأمير خلف منصور بن علي في الحكم قد استطاع ببسالة صد هاتين الحملتين .
إننا نميل إلى الاعتقاد انه في حدود هذه الفترات بالذات قام بنو عامر بالاستيلاء على القطيف مستغلين الظروف الصعبة التي أخذت تمر بها الإمارة العيونية وهي تواجه أطماع السلغرين .
ومهما يكن من أمر فان الاتابك أبا بكر قد اعد حملة بحرية كبيرة عام 636/1238-39 اشترك فيها عدد كبير من العرب استطاع من خلالها الاستيلاء على جزيرة أوال وقتل أخر حكام العيونيين الأمير محمد بن أبي ماجد ثم نهبت أمواله وأموال أسرته وتعرضوا لتنكيل شديد وبذلك يكون حكم العيونيين قد زال من جميع بلاد البحرين وأن الأمير الجدير بالانتباه هنا أن وصاف الحضرة قد سكت تماماً عن الحملات الفاشلة التي قادها أبو بكر ضد عرب البحرين كما انه حدد ذا الحجة من عام 633/آب 1235 كتاريخ لاستيلاء أبي بكر على جزيرة أوال ، وعنه أخذ هذا التاريخ جميع الكتاب المعاصرين الذين قد أشاروا إلي هذه الواقعة .
أن سبب متابعتهم لوصاف يعود إلي عدم اطلاعهم على ما أورده صاحب المخطوطة التيمورية بخصوص هذه الوقائع والتواريخ التي ذكرناها. لقد رجحنا أقوال الأخير لأنه معاصر للأحداث بل في موقع الأحداث ، فهو أحد الموظفين الذين عملوا في جزيرة أوال في خدمة أبي بكر السلغري. في حين أن وصاف قد ألف كتابه سنة 728/1328 أي بعد حوالي القرن من وقوع هذه الأحداث.
ويعطينا الوصاف بعض المعلومات المفيدة عن علاقة اتابكة فارس بالخلافة العباسية حيث قال بأنه بعد الاستيلاء على أوال والتي يسمونها البحرين ثبتت في ديوان الخليفة المعتصم بالله، وفي كل سنة يكتب دخلها وخراجها ويرسل به إلي بغداد مع معتمد الخليفة في أوال ثم يضيف القول أيضا بأن الاتابك أبا بكر السلغري بعد أن انتهى مباشرة من أوال اعتزم الاستيلاء على القطيف، إلا أن مناعة تحصيناتها وقوة العرب الذين يحكمونها وكثرة عددهم جعلته يؤجل تنفيذ هذه الخطة لحين استكمال الاستعداد الضرورية لمثل هذه الحملة. إلا أنه من المحتمل أن لهذا التردد والتأجيل علاقة بالأخطار التي أخذت هجماتهم تنتشر في مناطق عديدة من إيران، على الرغم من انه – وكما يذكر الجويني كان قد سبق له أن أرسل أخاه تهتمن وهو يحمل هدايا ثمينة. إلي اوكتاي (ت 639/1231) الذي تولى حكم المغول بعد وفاة جنكيز خان. ومن الواضح أن الاتابك كان بذلك يحاول استرضاء المغول لتحاشي خطرهم عن بلاده .
بعد مرور أكثر من خمس سنوات على استيلاء الاتابك أبي بكر السلغري على جزيرة أوال، سنحت له الفرصة ، كما يبدو، لاحتلال بعض موانئ ساحل بلاد البحرين، ففي ربيع عام 641/ ربيع 1244 جرد حملة كبيرة استطاع بها الاستيلاء على قلعة جزيرة تاروت، وقت أكبر شيوخ بني عامر فيها وهو أبو عاصم بن سرحان بن محمد بن عمرو (عميرة) بن سنان والذي كان كما يبدو حاكما لمنطقة القطيف . إذ أن وصاف قد نعته بأنه كان "من وجوه العرب ومشايخهم ومن أرباب المجد الشامخ والكرم الباذخ" وكنتيجة للانتصار الذي أحرزه الاتابك في معركة تاروت استطاع الاستيلاء على مدينة القطيف وواحاتها. كانت خطة الاتابك ترمي إلي حكم هذه المناطق حكماً مباشراً ، فوضع لهذا الغرض حاميات عسكرية فيها.
إلا أن وجود هذه القوات الأجنبية قد أثار غضب واستياء بني عصفور، فأخذوا يشنون الهجمات المتكررة ويضايقونها الأمر الذي حمل الاتابك أبا بكر على أن يقوم باستبدال هذه الحاميات كل سنة بغيرها، ويزيد من دعمها وتقويتها لكن ذلك كما يبدو لم يخفف الضغط على قواته من أزمتها وأعبائها المالية. لذا فقد لجأ إلي استرضاء العصفوريين بأن أخذ يدفع لشيوخهم اتاوه سنوية مقدارها اثنا عشر ألف دينار مصري، على أن يكون وقت دفع هذا المبلغ عند جني محصول نخيل واحات القطيف وفي مقابل ذلك يكف العصفوريين عن التعرض للإدارة السلغرية .
ولقد كان بنو عصفور وفي أحيان كثيرة يلجأون إلي التهديد باستعمال القوة كلما شعروا بوجود تلكؤ، من قبل السلغريم في دفع هذه الاتاوه بل أن شيوخ بني عصفور كما يبدو لم يكتفوا بمبلغ الاتاوه السنوية المقررة لهم. إذ يروي لنا وصاف حكاية تعكس بعض متاعب الإدارة السلغرية وهو ينقل ما يرويه عن احد موظفي الاتابك الذين كانوا يعملون في جباية الرسوم في ميناء القطيف. ومفادها انه في بعض الأحيان يقوم بعض الشيوخ بإرسال احد أتباعه إلي موظفي الاتابك في ميناء القطيف يطالبهم بأن يدفعوا له مبلغا من المال مع بعض السلع وعندما يظهر هؤلاء الموظفون تلكؤا في دفع ما يطلب منهم، يتم إرغامهم على الدفع عن طريق التهديد باستعمال القوة ضدهم ويضيف وصاف إلي ذلك القول بأن عرب البحرين كانوا ينظرون إلي ما يدفع لهم من إتاوة، كحق من حقوقهم الثابتة، وإنها بمثابة الفدية لقاء قبولهم ببقاء اتابكة في بلادهم .
في ضوء التجربة الصعبة التي مرت بها الإدارة السلغرية في بعض أجزاء بلاد البحرين والتي استمرت لمدة تزيد على العشر سنوات ونتيجة للأخطار الخارجية التي أخذت تهدد دولتهم، وبغية التخلص من بعض هذه الأعباء والاستعداد لمواجهة أخطار محتملة تكون أشد من سابقتها، قام الأمير أبو بكر بن سعد السلغري بتسليم السلطة في بلاد البحرين للعصفوريين مقابل قيامهم بدفع مبالغ معينة من الأموال سنوياً إلي خزينة الاتابكة في فارس. وقد أورد ذكر زعيمي بني عامر اللذين تم تسليم السلطة إليهما. وهما عصفور بن راشد بن عميرة ومانع بن على بن ماجد بن عميرة ، كما أنه أورد ذكر تسليم القطيف إليهما وسكت عن جزيرة أوال في حين أننا نجد أن كلا من القاضي أحمد غفاري ومنجم باشي قد ذكر اسم الأمير عصفور بن راشد فقط، أما المناطق التي كانت قد سلمت إليه، فعندهما أنها قد شملت كلا من القطيف والبحرين وعمان (صحار) والحسا.
ومعنى ذلك أن سلطة إمارة عصورة العامرية قد أخذت تشمل على كافة بلاد البحرين بما فيها أوال ، إضافة إلي أجزاء من نجد (اليمامة) ومن عمان. ومما يجدر ذكره هنا أن اسم عمان كان قد ذكرها ابن خلدون أيضا كجزء من ممتلكات إمارة العصفوريين.
وان مؤلفات العصر الوسيط كثيراً ما تطلق عبارة عمان لتعني بها ميناء صحار. لذا فمن المرجح أنه قد استعمل هنا بهذا المعنى. أن التاريخ الذي أعطاه وصاف لاستقلال بني عامر بالسلطة في كافة بلاد البحرين هو عام 654/1256 ، وهذا التاريخ يتعارض بعض التعارض مع ما رواه ابن سعيد المغربي والذي سبق الإشارة إليه – من أن السلطة في بلاد البحرين كانت في عام 651 لعصفور وبنيه وان قاعدة ملكهم هي الحسا. وللتوفيق بين ما رواه كل من وصاف وابن سعيد،
نرى أن هناك احتمالين : فالاحتمال الأول هو أن وصاف ربما لم يكن دقيقا في هذا التاريخ الذي ذكره حول تسليم السلطة في بلاد البحرين لعصفور بن راشد والاحتمال الثاني هو أن رواية ابن سعيد يجب أن تفهم على أن المقصود بها أن سلطة الشيخ عصفور كانت تشمل على كافة بادية البحرين وأن منطقة الاستقرار التي تحت حكمه المباشر هي واحات الاحسا فقط .
حيث اتخذ منها قاعدة لنفوذه ، وأن عدم إشارة ابن سعيد لكل من جزيرة أوال والقطيف في روايته ، قد يعني إنهما كانتا خارج سلطة الشيخ عصفور.
والواقع فان رواية وصاف حول تسليم القطيف إلي الشيخ عصفور تتضمن الاعتراف بأنه صاحب النفوذ الأول في معظم بلاد البحرين .
بقيت نقطة أخيرة يجدر مناقشتها وهي تتعلق بمدى اتساع نفوذ السلغريين في بلاد البحرين. إذ أن كلا من المستوفي القزويني ألف كتابة عام 740/1340 وحاجي خليفة (ت1067/1657) كانا قد ذكرا بان أبا بكر قد استولي على الإحساء إضافة إلي القطيف وأوال في حين أن وصاف الحضرة والذي كان عصره أقرب لعهد الاتابك أبي بكر من عصرهما، لم يذكر اسم الحسا ضمن المناطق التي استولى عليها. يضاف إلي ذلك أن ابن سعيد المغربي قد ذكر في رواتيه التي مرت بنا سابقاً بأنه في عام 651/1253 – 54 ، كانت الحسا قاعدة نفوذ الشيخ عصفور بن راشد في البحرين، ومعنى ذلك إنها تحت سلطته قبل التاريخ المذكور وقبل التاريخ الذي حدده وصاف لانسحاب السلغرين من بلاد البحرين .
للتوفيق بين هذه النصوص يمكن القول بأن الحسا لم تخضع لحكم الاتابك بشكل مباشر وإنما بقيت تحت حكم الشيخ عصفور والذي ربما كان يعترف بتبعية اسمية للسلغريين .
ومهما يكن من أمر فلا بد لنا أن نشير إلي الأسباب المحتملة التي كانت تكمن خلف انسحاب السلغريين من بلاد البحرين في هذه الفترة وتسليمها إلي الأمير عصفور بن راشد، إذ لا يمكننا أن نعزو ذلك إلي المتاعب العسكرية والمالية التي واجهتهم في حكمها فحسب، بل يمكن أن تعزى إلي عوامل لا تقل عنها أهمية وهي : أولا الزحف المغولي المدمر في داخل الأراضي الإيرانية بقيادة هولاكو خان. كما وجدت أيضا عمله برونزية تعود إلي السلغرين ، وهي لا تحمل تاريخاً ولا اسم الحاكم الذي ضربت باسمه .
ومهما يكن من أمر فان اكتشاف هذه النقود في جزيرة البحرين، يدل على وجود صلات كثيرة وربما سياسية أيضا ما بين إمارة العصفوريين وبلاد فارس.
علاقة إمارة العصفوريين بمماليك مصر ومغول العراق وإيران
بتدمير المغول لمركز الخلافة العباسية في بغداد عام 656/1258، ثم سيطرتهم على معظم أجزاء غيران والأناضول تكون الحضارة العربية الإسلامية عموماً، والمشرق العربي خصوصاً قد دخلا مرحلة جديدة وحرجة للغاية ولفترة طويلة نسبياً فقد كان من نتائج هذا الاحتلال المغولي أن تغيرت الخارطة السياسية لمنطقة واسعة من العالم الإسلامي، إذ اختفت كيانات سياسية تماماً، وبرزت كيانات سياسية جديدة ومن هذه الكيانات السياسية التي ظهرت وقدر لها أن تلعب دورا مهما في تاريخ المشرق العربي دولة المماليك في مصر وقد برزت أهميتها السياسية والعسكرية بسرعة بعد نجاحها في توحيد سوريا ومصر في دولة واحدة، مثلما كانتا في معظم الفترات التاريخية السابقة. كذلك في استمرار تصديها للخطر المغولي، وتولى دور القيادة في هذا السبيل.
أن تجاور هاتين الدولتين – دولة المغول الايلخانيين في إيران والعراق ودولة المماليك في مصر والشام – وتصدى إحداهما للأخرى أدى إلي أن يقوم بينهما صراح عسكري وسياسي وثقافي واقتصادي لفترة طويلة، مما دفع كلا منهما لكسب الأنصار والحفاء وحشدهما لمواجهة الطرف الأخر .
أن إحدى القوى المهمة التي توسل كل طرف لكسبها إلي جانبه وزجها في الصراع الدائر بينهما هي القوى القبلية، وذلك لما تتمتع به هذه القوى من أهمية عسكرية واقتصادية، إذ كانت مساكنها تتأخم أرياف العراق والشام وتتحكم بطرق القوافل التجارية وقوافل الحجاج ومن هذا الموقع يكون بإمكانها أن تقدم خدمة عسكرية واقتصادية لأحد الجانبين أو كليهما.
وقد يكون العكس إذ قد تلحق ضررا لأحدهما أو كليهما، ومن ابرز هذه القوى القبلية الفضل الذين كانوا يبسطون زعامتهم على قبائل طي القوية إضافة إلي قبائل كثيرة كانت منضوية تحت لوائهم، فنفوذهم كان يمتد إلي بوادي الشام وأجزاء واسعة من البوادي الغربية للعراق وكذلك إلي أجزاء من نجد
ومن القوى القبلية المهمة أيضا قبليتا عبادة وخفاجة أصحاب النفوذ الواسع في معظم غرب ووسط وجنوب العراق. ثم أخيراً قبيلة بني عامر والتي تبسط نفوذها في المنطقة الممتدة من جنوب البصرة حتى عمان الشمالي ثم يمتد غربا إلي أجزاء من نجد.
أن الدارس لموقف هذه القوى القبلية من القوتين الكبيرتين المتصارعين يلاحظ أنها كانت متقلبة في ولائها نحوهما وذلك تبعا لظروفها وما تأمل الحصول عليه من منافع من كل منهما .
فهدف القبائل الذي يهمها قبل كل شيء هو الحصول على اكبر قدر ممكن من المغانم. إلا أن المماليك كانوا في معظم الأحيان هم الفائزون بولاء هذه القبائل. ومهما يكن من أمر فأننا معنيون بالدرجة الأولي بمتابعة علاقة العصفوريين بهذه القوى، وحديثنا سوف يقتصر عليهم بقدر ما تسعفنا به المصادر.
وقبل كل شيء يجب القول أن المصادر لا تسعفنا لكي نقرر بدقة الموقف الذي اتخذه العصفوريون. من ظهور النفوذ المغولي في كل من إيران والعراق، بالرغم من أننا نميل إلي الافتراض بأن العصفوريين لم يأسفوا كثيراً لزوال دولة بني العباس وسبب هذا الافتراض أن العباسيين قد كانوا سند قوياً للعيونيين الذين كانوا يعترفون بتبعيتهم للخلافة العباسية .
ولابد أن زوال الإمارة العيونية على يد الشيخ عصفور قد أدى إلي توتر علاقاتهم بالعباسين، ولعل ذلك خلق خشية لدى بني عصفور من احتمال انتقام العباسيين، من جهة ومن الجهة الأخرى فان الخصم الأخر للعصفوريين وهم السلغريون الذين كانوا قد فرضوا سيطرتهم لفترة محدودة على أجزاء هامة من بلاد البحرين – هم أيضا أتباع للعباسيين ويعترفون بسيادتهم، وكانوا قد فرضوا نفوذهم على الخليج باسم الخلافة العباسية. فالغزو المغولي فضلا عن كونه قد أزال خطر العباسيين عن بني عصفور فانه أيضا قد أدى إلي إضعاف نفوذ السلغريين في الخليج إلى حد كبير. الأمر الذي ربما أدى إلي شعور بني عصفور بنوع من الارتياح، رغم الأخطار المحتملة على بلادهم من قبل المغول. هذا وكنا قد افترضنا سابقاً بأن إمارة العصفوريين ربما تعزز مركزها الاقتصادي والسياسي بتقاطر سيل المهاجرين من العراق وإيران خصوصا من طبقة التجار وأصحاب الأموال الهاربين فزعا من الخطر المغولي المحيق بها، وربما تعزز هذا المركز أكثر بظهور الصراع المغولي المملوكي .
على أن الأمر الذي لا لبس فيه، هو نشوء علاقة جديدة ما بين بني عصفور وسلطنة المماليك في مصر. فالقلقشندي ينقل عن الحمداني المعاصر لما يرويه قوله، بأن بني عامر قد (وفدوا على السلطان بالديار المصرية في دولة الظاهر بيبرس 658/1259 – 676/1277 ) صحبة مقدمهم محمد بن أحمد بن العقيد "العقيدي" بن سنان بن غفيلة "عقيلة" بن شبانه بن عامر وعاملوه بأتم الإكرام وأفيض عليهم سابغ الإنعام، ولحظوا بعين الاعتناء على انه لدينا ما يدل على أن هذه العلاقة الحسنة قد أصابها بعض الفتور بعد وفاة السلطان بيبرس فبتجدد الصراع على نطاق واسع وفي كافة الميادين بين المغول والمماليك قام آل فضل وآل مرا حلفاء المماليك بمهاجمة عرب البحرين عام 684/1285 – مثلما هاجموا المغول ونهبوا أموالهم وقتلوا عدد من رجالهم وكان من بينهم احد زعمائهم المدعو على بن ماجد أن هذا الهجوم على بني عصفور ربما كان قد تم بتوجيه من المماليك لأنهم كانوا قد حالفوا المغول على أن تطور الأحداث كان قد أرغم الطرفين على إعادة توثيق علاقتهما. فالمغول كانوا قد سعوا لا للتحكم بطرق التجارة البرية عبر اوراسيا فحسب، بل كانوا راغبين بالسيطرة أيضا على الطرق البحرية الرئيسية التي تربط البحر الأحمر والبحر العربي والخليج العربي بالصين والهند. فقد أرسل اليلخان أرغون، البوذي المتعصب (1284-91) في عام 689/1290 يطلب مجيء مائتين من الجنويين إلي بغداد على أن يعملوا في نهر دجلة هذا وقد صادف في الوقت ذاته وجود سبعمائة شخص من الفرنط (من اطنى غربي أوربا في بغداد، وصلوها عن طريق البحر، معتزمين قضاء فصل الشتاء فيها. فما كان كم الايلخان أرغون إلا أن طلب منهم صنع سفينتين من نوع قادرغه (غراب Gallery) ، والتي هي من السفن التي تسير بالأشرعة والمجاديف وتستعمل للأغراض التجارية والحربية. ويمكن لكل سفينة من هذه السفن أن تحمل ما بين 100 – 1200 شخص، أما طولها فيتراوح ما بين 100 إلي 200 قدم. وكان هدف الايلخان من صنع هذه السفن هو تسيرها في الخليج العربي والبحر العربي لعرقلة المواصلات التجارية ما بين الهند ومصر.
إلا أن هذه الخطة لم يكتب لها النجاح نظرا للنزاع الذي ثار بين الجنويين من بحارة السفينتين وتنفيذ الخطة المرسومة لهما .
ومن الطبيعة أن يدرك المماليك مدى الأخطار التي تهدد تجارتهم من جانب المغول فيراقبوا هذا النشاط ويعملوا على التصدي له وإفشاله فالسلطان قلاوون كان قد أرسل عام 682/1283 وكذلك عام 687/1288 برسائل إلي التجار في الهند والسن والصين وسيلان واليمن، يدعوهم فيها للقدوم بتجارتهم إلي مصر والشام ويعدهم بحسن المعاملة
لقد كان الصراع كما أسلفنا – ما بين المغول والمماليك يتخذ أشكالا مختلفة ويقع على محاور متعددة ولم يترك أي طرف فرصة لضرب الطرف الأخر واضعافة إلا اهتبلها فأبوا الفدا (ت 732) المؤرخ المعاصر للأحداث يذكر بأنه من إمارة مكة ولجأ إلي السلطان المغولي أو لجايتو خدابنده محمد بن أرغون (703/1304-716/1316) في بغداد واستنجد به لإعادته إلي مكة ومبدياً استعداده في مقابل المساعدة التي تقدم إليه لأن يعلن تبعية مكة لسلطنة المغول في العراق وإيران .
فما كان من السلطان خد أبنده محمد إلا أن رحب بذلك معتبرا إياها فرصة ثمينة لتوجيه ضربة موجعة لهيبة وسمعة سلاطين المماليك في العالم الإسلامي وان يحل المغول محلهم في هذا النفوذ. وعليه فقد جهز السلطان خدابنده عام 716/1316 الشريف حميضة بقوة تتألف من عشرة الآف مقاتل من المغول والعرب وأسندت قيادتها إلي الأمير طالب الدلقندي الحسيني نائب المغول في البصرة. وقد سارت الحملة إلي مكة سالكة الطريق عبر بلاد البحرين. أن سلوك هذه القوة عن هذا الطريق ليعكس اطمئنان المغول من عدم تعرضها لهجوم قبائل بني عامر. والواقع فان بلاد البحرين في هذه الفترة كانت قد أصبحت تدين بالتبعية لأسرة الطيبيون في نفس الوقت يحكمون في معظم هذه المناطق باسم المغول، كما يقومون بدفع مبالغ سنوية إلي زعماء العصفوريين لتسكينهم ولكي يقفوا إلي جانبهم عسكريا عندما تدعوا الحاجة لذلك .



يتبع ....