لم يعد خفياً على أحد سياسة أمريكا البراغماتية التي أدخلتها في أزمة الثقة مع الحلفاء بالتحديد. وإن كان البعض يؤمن بأنه ليس لأمريكا حليف، بل دائماً ما تتعاطى مع شركائها ضمن سياسة الأدوات، يخرج الكثير من المحللين ليؤكدوا أن الطرف الأمريكي لم يعد مثل ذي قبل، بسبب سياسته المكشوفة، ودخول أغلب الأنظمة التي كان يرعاها في صراع الوجود. وهنا يجري الحديث اليوم عن سياسة أمريكا تجاه العراق، والتي كانت تعتبر الملف العراقي من أهم الملفات التي تخص الشأن القومي الأمريكي. لكن واشنطن والتي تتحدث عن مساعدة العراق ودعمه عسكرياً، هي نفسها التي يعتبرها المتخصصون في السياسة الدولية، سبب هلاك العراق. فكيف يمكن قراءة التعاطي الأمريكي مع الملف العراقي؟
عند الحديث عن النتائج وتوصيف الوقائع، لا نحتاج إلا للنظر الى الواقع العراقي اليوم. ولعل الأطراف العراقية كافة، حتى تلك التي كان لها دورٌ في إعطاء الطرف الأمريكي هامشاً مهماً في الشأن العراقي، تقوم اليوم بعملية إعادة حساباتها. والسبب الأساسي الدافع لذلك هو البراغماتية الأمريكية. فالفشل الأمريكي اليوم في المنطقة يمكن إعادته للسياسة الأمريكية التي أصبحت مكشوفة. لكن متابعة ملفات المنطقة لا سيما الملف العراقي، يجعل المحلل يصل الى نتيجةٍ مفادها أن الطرف الأمريكي يحاول قدر الإمكان الخروج من المنطقة بأقل الخسائر. وهنا يجدر الحديث عن سياسة أمريكا تجاه العراق اليوم.
لم تعد تشكل واشنطن للعراقيين عموماً، وللذين راهنوا عليها خصوصاً، طرفاً يتمتع بالثقة أو يمكن على الأقل إشراكه في إدارة الملفات. وهذا هو الأمر الذي قد يصب في مصلحة دول أخرى عديدة في المنطقة، تتمتع بنفوذٍ واسع، لا سيما روسيا، القطب المواجه لأمريكا، الى جانب إيران التي يتعاظم دورها، والتي أثبتت فعاليته في العراق. فالزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الى موسكو، ولقائه الرئيس الروسي، يؤشر وبشكلٍ واضحٍ على تراجع التأثير الأمريكي على المقوم السياسي العراقي. وإلا فماذا تعني زيارة روسيا البلد الند لأمريكا؟ فقد خرجت تصريحات عديدة من المسؤولين الروس كافة، الى جانب كلام العبادي، حيث أكد لافروف على استعداد روسيا "تلبية كل الطلبات المحتملة بأقصى قدر ممكن لضمان قدراتهم(العراقيين) على طرد داعش وغيره من الإرهابيين"، كما أكد العبادي تعويل العراق على الدور الروسي، مضيفاً: "نحن نعلق أهمية كبرى على علاقاتنا مع روسيا، ونرى أن لها مستقبلاً وأن زيارتنا دليل على ذلك". لذلك فإن العارف بقوانين حياكة السياسة الدولية، يعرف أهمية هذا الموضوع، ودلالاته. فكيف أخرجت أمريكا نفسها من الملف العراقي؟
إن الحديث عن فشل أمريكا في العراق، يمكن تأكيده بالتالي:
- أعلنت أمريكا منذ أيام عن تخصيصها ميزانية لدعم استقلال الأكراد والسنة بعيداً عن الحكومة المركزية. ولعل الكثيرين توقفوا عند الجرأة الأمريكية على إعلان ذلك، الى حدٍ تساءل فيه البعض عن السبب وراء هذه الصراحة. فقد أشار العديد من المحللين الى أنه كان بإمكان واشنطن أن تفعل ذلك كعادتها من خلال الدعم السري، والعمل الذي يسوده الطابع الأمني. لكن المراقب للسياسة الأمريكية يعرف جيداً أن أمريكا طرفٌ يتقن فهم مقومات الدول ومكوناتها. وبالتالي فليست أمريكا الطرف الذي يجهل حساسية الوضع العراقي. لكن وعلى الأغلب فإن واشنطن قررت أن تشرعن سياسة التقسيم، وتعطي لنفسها حقاً لم ولن يعطيها إياه أحد. وبالتالي قامت بضرب المواثيق الدولية، والإتفاقية الأمنية مع العراق عرض الحائط. وعوَّلت على الشيء الوحيد الذي تبقى لها في العراق، وهو مصلحتها مع الأقليات. فهم الطرف الوحيد الذي قد يستمع لها اليوم، مع الإشارة الى أن العراق بأغلبيته وبرغم اختلاف مكوناته، رفض القرار.
- كما أن سياسة واشنطن الحالية ليست بجديدة وإن اختلفت التوليفة السياسية لها، فقد سبق أن دخلت لتحارب الإرهاب بالعراق من بوابة الشريك القوي الوفي لها أي إقليم كردستان. والذي قد يكون يتمتع بحكم ذاتي يهم أمريكا التي تبحث دوماً عن التقسيم، حيث قامت بنشر العديد من المستشارين العسكريين في عاصمة الإقليم "إربيل"، لدعم قوات البيشمرغة للتصدي لتنظيم داعش الإرهابي. ولعل المدرك لطبيعة الحرب الأمريكية على الإرهاب، وكيف قامت قوات التحالف بضرب داعش، يعرف أن الهدف كان تغيير الجغرافيا السياسية للعراق كما لسوريا، من خلال إيجاد تغييرٍ عسكريٍ لوجستي، يختلف عن السابق. وبالتالي فإن التناقض الحاصل في ضرب أمريكا لتنظيمٍ كان لها دورٌ في تقويته وصنعه، يعود لسببٍ مفاده أن الضربات الجوية للإرهاب في العراق ليست للقضاء عليه، بل لإحداث خريطة لوجستية عسكرية ميدانية جديدة، يمكن أن تكون مدخلاً للتقسيم. لذلك فإن أمريكا لم تتوان عن الترحيب بمشاركة الحشد الشعبي في معركة تكريت وإن عارضت بدايةً، كما أنها اليوم وعلى لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية جيف راثكي رحبت بطلب الحكومة المحلية وقادة العشائر في الأنبار مشاركة الحشد الشعبي في المعركة ضد تنظيم داعش واعتبرتها بالخطوة المهمة. لأن ذلك يصب في مصلحتها الإستراتيجية. وبالتالي فإن ادعاءات واشنطن بمحاربة الإرهاب في العراق هي ادعاءات واهية. إذ أن السبب الحقيقي لغارات التحالف هو التحضير للتقسيم اللوجستي عسكرياً. ثم يأتي بعدها مرحلة التقسيم سياسياً، من خلال دعم الأطراف التي تحتاج الحضن الأمريكي، من أجل الحكم فقط. وهو ما ترجمته أمريكا بدعم انفصال الأكراد والسنة.
- ولا يمكن نسيان أن ما وصل إليه العراق من خراب كان للأمريكي الدور الأكبر فيه. فكل المأزق العراقي الحالي هو نتيجة الغزو الأمريكي للدولة العربية، وزعزعة استقرارها. فإن راجعنا التاريخ، وجدنا أن هناك الكثير من الحقائق التي تثبت أن الطرف الأمريكي مارس الإرهاب بحق العراق قبل تنظيم داعش. ولعل الجمهوريين هم الأكثر وضوحاً في سياسة استخدام القوة والمزيد من التدخل العسكري الأمريكي في العراق وتوسيع نطاقه. وقد كان آخر منتقدي سياسة أوباما مؤخراً، وزيرة خارجيته السابقة، هيلاري كلينتون، بانتقادها عدم استخدام القوة الأمريكية بما يكفي. فنتائج السياسات الأمريكية المخيبة في المنطقة والعالم، دفعت أوباما للحديث عن أنه "عقب الخروج من حربين في العراق وأفغانستان، على أمريكا أن تتسم بالحذر أثناء محاولة حل أزمات العالم".
إذاً خرجت أمريكا من العراق وإن بمعنى القدرة، فقط سقطت أمام العراقيين كما سقطت أمام شعوب المنطقة. ولعل مراهنة البعض على التقسيم، والاستجداء بالأمريكي، تدخل في خانة سوء تقدير الأمور ليس أكثر، لأن الحقائق لم تعد مخفية.
نقلاً عن موقع الوقت
mjk