أن العالم اليوم بأسره يشكو من المشكلات والمصاعب، ويتأوه من الصعوبات والمآزق، ويجِدُّ الباحثون عن حلول ومقترحات، ويفتش المصلحون عن أدوية وعلاجات، ليعيش الإنسان في راحة وأمان، ولمَّا يهتدوا لسبيل بعد، وإنه لمن حسن العمل أن يدرك المصلحون أصل المشكلة، ويعرفوا أُسَّ القضية، ألا وهي الإنسان. فعلاج أي مشكلة منبعه الإنسان، ذلك أنه هو محور الكون، والإنسان في الحقيقة ليس هو الجسد، فكل الكائنات الحية تمتلك هذه الصفة، بل الإنسان هو التربية التي يحملها، والقيم التي يعتقدها، والسلوك الذي يقوم به. فأهم مشكلة تواجه الأمة اليوم، هي الإنسان وبناؤه؛ بناءً متصلاً بتراثه وثقافته، متفاعلاً مع عصره، وملتـزماً بقضايا مجتمعه وأمته. وإذا أُهمل الإنسان ونشأ بلا تربية انفصل عن جذوره، فضاع وأضاع مَن حوله.
وإن التقدم والرقي لا يتحقق بالسياسة ولا بالمال فحسب، بل يتحقق بالأساس، وهو إعداد الجيل الذي يُسهم في لإيجاد بنية ذاتية متطورة تعزز التقدم المنشود، وتكرس الرقي المطلوب. وإن ما يميز أفراد مجتمع ما عن أفراد مجتمع آخر، هو ثقافة ذلك المجتمع، ونوع التربية السائدة فيه، إذ لا يميزهم غناهم أو فقرهم، ولا يتميزون بألوان عيونهم، أو أشكال أجسادهم، وإنما يتميزون بالتربية التي يتلقونها، والتي تجعل منهم أشخاصاً أصحاب هوية معينة ولون محدد، وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
فعلى سبيل المثال عندما يُذكر المجتمع الياباني هذه الأيام فإنه لا يقفز إلى الأذهان إلا العلم والتكنولوجيا والتقدم والاختراع والعمل الدؤوب، وعندما يُذكر مجتمع الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقفز إلى الذهن عصر العلم والحضارة، والتنشئة السوية والتربية الصالحة. العلاقة بين التربية والتعليم:
التعليم: إيصال المعلومات كما هي عليه إلى طالبها ومن يريدها، فالعلم: إدراك الشيء على حقيقته.
أما التربية فهي: فن وملكة وخبرة إيصال المعلومات بوجهها الصحيح إلى المتلقي. وبالتالي فإن العلاقة بين التربية والتعليم علاقة تلازم، وعموم وخصوص، والعلم جسد، والتربية روح هذا الجسد، فالتعليم جزء من التربية، والتربية عامة شاملة، ولا يمكن الفصل بينهما بحال، بدليل أو كلمة في أمة العرب التي أصبحت خالدة خلود الرسالة، قال الله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ }[العلق: 1ـ 3] ، أي تعلم مع التربية، إذ لم يكن النص: اقرأ باسم خالقك، أو رازقك، بل ربط التعليم بالتربية.
والرب والتربية من اشتقاق لغوي واحد، كما قال الإمام البيضاوي في تفسيره: [والرب في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً]
وإذا كانت التربية أداة التغيير، والتعليم أداة البناء، فكلاهما يسعى للمستقبل الأفضل، والتعليم جزء ووسيلة من أجزاء ووسائل التربية، إذ إن مدلول التعليم موضوع معين، أما التربية فمدلولها شامل عام. فالتعليم قد يهدف إلى تحصيل المعرفة، أو التدرب على مهارة، أو حفظ نص، أو الاطلاع على قانون رياضي أو طبيعي، أما التربية فتهدف في ما تهدف إلى:
* تنمية الإحساس بالذوق والجمال في الكون.
* وتربية الضمير والوجدان.
* وتنمية الإرادة الحرة الواعية.
* والنهوض بالقيم الإنسانية.
* وتعديل أنماط السلوك البشري.
والتعليم الجيد هو الذي يكون له هدف تربوي، ولا تعارض بين التربية والتعليم، وليس بينهما أي انفصال أو انفصام، بل هما متآزران ومتكاملان.
ولما كانت التربية أشمل وأعم من التعليم فسيتم التركيز في الحديث عنها:
أهمية التربية: التربية أساس كل تقدم وصلاح، وعنوان كل تغيير ونهضة.
والتربية بالتعريف: هي الجهد الذي يقوم به المربون في مجتمع ما لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها.
وبالتالي: إذا كانت حياتهم مادية كانت تربيتهم مادية، وإذا كانت حياتهم فلسفية روحية كانت تربيتهم من جنس نظريتهم.
وإن الدين ـ لَمَّا كان من عند خالق الكون والحياة ـ فقد اكتملت فيه عناصر المادية والروحية، بلا إغراق أو تطرف لأحد الجوانب على الآخر.
وهذه هي التربية الشاملة المتوازنة؛ التي تجمع بين الروح والمادة، بين الدنيا والآخرة، بين السلوكيات المادية والقيم الروحية.
فالتربية الشاملة ليست تلك التي تهتم بالجانب المحسوس أو الجانب العقلي أو الجانب الروحي فقط، بل التربية الشاملة هي:
¨ التربية المتوازنة؛ الجامعة بين فضائل المادية ومحاسن الروحانية.
¨ التربية الواقعية؛ التي تلامس الحياة وتخاطب الإنسان وتتجاوب مع فطرته.
¨ التربية العملية؛ التي تقارن العمل مع القول، والسلوك مع النظرية.
¨ التربية المستمرة؛ في مناحي الحياة، وظروف الإنسان، وليست مقتصرة على مكان أو زمان معين.
¨ التربية القيمية؛ التي تحوي مفاهيم الخير والعدل والمساواة، لا مفاهيم التسلط والفساد.
خصائص التربية الناجحة: لا يمكن أن تكون التربية ناجحة إلا إذا كانت شاملة، ولا تكون شاملة إلا إذا تمتعت بخصائص، منها:
§ ربانية المنهج؛ إذ إن المناهج البشرية خاضعة للخطأ والزلل، عرضة للانتقادات، كونها صادرة عن إنسان متأثر ببيئة معينة، فتبقى مناهجه ضمن إطار بيئته، أما المنهج الرباني فهو عام لكل البشر، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، وتفاوت طباعهم، وتعدد آرائهم. § إنسانية النزعة؛ ليست مقتصرة على شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، أو تخدم مصالح جماعة معينة أو مجتمع بمفرده، فكلما كانت التربية إنسانية كان نفعها أعم وأشمل.
§ عملية التطبيق؛ غير مغرقة في خيالات كاذبة أو فلسفيات مادية عقلية، بل هي تربية قابلة للعمل والتطبيق. § ذاتية المنطلق؛ نابعة من الشعور بالنفس والآخرين، لا تحتاج إلى رقابة مادية محسوسة، فرقابة صاحب المنهج وهو الله الرب المربي كافية ومغنية عن كل الرقابات المادية مهما كانت دقتها عالية. § اجتماعية المحتوى؛ ليس فيها من الأنانية القاتلة، ولا الأثرة المهلكة، بل هي تربية التعاون والتكامل، وتربية التكاتف والتكافل. غايات التربية المنشودة: إيجاد جيل يحمل الصفات الآتية: العلم النافع. العمل الصالح. الخُلُق القويم. والطريق إلى ذلك تهذيب النفوس، وتثقيف العقول، وبناء الأمم. فالتربية في مجملها: الإنسان في جوانبه الجسمية، والعقلية، والعلمية، واللغوية، والوجدانية، والاجتماعية،والدينية،وتوجيهه نحو الصلاح، والوصول به إلى الكمال
منقول