هناك في وسط العراق (وادي الرافدين) مدينة معروفة وعريقة في التاريخ اسمها (الكوفة)... والكوفة كلمة سريانية الاصل معناها (شوكة) اي (كوفا) السريانية وقد سميت احياناً (عاقولا) وتدل على نفس المعنى (الشوك /العاقول) وعلى مسافة غير بعيدة منها يوجد سهل فسيح نشاهد فيه اطلال وخرائب ابنية وقصور هي بقاية شواهد مدينة شهيرة تدعى (الحيرة).
قامت مدينة الحيرة في وسط سهل منبسط حيث طاب الثرى ورق الهواء... ووشت الطبيعة ذلك السهل الفسيح بالرياحين وشقائق النعمان ممتدة الى مشارف مدينة النجف... ومن الناحية الاخرى بادية الشام، وكان يشطرها نهر (الكافر) الذي يتفرع من نهر الفرات باتجاه مدينة النجف، وفيها القنوات الكثيرة والقصور، والديارات والكنائس الفخمة والبساتين وبيوتها البيضاء تسطع جمالا ً تحت اشعة الشمس حتى ان المدينة سميت (الحيرة البيضاء)... واسم الحيرة يقال عنه انه اسم عربي مشتق من (التحير) بمعنى (الحِمى والملجأ) ويقول اخرون انه اسم (آرامي-سرياني)الاصل يعني (المعسكر/الحصن).
يعتقد ان الحيرة ترجع الى عهد ملك بابل (نبوخذ نصر)، مرّت على هذه البقاع اهوال وكوارث عديدة فهجرها اهلها واصبحت اطلالا ً... وبعد عدة قرون استوطنها العرب من اولاد (معن بن عدنان) الذين هاجروا من تهامه بسبب الحروب والظروف الطبيعية الصعبة، فنزل كثير من قبائل التنوخيين واللخميين في تلك المنطقة، فالتنوخيين كانوا يسكنون بيوت الشعر غربي الفرات فيما بين الحيرة والانبار وقد بنى مالك بن فهم منزله في الانبار وبنى في الحيرة قصرا ً وبستانا ً واسعا ً.. ثم اقتطع رجاله الاقطاع فنزلوا بجواره وسكنوا الحيرة حتى عظم اسمها... اما الذين سكنوا ضمن اسوارالحيرة فكان يطلق عليهم اسم (العباد) ويقال انهم عندما قاتلوا جيش سابور المجوسي الفارسي اتخذوا هذا الشعار فخرا ً لهم لأنهم من آل (عباد الله) المتنصرين.
كانت في مدينة الحيرة كنائس واديرة ومدارس وذلك ثابت من الرسالة الايمانية التي بعثها القديس سويريوس البطريرك الانطاكي الكبير سنة(519) ميلادبة الى القسوس ورؤساء الاديرة يوناثان وصموئيل ويوحنا في بيعتي الانبار (فيروز شابور) وحيرة النعمان... وكان في الحيرة كرسيا ً اسقفيا ً للعرب التغالبة، وبنو تغلب قبائل كبيرة عربية هم اولاد عم بنو ربيعة وبنو بكر الذين يسكنون الجزيرة مابين دجلة والفرات من الموصل والخابور والى تكريت وعنه والحيرة والانبار وكانت ايضا ً كنائس كثيرة في الكوفة وعانه والسن منذ القرون الاولى... وقد خربت معظم هذه الكنائس والاديرة في اواسط القرن السابع الميلادي.
لقد بنى اهل الحيرة القصور الفخمة والكنائس... ومن قصورهم الفخمة عبر التاريخ (قصر الخورنق) وكان جامعا ً بين العظمة والبهاء وروعة الزخرف، وهناك ايضا ً قصر(السدير) وهو عبارة عن عمارة بديعة من غرائب الدهر كما يذكرها المؤرخون ويقولون ان قصر الخورنق كان قريبا ً من المدينة الى شرقها. اما قصر السدير فكان في وسط البرية وكان يوجد قصور كثيرة في الحيرة مثل (القصر الابيض) لشمعون بن جابر، اسقف المدينة وقصر الزوراء، وقصر العذيب وقصر الصنبر وقصر مقاتل والقصور الحمر وغيرها... وكان النصارى اللخميون مولعين ببناء القصور الفخمة والصروح الشامخة، وكانت العامة تقاد كبار القوم ببناء البيوت والقصور الكبيرة. لقد انتشرت النصرانية في هذه الاصقاع منذ عهد الرسل، حيث ان تلميذين من تلامذة السيد المسيح السبعين (مار ادي) و(مار ماري) توجها الى العراق وبشرا بالرسالة السماوية بين الناس، فدخلت حاضرة المناذرة وتنصر بعض ملوكهم... وارتد البعض الآخر... وبقي بعض الحيريين على جاهلية العرب والبعض منهم من اليهود.
فالمنذر بن أمرئ القيس المعروف (بأبن ماء السماء) الذي عاش عام (514-563) ميلادية كان قد اعتنق النصرانية واعتمذ وبنى في مملكته الكنائس الجميلة... وكان عمروالثالث بن المنذر الثالث نصرانيا ً، تنصرعلى يد امه (هند الكبرى)... وتنصر النعمان ايضا ً واعتمذ نحو سنة (593) ميلادية هو واهل بيته مع عدد غفير من اهل مدينته، وفتح قصره للفقراء والمساكين والتجأ اليه البطريرك (ايشوع يابالارزني) عام 595ميلادية، اذ كان هاربا ً من غضب كسرى ابرويزالفارسي ومن ظلم المجوس وجورهم... فمات في قرية صغيرة من قرى الحيرة، ولما وصل خبر وفاته الى اهل الحيرة خرجت الاميرة هند ابنة النعمان بن المنذر مع الكهنة والشمامسة وعموم الشعب وادخلوا جثمانه الى المدينة باحتفال مهيب ودفن في وسط المذبح بديرها المعروف باسمها (دير هند الصغرى).
ظهر من رجالات الحيرة وعلمائهم نابغة زمانه (حنين بن اسحق العبادي) وهو الملقب (ابو زيد حنين بن اسحق) ولد عام 810 ميلادية في الحيرة ودرس اللغة العربية وبرع فيها، ثم عكف على دراسة صناعة الطب كما كان والده الصيدلاني (المسيحي النسطوري) ثم سافر الى بلاد الروم... وهناك احكم اللغة اليونانية والرومانية، فأنكب على دراسة الطب والتشريح وترجمة الكتب النادرة... ثم عاد الى بغداد... وقد عاصر الخليفة العباسي المأمون وترجم له العديد من الكتب اليونانية والسريانية الى اللغة العربية... توفي عام (873م) بعد ان قدم للبشرية وللعالم العربي نور المعرفة من الحكمة والفلسفة والطب قرون عديدة... ولا يزال يذكره التأريخ حتى يومنا هذا.
شيدت في مدينة الحيرة كنائس عديدة فخمة حسب الريازة الشرقية المتجهة الى الشرق حسب تقاليدنا، وفي صدرها قدس الاقداس حيث ينتصب المذبح، ويغلق هذا المكان المهيب باب او ستار من القماش الثمين لا يفتح الا في اوقات ومناسبات معينة في الطقوس البيعية... وأمامه موضع مرتفع بعض الشيء لوقوف الشمامسة في فرقتيين او جوقتيين حيث يتناوبون الصلوات والمزامير والتراتيل وفي وسط البيعة موضع مرتفع كان يعرف بأسم (البيم) حيث يجلس راعي الشعب اي الاسقف، يحيط به القسس والشمامسة حسب ترتيب قدميتهم في الخدمة، وينتصب امامهم الانجيل المقدس على (دكة) قليلة الارتفاع. ويتم في ذلك المكان القرآءات في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
كانت الكنائس مبنية باللبن وأعمدتها بالآجر، وكانت مزخرفة بالنقوش والفسيفساء ومجملة بالصور وبقناديل الذهب والفضة وفيها حنايا تضم رفات الشهداء والقديسين وتكون هذه الحنايا مغطاة بقماش من الحرير... ومن جملة الكنائس في الحيرة (البيعة الكبرى) في بني الخيان وهي الاولى لأنها بيعة الكرسي وتسمى (بيعة الملائكة) لانه كان يرى عند بنائها رجلان يبنيان مع العمال وهما في لباس ابيض ناصع كالثلج... وهناك بيعة شيدت على اسم مار توما الرسول، وبيعة بني مازن وبيعة السيدة العذراء مريم وكنائس أخرى كثيرة...
وقد ذكر ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بعض اسماء ديارات الحيرة مثل (دير ابن وضاح) ويقال انه دير مار عبدا ابن الحنيف ودير ابن براق ودير الاعور ودير الاسكول وفيه بعض القلايات وهي صومعة للراهب الذي يرغب ان يعيش منفردا للصلاة والعبادة، ولكل راهب (قلايته) الخاصة به... ودير بني مارينا بظاهرالحيرة ودير الجرعه وغيرها من الديانات ومدارس لتربية الاولاد وارتشاف مختلف العلوم كالطب والادب والشعر والموسيقى...
ان دير هند الكبرى وهي بنت الحارث بن عمروبن حجر آكل المرار الكندي وهي عمة امرئ القيس الشاعر النصراني المشهور صاحب المعلقة (قفا نبكِ) والدير الثاني ينسب الى (هند الصغرى) بنت النعمان بن المنذر وقد شيدت هذا الدير وانزوت فيه... وقد زارها خالد بن الوليد في نفس الدير، ويروي المؤرخون ان هارون الرشيد قصد الحيرة وزار قبر هند الكبرى ثم زار قبر هند الصغرى ووالدها النعمان بن المنذر.
هذا بعض من معلومات واحداث عصفت في فترة من الزمن بشعب كان يعيش في سهل فسيح في اواسط العراق ...لانشاهد حاليا من حضارته ومن آثاره سوى اطلال وخرائب قصور ...هي الباقية من مدينة الحيرة الشهيرة.


الشماس افرام حنا نورالدين