عند الحديث عن الحيرة، لابد القول إنها منطقة تشتهر برقة هوائها وصفاء جوها، وهي وعذوبة مائها، في ارض العراق، حتى قيل عنها "يوم وليله بالحيرة خير من دواء سنة". وبعد تدهور الحيرة وتناقص عمرانها، كان الشروع في انشاء الكوفة سنة 17ه على يدي سعد ابن ابي وقاص، ولعل بقاء الحيرة كان هاما لقربها من الكوفة، وذلك اتاح لها ان تكون موضعا من مواضع النزهة والزيارة لأهل الكوفة. وكانت الحيرة مدينة مأهولة بالسكان في العصر الاموي، ولكنها في العصر العباسي أخذت في الاضمحلال، وبالرغم من ذلك فقد كانت مقصد خلفاء بني العباس في العصر الاول كالسفاح والمنصور والرشيد والواثق، الذين كانوا ينزلونها ويطلبون المقام فيها لطيب هوائها، وصفاء جوها وصحة تربتها.
وعندما زارها الشريف الرضي سنة 392ه وشاهد قصورها وديارها وقد اصبحت اطلالا قال من قصيدة له:
مازلت أطرق المنازل بالنوى
حتى نزلت منازل النعمان
بالحيرة البيضاء حتى تقابلت
شم العماد عريضة الأردان
ورأيت عجماء الطلول من البلى
عن منطق عربية التبيان
امقاصر الغزلان غيرك البلى
حتى غدوت مرابض الغزلان
وملاعب الأنس الجميع طوى الردى
منهم فصرت ملاعب الجنان
ووقفت أسأل بعضها عن بعضها
وتجيبني عبراً بغير لسان
وكانت الحيرة مركزاً علمياً هاماً، وملتقى الادباء العرب في الجاهلية، وكان النعمان بن المنذر يجتمع بأدباء العرب في قصر الخورنق ويقيم مهرجاناً أدبياً، والحيرة في عصر اللخمين ازدهرت علمياً لم تشهده عاصمة عربية في العصر الجاهلي، اذ كانت تزخر بمعاهد العلم ومدارسه، ولعل من أبز مظاهر تلك الحركة العلمية الخط الحيري الذي هو أساس الخط العربي وأقدم أشكاله، ولعل لموقع الحيرة بين العراق والشام وبلاد العرب أثراً كبيراً في احتكاك أهلها بغيرهم من الشعوب، اذ تأثروا بالثقافات الفارسية والسريانية واليونانية، كما كان لمعرفة بعض أهالي الحيرة باللغة الفارسية أثر كبير في نقل كثير من آداب الفرس اليهم، وكان ملوك الحيرة من البيت اللخمي يشجعون الشعراء بالعطايا والصلات فوفد اليها من شعراء الجاهلية المرقش الاصغر، وعمرو بن قميئة، والمتلمس، وطرفة بن العبد والمرقش الاكبر والنابغة الذبياني ولبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت وحاتم الطائي وعنترة العبسي وغيرهم.
وطبيعة المكان أملت على أهل الحيرة الزراعة، فاشتغلوا بها اضافة الى الرعي كذلك جعلها المكان تجمع بين حياة البداوة وحياة الاستقرار، فكانت مزارع النخيل والجنان والبساتين تمتد منها حتى نهر الفرات، وهذا أدى بالطبع الى نشاط الحركة التجارية هناك، فكانت القوافل تحمل تجارة الهند والصين وعمان والبحرين وتدمر وحوران، ومن هنا تدفقت الثروات على أهل الحيرة، فأقاموا القصور واستمتعوا بالحياة، واستخدموا في دورهم نفيس الاثاث واستعملوا الأواني الفضية والذهبية للأكل وناموا على فرش من حرير، كما اتخذوا العطور والأطياب والبخور في المجامر قبل النوم، ويلبسون الثياب الفاخرة وفي ذلك يقول الشاعر عدي بن زيد:
تنفح بالمسك ذفاريهم
وعنبر يقطبه القاطب
والقز والكتان أثوابهم
لم يجب الصوف لهم جائب
والعز والملك لهم راهن
وقهوة ناجودها ساكب
وقد لعبت الصناعة في الحيرة دوراً عظيماً، حيث كانت كثير من الصناعات تنسب الى الحيرة، ومن أهم تلك الصناعات صناعة النسيج والحرير والكتان والصوف كما اشتهرت الحيرة بصناعة الاسلحة من سيوف وسهام ونصال ورماح، وكذلك صناعة التحف والدباغة والجلود. ونتيجة لتأثر أهل الحيرة بالفرس فقد برع الحيريون في فن العمارة وطوروها حتى أصبح الطراز الحيري في فن البناء طرازاً قائماً بذاته، وظل هذا الطراز معروفاً في العصر الاسلامي، وقد ذكر ابن المسعودي ان المتوكل العباسي اتبع في بناء قصوره نظام البناء المعروف (بالحيري) ولذلك اشتهرت الحيرة بقصورها التي كانت مضرب الامثال في عظمتها مثل قصر الخورنق والسدير، وفي هذه القصور تبارى الشعراء بقصائدهم فأبدعوا في وصفها، ولعل شهرة الحيرة بالقصور الجميلة، جعلها مضرب الامثال، فقصر الخورنق بناه الملك النعمان الاول الملقب بالأعور، وهو النعمان بن امرئ القيس المعروف بابن الشقيقة، والخورنق كلمة معربة من لفظة (خورن كاه) الفارسية، وتعني موضع الاكل والشرب، ويقع هذا القصر على بعد نحو ميل الى الشرق من الحيرة. ومن أشهر القصور ايضا قصر السدير، ويقع بالقرب من الخورنق، والسدير كلمة معربه ايضا من (سه دل) الفارسية وتعن
ي القبة التي تتداخل فيها ثلاث قباب، وهو من نظام العمارة الحيرية، ويعرف بطراز الحاري بكمين، وقيل سمي بهذا الاسم لكثرة سواده وشجرة، ويقول ابن الكلبي بهذا الصدد: إنما سمي السدير لان العرب حيث اقبلوا ونظروا الى سواد النخل سدرت فيه اعينهم بسواد النخل فقالوا: ما هذا الا سدير. ومن قصور الحيرة ايضا قصر سنداد ويقع مابين الحيرة والابلة، وذكر ابن الكلبي انه كان منزلا لاياد، وهو القصر الذي ذكره الاسود بن النهشلي بقوله:
ماذا أؤمل بعد آل محرق
تركوا منازلهم وبعد اياد
أهل الخورنق والسدير وبارق
والقصر ذي الشرفات من سنداد
وبعد فقد كانت تلك بعض المعالم الاثرية في الحيرة خلال العصر الاسلامي المتمثل في الاموي والعباسي، اشتملت على أهم ما تميز به فن العمارة.
منقوول