في مفطرات الصوم]
الحمدُ لله المطَّلِع على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالم وإبْداعِ فُنُونِه، المدبِّر لكلٍّ منهُمْ في حركتِه وسكونه، أحسن كلَّ شيء وخلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الْحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، في أعْوادِه وغُصُونِه، مد الأرْضَ ووضعَها، وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا , في حنْدسِ اللَّيلِ ودُجُوْنه، أنزل القطر وبلا رذاذا، فأنقذ به البذور من اليُبْسِ إنْقاذاً {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ في جميع شأنه، وعلى عُمرَ مقْلقِ كِسْرى في إيوانِه، وعلى عثمانَ ساهرِ ليْلِهِ في قرآنِه، وعلى عليٍّ قالعِ بابِ خيْبرَ ومُزَلْزِل حُصونِه، وعلى آلِهِ وأصحابه المجتهدِ كُلٌّ منهم في طاعةِ ربِّه في حركتِه وسكونِه , وسَلَمَ تسليماً.
إخواني: قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ذكَرَ الله في هذه الآيةِ الكريمةِ أصُولَ مُفَطِّرات الصومِ، وذكَر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السُّنَّة تمامَ ذلك.
والْمُفَطِّرات سبعةُ أنْواع:
* الأول: الجماعُ وهو إيلاجُ الذَّكَرِ في الْفَرْجِ، وهو أعْظَمُها وأكْبَرُها إثماً،فمتى جامع الصائم بطل صومه فَرْضاً كان أوْ نَفْلاً، ثم إنْ كان في نهارِ رمضانَ والصومُ واجبٌ عليه لَزِمه مع القضاءِ الكفارةُ المغلَّظةُ، وهي عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فإنْ لم يَجدْ فصيام شهرينِ متتابعين لا يُفْطرِ بينهما إلاَّ لعُذْرٍ شرعيٍّ كأيَّام العيدين والتشريقِ، أو لعُذْرٍ حسِّيٍّ كالمَرضِ والسفر لغيرِ قصدِ الْفِطْر، فإنْ أفطَرَ لغيرِ عذرٍ ولو يوماً واحداً لزمه استِئْنافُ الصيامِ مِنْ جديدٍ ليحصلَ التتابُع، فإن لَم يستطعْ صيامَ شهرينِ متتابعين فإطعامُ ستِّين مسكيناً، لِكُلِّ مسكينٍ نِصفُ كيلو وعَشرةُ غراماتٍ من البُرّ الجيِّد ويجزي الرز عن البر لكن تجب ملاحظة الوزن، فإن كان الرز أثقل زِيدَ في وزنه بقدره، وإن كان أخف نقص من وزنه بقدر. وفي الحديث: «أن رجلاً وقع بامرأتِهِ في رمضانَ فاستَفْتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقال: " هَلْ تجدُ رقبةً؟ " قال: لا. قال: هل تستطيعُ صيامَ شهرين؟» (يعني متتابعين كما في الروايات الأخْرَى) ، «قال: لا. قال: " فأطْعِمْ ستين مِسْكيناً» (1) وهو في الصحيحين مطَوَّلا.
* الثاني: إنزالُ المنيِّ باختياره بتقبيل أو لمسٍ أو استمناء أو غير ذلك؛ لأنَّ هذا مِنَ الشَّهْوةِ الَّتِي لا يكونُ الصوم إلاَّ باجتِنَابها كما جاء في الحديث الْقُدْسيِّ: «يَدَع طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي» (2) فأما التقبيل والمس بدون إنزال فلا يفطِّر، لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُقَبِّل وهو صائمٌ ويباشر وهو صائمٌ ولَكِنَّه كان أَمْلَكَكُمْ لإِربِه» (3) وعن عمر بن أبي سلمة «أنَّه سأل النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُقَبِّل الصائمُ؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْ هذه " - يعني أمَّ سلمةَ -، فأخْبَرتْهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنعُ ذلك، فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقالالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما والله إني لأتقاكم لله وأخَشاكم له» (1) لكن إنْ كان الصائمُ يخشى على نفْسِه من الإِنزالِ بالتقبيلِ ونحوِه أو مِنَ التدَرُّج بذلك إلى الجماعِ لعدمِ قوَّتِهِ على كَبْحِ شَهْوَتِهِ، فإنَّ التقبيلَ ونَحْوَه يحرم حينئذٍ سَداً للذَّريعةِ وَصوناً لصيامه عن الفسادِ، ولذلك أمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم المتوضئ بالمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائماً خوفاً من تسرب الماء إلى جوفه.
وأمَّا الإِنزالُ بالاحتلام أو بالتَّفْكير المجرَّدِ عن العمل فلا يفطِّر؛ لأنَّ الاحتلامَ بغيرِ اختيارِ الصائَم، وأمَّا التَفكيرُ فمعفوٌ عنه لقولِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا ما لم تَعْملْ أو تتكلم» (2) .
الثالث: الأكلُ أو الشربُ، وهو إيصالُ الطَّعامِ أو الشراب إلى الْجَوْف من طريقِ الْفَمِ أو الأنفِ أيَّاً كان نوعُ المأكولُ أو المَشروب، لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} والسَّعُوط في الأنْفِ كالأكل والشرب لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث لَقِيْط بن صبرة: «وبالِغْ في الاستنشاقَ، إلاَّ أن تكون صائما» (3) فأما شم الروائح فلا يفطِّر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف.
* الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشراب وهو شيئانِ:
* أحَدُهما: حَقْنُ الدَّمِ في الصائمِ مثل أن يُصابَ بنزيفٍ فيُحقنَ به دمٌ فيفْطِرُ بذلك؛ لأن الدَّمَ هو غايةُ الغِذاءِ بالطعام والشراب، وقد حصلذلك بحقن الدَّم فيه (1) .
الشيء الثاني: الإِبُر المغذِّية الَّتِي يُكْتَفَى بها عن الأكل والشرب فإذا تناولها أفطر؛ لأنه وإنْ لم تكن أكْلاً وشرباً حَقِيْقةً، فإنَّها بمعناهُما، فَثَبَت لها حُكمهما، فأمَّا الإِبرُ غير المُغَذِّيةِ فإنَّها غيرُ مُفَطِّرةٍ سواءٌ تَنَاولها عن طريق العَضَلاتِ أو عن طريق الَعُرُوقِ، حَتَّى ولو وجدَ حرارتها في حلْقِهِ فإنَّها لا تُفْطِّرَ؛ لأنها ليست أكلاً ولا شُرباً ولا بمعناهما فلا يثْبت لها حُكمهما، ولا عِبْرةَ بوجودِ الطَّعْمِ في الحلْقِ في غير الأكل والشربِ، ولذا قال فُقُهاؤنا: لو لَطخَ باطنِ قَدمِهِ بِحَنْظَلٍ فوجد طعْمَه في حلقِه لم يُفْطِر، وقال شيخ الإِسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله في رِسالةِ (حقيقةُ الصيامِ) : ليس في الأدلة ما يَقْتضي أنَّ المُفَطِرَ الَّذِي جَعلهَ الله ورسوله مُفَطِّراً هو ما كَانَ واصِلاً إلى دماغٍ أو بَدنٍ، أوْ ما كان داخِلاً مِنْ مَنْفَذ، أو واصِلاً إلى جوفٍ ونحْو ذَلِك من المعاني التي يجعلُها أصحابُ هذه الأقاويل هي مَنَاط الْحُكْمِ عند الله ورسولِه، قال: وإذا لم يكنْ دليلٌ على تعليق الله ورسولِه الْحُكْمَ على هذا الْوَصفِ، كان قولُ القائلِ: إنَّ الله ورسوله إنَّما جعلا هذا مُفَطِّراً لِهذَا قولاً بلا عِلمٍ. انتهى كلامه رحمه الله.
* النوع الخامسُ: إخْراجُ الدَّمِ بالحجامةِ، لقولِ النبي صَلَّى الله عليه وسلم: «أَفْطَرَ الحاجم والمحجوم» (2) وهذا مذهبُ الإِمام أحمدَ وأكْثر فقهاءِ الحديث، وفي معنى إخراج الدم بالحجامة إخراجه بالفصد ونحوه مما يُؤَثِّر على البدن كتأثير الحجامة، وعلى هذا فلا يجُوزُ للصائم صوماً واجباً أن يتبرعَ بإخراج دمه الكثير الَّذِي يؤثر على البدن تأثير الحجامة إلا أن يوجدَ مضطر له لا تندفعضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه فيجوز للضرورة ويفطر ذلك اليوم ويقضي، وأما خروج الدم بالرُّعافِ أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإِبرة ونحوها فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذ لا يؤثر في البدن كتأثيرِ الحجامةِ.
* السادسُ: التَّقَيُّؤ عَمْداً وهو إخراجُ ما في المَعِدةِ من طعام أو شرابٍ عن طريق الْفَم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذَرَعه الْقَيءُ فليس عليه قضاءٌ ومَن استقاء عمدا فليقض» (1) ومَعْنَى ذرعه: غَلَبه، ويفطر إذا تعمد القيء إما بالفعل كعصر بطنه أو غمز حلقه، أو بالشم مثل أن بشم شيئاً ليقيء به، أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقيء به فيُفْطِرُ بذلك كلِّه، أمَّا إذَا حصلَ القيءُ بدونِ سببٍ منه فإنَّه لا يَضرُّ، وإذا راجت مَعِدتُهُ لَمْ يلزمْه مَنْعُ القَيءِ لأنَّ ذلك يَضُرُّه، ولكنْ يتركُه فلا يحاولُ القيءَ ولا منْعَه.
* السابعُ: خروجُ دمِ الْحَيْضَ والنِّفَاسِ، لقولِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المَرْأةِ: «أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟» ، فمتى رأتْ دمَ الْحَيْض أو النِّفاس فَسدَ صومُها سَواءٌ في أوَّل النهارِ أمْ في آخرِهِ ولو قبل الغُروبِ بَلَحظةٍ، وإنْ أحَسَّتْ بانتقال الدَّمِ ولم يَبْرُزْ إلاَّ بعد الغروبِ فصومُها صحيحٌ.
ويحرمُ على الصائمِ تناوُلُ هذه المفُطِّراتِ إن كان صَومُه واجباً كصومِ رمضان والكفارةِ والنَّذْرِ إلا أن يكون له عذرٌ يبيح الفطرَ كسفرٍ ومرضٍ ونحوهما؛ لأن من تلبَّس بواجبٍ لزمه إتمامُه إلا لعذرٍ صحيح، ثم إن تناولها في نهارِ رمضانَ لغيِر عذرٍ وجب عليه الإِمساكُ بقيةَ اليوم والقضاءُ، وإلا لزمه القضاء دونَ الإِمساك، أما إن كان صومُه تطوعاً فإنه يجوز له الفطرُ ولو بدون عذر ولكن الْأَوْلَى الإتمام.إخواني: حافظُوا على الطَّاعات، وجانبُوا المعاصيَ والمحرَّمات، وابتهلوا إلى فاطر الأرض والسماوات، وتعرَّضُوا لنفحاتِ جودِه فإنَّه جزيلُ الْهبات، واعلموا أنه ليسَ لكم من دُنْياكم إلا ما أمضَيْتُموه في طاعةِ مولاكم، فالْغَنِيْمةَ الغنيمةَ قبلَ فواتِ الأوَان، والمرابَحَةَ المرابحةَ قبل حُلولِ الخُسْران.
اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات، واشغلنا بالأعمالِ الصالحات، اللهُمَّ جُدْ علينا بالْفضلِ والإِحسان، وعاملنا بالعفوِ والغُفْران، اللهُمَّ يسِّرْنا لليُسرى، وجنِّبْنا العُسْرى، واغْفِرْ لنا في الآخِرةِ والْأُولَى، اللهُمَّ ارزقنا شفاعةَ نبيِّنا وأوْردْنا حوضه، وأسقِنَا منه شربةً لا نظْمأ بعدَها أبداً يا ربَّ العالمين.
اللهُمَّ صَلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.

_________
هذا ما كنت أراه من قبل ثم ظهر لي أن حقن الدم لا يفطر؛ لأنه ليس أكلا ولا شربا ولا بمعناهما، والأصل بقاء صحة الصوم حتى يتبين فساده؛ لأن من القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالشك.