شروط الفطر بالمفطِّرات وما لا يفطِّر وما يجوز للصائم
الحمدُ لله الحكيم الخالق، العظيم الحليم الصادق، الرحيِمِ الكريمِ الرازِق، رَفَعَ السَّبْع الطرائق بدون عمَدٍ ولا عَلائقِ، وثبَّت الأرضَ بالجبالِ الشواهِق، تعرَّف إلى خلْقه بالبراهينِ والحقائِق، وتكفَّل بأرزاقِ جميع الخلائق، خلق الإِنسان من ماء دافق، وألزمه بالشرائع لوصل العلائق، وسامَحَه عنِ الخطأ والنسيانِ فيما لا يُوَافق، أحْمَدُه ما سكتَ ساكتٌ ونطقَ ناطِق، وأشْهَد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له شهادة مخلص لا منافِق، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الذي عمَّت دعوتُه النازل والشَّاهِق، صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه أبي بكرٍ القائمِ يومَ الرِّدَّةِ بالْحَزم اللائق، وعلى عُمَرَ مُدَوِّخ الكفارِ وفاتِح المغالق، وعلى عثمان مَا اسْتَحَلَّ حُرْمَتَه إلاَّ مارِق، وعلى عليٍّ الذي كان لِشَجاعَتِه يَسْلُك المَضَايق، وعلى آلِهِ وأصحابِه الذين كُلٌّ منهم على من سِواهُم فائِق، وسلَّم تسليماً.
إخواني: إن المُفطِّراتِ السابقةَ ما عدا الحيضَ والنِّفاس، وهي الجماعُ والإِنزالُ بالمباشرةِ والأكلُ والشربُ وما بمعناهما والحجامةُ والقيءُ، لاَ يُفَطِّر الصائمَ شَيءٌ منها إلاَّ إذا تَنَاولها عالماً ذاكرِاً مختاراً، فهذه ثلاثة شروطٍ:
* الشرطُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ عالماً، فإن كان جاهلا لم يفطر، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فقال الله: قد فَعَلْتُ (1) وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وسواءٌ كان جاهِلاً بالْحُكْمَ الشَّرْعِيِّ مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ هذا الشيءَ غير مُفَطِّرٍ فيَفْعَلَه، أو جاهِلاً بالحَالِ أيْ بالْوقْتِ مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فيأْكُلَ وهو طالِعٌ، أو يظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فيأكلَ وهي لم تَغْرُب، فلا يُفْطِر في ذلك كله، لما رُوِيَ عن عَدِي بن حاتِم رضي الله عنه قال: «لمَّا نزَلتْ هذه الاية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عَمدْتُ إلى عِقالَين أحَدُهما أسْودُ والآخَرُ أبْيَضُ فجعلتُهما تحت وِسادتِي وجعلتُ أنظُرُ إليهما، فلما تبيَّن لِي الأبيضُ من الأسْودِ أمسكتُ، فلمَّا أصبحت غدوت إلى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأخْبرتُه بالَّذِي صَنعتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن وِسادَك إذنْ لعرِيضٌ إن كان الخيطُ الأبيضُ والأسود تحت وسادك، إنَّما ذلك بياضُ النهارِ وسوادُ الليل» (2) فقد أكلَ عدّي بعد طلوعِ الْفَجْر ولم يمسكْ حتى تبين له الخَيْطان، ولم يأمُرُه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقضاءِ لأنه كان جاهلا بالحكم، وعن أسْماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالَتْ: «أفْطرْنَا في عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم غيم ثم طلعت الشمس» (3) ولم تذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرَهُمْ بالقضاءِ؛ لأنهم كانوا جاهِلينَ بالوقتِ، ولو أمَرهُمْ بالقضاءِ لَنُقِلَ لأنه ممَّا تُوَفَّرُ الدَّواعِي على نقلِهِ لأهميَّتِه، بل قالَ شيخُ الإسلام ابن تيمية في رسالة (حقيقة الصيام) : إنه نَقَل هشامُ بنُ عُرْوةَ أحدُ رواة الحديث عن أبيهِ عروةَ أنهم لم يؤمَرُوا بالقضاءِ، لَكنْ متى عُلِمَ ببقاءِ النهارِ وأن الشَّمسَ لم تغب أمْسكَ حتى تغيبَ.
ومثْلُ ذَلِكَ لَوْ أكَلَ بعد طلوع الفجرِ يظنُّ أنَّ الْفَجْر لَمْ يطْلُعْ فتبيَّن له بعد ذلك أنه قد طلعَ، فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّه كان جاهِلاً بالوقتِ، وقد أباح الله له الأكل والشرب حَتَّى يتبيَّنَ له الْفَجرُ، والمُباحُ المأذونُ فيه لا يُؤمَر فاعِلهُ بالقضاء، لكن متى تبيَّنَ له وهو يأكلُ أو يشربُ أن الشمسَ لم تغربْ أو أن الفجرَ قد طلع أمسك ولفظ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذرِه حينئذٍ.
* الشَّرطُ الثاني: أنْ يكونَ ذاكِراً , فإنْ كان ناسياً فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لمَا سبق في آيةِ الْبقرةِ، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قال: «من نَسِي وهُوَ صائمٌ فأكَلَ أو شرِب فليُتِمَّ صَوْمَه فإنَّما أطْعمَه الله وسقاه» (1) فَأَمْرُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتْمامِه دليلٌ على صحتِه، ونِسْبَةُ إطعام النَّاسِي وسقْيهِ إلى الله دليلٌ على عدم المؤاخذةِ عليه، لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ أمْسَكَ ولَفَظَ ما في فمه إن كان فيه شيء لِزَوال عُذْره حِيْنَئذٍ، ويجب على من رأى صائما يأكل أو يشربُ أن ينَبِّهه لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
* الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يكونَ مُخْتاراً، أي: مُتَنَاولاً لِلْمُفَطِّر باخْتيَاره وإرادته، فإنْ كانَ مُكرَهاً فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه؛ لأنَّ الله سبحانَه رَفَعَ الْحُكمَ عَمَّنْ كَفَرَ مُكْرَهاً وقلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإِيمانِ فقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فإذا رَفَع اللهُ حكْمَ الكفرِ عمن أُكْرِهَ عليه فمَا دونه أوْلى، ولقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2) فلوْ أكْرَهَ الرجلُ زوجتَه على الوطءِ وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها، ولا يحل له إكراهها على الوطءِ وهي صائمةٌ إلاَّ إنْ صامتْ تطوُّعاً بغير إذنه وهو حاضرٌ، ولو طارَ إلى جوفِ الصائم غُبارٌ أو دخل فيه شي من الماءِ بغيرِ اختيارِهِ فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاء عليه.

ولا يُفْطِر الصائمُ بِالْكُحْلِ والدواءِ في عينِه ولو وجد طعْمَه في حلْقِه؛ لأنَّ ذلك ليس بأكْلٍ ولا شُربٍ ولا بمعناهُما، ولا يُفطر بِتَقْطير دواءٍ في أذُنِه أيْضاً ولا بوضع دواءٍ في جرحٍ ولو وجد طعم الدواء في حَلْقِه؛ لأنَّ ذلك ليس أكْلاً ولا شُرباً ولا بمعنى الأكْلِ والشُّرب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (حقيقة الصيام) : ونحْنُ نعلَمُ أنه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يَدلُّ على الإِفْطارِ بهذه الأشَياءِ، فعَلِمْنَا أنَّها ليست مفطِّرة، قال: فإنَّ الصيامَ من دينِ المسلمين الَّذِي يحتاج إلى معرفته الخاصُّ والعامُّ، فلَوْ كانتْ هذه الأمورُ مما حَرَّمه الله ورسولُه في الصيامِ ويفْسُدُ الصومُ بها لكانَ هذا مما يجبُ على الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيانُهُ، ولو ذكر ذلك لَعَلِمَهُ الصحابة وبلَّغوه الأمة كما بلَّغوا سائر شرعه، فلما لم ينقُلْ أحدٌ من أهْلِ العلمِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك لا حَديثاً صحيحاً ولا ضعِيفاً ولاَ مُسْنداً ولا مُرسَلاً عُلِمَ أنَّه لم يَذكُرْ شَيْئاً من ذلك، والحديث المَرويُّ في الكْحلِ يعني «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالإِثمد الْمُرَوّح عندَ النَّوم وقال: " لِيَتَّقِهِ الصائم» (1) وقال شيخ الإِسلام أيضاً: والأحكام التي تحتاجُ الأمَّةُ إلى معرفتها لا بُدَّ أن يبَيِّنها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بياناً عاماً، ولا بُدَّ أنْ تَنْقُلها الأمَّةُ، فإذا انْتَفَى هذا عُلِمَ أن هذا ليس مِنْ دِيْنهِ. انتهى كلامُه رحمه الله، وهو كلامٌ رَصِينٌ مبنيٌ على براهينَ واضحةٍ وقواعد ثابتةٍ.
ولا يُفْطِر بِذَوْق الطعامِ إذا لم يَبْلعْه، ولا بشمِّ الطيب والْبخُورِ، لكن لا يسْتَنْشِقْ دُخانَ البَخُور لأنَّ لَهُ أجزاءً تصعدُ فربَّما وصلَ إلى المعدة شيء منه، ولا يفطر بالمضمضة والاستنشاقِ لَكِنْ لا يُبالغُ في ذلك لأنَّه ربَّما تهرَّب شيءٌ من الماءِ إلى جوفِه، وعن لَقِيْطِ بن صَبَرَةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسْبغِ الوضوء وخَلِّلْ بينَ الأصابع وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» .
ولا يُفْطِر بالتَّسَوُّكِ، بل هو سُنَّةٌ له في أول النهار وآخره كالمُفْطِرينَ لقولِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا أنْ أشقَّ على أمَّتِي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (1) وهذا عامٌ في الصائمينَ وغيرِهم في جميع الأوْقاتِ، «وقال عَامِرُ بنُ ربيعةَ رضي الله عنه: رأيتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» (2) .
ولا يَنْبَغِي للصائمِ تَطْهيرُ أسنانِهِ بالمعجُون لأنَّ له نفوذاً قويَّاً ويُخْشَى أنْ يتَسرَّبَ مع ريِقِهِ إلى جوفه، وفي السِّواكِ غُنْيَة عنه.
ويجوزُ للصائمِ أنْ يفعلَ ما يخفِّف عنه شِدَّة الحرِّ والْعَطشِ كالتبرُّد بالماءِ ونحوه، لما رُوِيَ عن بعض أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنهم قالوا: «رأيتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعُرَج (اسم موضع) يصبُّ المَاءَ على رأسهِ وهو صائم مِنَ الْعَطشِ أوْ من الْحَر» (3) وبلَّ ابنُ عُمَر رضي الله عنهما ثَوْباً فألْقَاه على نفْسِهِ وهو صائمٌ، وكان لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه حجَرٌ منْقُورٌ يشبِهُ الحَوضَ إذا وجدَ الحرَّ وهو صائمٌ نَزلَ فيه وكأنه والله أعلم مملوءٌ ماءً، وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم (4) .
إخواني: تفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بَصيرةٍ فإنَّه لا يستوي الَّذِين يعلمون والَّذِين لا يَعْلمُون، ومنْ يُرِدِ الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ.
اللهُمَّ فَقِّهْنَا في ديْنِنا، وارزقْنا العمل به، وثَبِّتْنَا عليه وتَوَفَّنَا مؤمِنين، وألْحِقنَا بالصالحين، واغفر لنا ولِوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.