فضل العشر الأخير من رمَضان


الحمدُ لله المتفردِ بالجلالِ والبقاء، والعظمة والكبرياء، والعز الذي لا يرام، الرب الصمدِ، الملِكِ الَّذِي لا يحتاجُ إلى أحَد، العليِّ عن مُداناةِ الأوهام، الجليل العظيم الَّذِي لا تدركُه العقولُ والأفْهامُ، الغنيِّ بذاتِه عن جميعِ مخلوقاتِه، فكلُّ مَنْ سواه مفتقرٌ إليه على الدَّوامَ، وَفَّقَ مَنْ شاء فأمَنَ به واستقام، ثم وَجَدَ لذة مناجاةِ مولاهُ فَهَجَر لذيذَ المنام، وصَحِب رُفقةً تتجافى جنوبُهم عن المضَاجع رغبةً في المقام، فَلَوْ رأيتَهم وَقَدْ سارتْ قوافلُهم في حَنْدسِ الظَّلام، فواحدٌ يسْأَلُ العفَو عن زَلَّته، وآخَرُ يشكو ما يجدُ من لَوْعَتِهِ، وآخَرُ شَغله ذِكْرُه عن مسألتِه، فسبحانَ من أيْقَظَهُمْ والناسُ نيام، وتبارك الَّذِي غَفَرَ وعفَا، وستَر وكَفَى، وأسْبَل على الكافةِ جميعَ الإِنعام، أحمده على نِعَمِهِ الجِسام، وأشكرهُ وأسألُه حفظَ نعمةِ الإِسلامِ.
وأشْهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، عَزَّ منْ اعتز به فلا يُضَام، وَذلَّ مَنْ تكبَّر عن طاعتِهِ ولَقِي الاثام، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي بَيَّنَ الحلالَ والحرام، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ الصدِّيق، الَّذِي هو في الْغَارِ خيرُ رفيق، وعلى عمَر بنِ الخطَّاب، الَّذِي وُفِّقَ للصواب، وعلى عثمان مصابِر البَلا، ومن نال الشهادة العظمى مِنْ أيْدِي العدا، وعلى ابنِ عمَّه عليٍّ بن أبي طالب وعلى جميع الصحبة والتابعينَ لهم بإحسانٍ مَا غابَ في الأفقِ غَارِب، وسلَّم تسليماً.
إخواني: لَقَدْ نَزَل بكم عشرُ رمضانَ الأخيرةُ فيها الخيراتُ والأجورُ الكثيرة، فيها الفضائلُ المشهورةُ والخصائص العظيمة:
* فمنْ خصائِصها أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجتهدُ بالعملِ فيها أكثرَ مِن غيرها، فعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخر ما لا يجتهد في غيره» (1) وعنها: قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ العَشرُ شَدَّ مِئزره وأحيا ليلَه وأيقظ أهله» (2) وعنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يَخْلِطُ العِشْرين بصلاةٍ ونومٍ، فإذا كان العشرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ» (3) .
ففي هذه الأحاديث دليلٌ على فضيلةِ هذه العشرِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم كان يجتهد فيه أكثر مما يجتهد في غيره، وهذا شاملٌ للاجتهادِ في جميع أنواع العبادةِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها، ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُحْيي ليلَه بالقيامِ والقراءةِ والذكرِ بقلبه ولسانِه وجوارِحِه لِشَرفِ هذه الليالِي وطلباً لليلةِ الْقَدْرِ التي مَنْ قامها إيمانَاً واحتساباً غَفَرَ اللهُ له ما تقدمَ من ذنبه، وظاهِرُ هذا الحديثِ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْيِي الليلَ كلَّه في عبادةِ ربِّه مِنَ الذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والاستعدادِ لذلِكَ والسحورِ وغيرها، وبهذا يحْصُلُ الجمْعُ بَيْنَه وبينَ مَا في صحيح مسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعْلَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ ليلةً حتى الصباحِ؛ لأنَّ إحياءَ الليل الثَّابتَ في العشرِ يكونُ بالقيامِ وغيرِه مِنْ أنْواعِ العبادةِ، والَّذِي نَفَتْه إحياءُ الليلِ بالقيامِ فَقَطْ، والله أَعلم.
وممَّا يدُلُّ على فَضيلةِ العشرِ من هذه الأحاديث أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يوقظ أهله فيه للصلاةِ والذكرِ حِرْصاً على اغتنام هذه الليالِي المباركةِ بِما هي جديرةٌ به من العبادةِ، فإنَّها فرصةُ الْعُمرِ وغنيمةُ لمنْ وفَّقه الله عز وجل، فلا ينبغي للمؤمنالعاقلِ أنْ يُفَوِّت هذه الفرصةَ الثمينةَ على نفسِه وأهلِه، فما هي إلاَّ ليَالٍ معدودةٌ ربَّمَا يدركُ الإِنسانُ فيها نفحةً من نَفَحَاتِ المَوْلَى فتكونُ سعادةً له في الدنيا والآخرةِ، وإنه لمِنَ الحرمانِ العظيمِ والخسارةِ الفادحةِ أنْ تَرى كثيراً مِنَ المسلمينَ يُمْضُون هذه الأوقاتَ الثمينة فيما لا ينفعُهم، يَسْهَرُونَ مُعْظَمَ الليلِ في اللهوِ الباطلِ، فإذا جاء وقتُ القيام نامُوا عنه وفوَّتوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعَلَّهُمْ لا يَدركونَه بعد عامِهم هَذَا أبَداً، وهذا من تلاعُبِ الشيطانِ بِهم ومَكْرهِ بهم وصَدِّهِ إياهُم عن سبيلِ الله وإغْوائِهِ لهم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} والعاقلُ لا يتخذُ الشيطانَ ولِيّاً من دَونِ الله مع عِلْمِهِ بَعَدَاوَتِهِ لَهُ؛ فإنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ للعقل والإِيمانِ قَالَ الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}
* ومن خصائص هذه العشر أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعْتَكِفُ فيهَا، والاعتكافُ: لُزُومُ المسجِد للتَّفَرُّغِ لطاعةِ الله عزَّ وجلَّ، وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنةِ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله عز وجل: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} واعتكف النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعتَكَفَ أصحابُه معه وبعْدَه، فَعَنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ اعتَكَفَ العشرَ الأوَّلَ من رمضانَ، ثم اعتكف العشر الأوسْط، ثم قال: " إني اعتكِفُ العشرَ الأوَّل الْتَمِسُ هذه الليلةَ ثم أعْتكِفُ العشرَ الأوسطَ "، ثم أُتِيْتُ فقيل لي: " إنها في العشرِ الأواخرِ فمن أحبَّ منكم أنْ يعتكف فليعتكف» (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشرالأواخرِ مِنْ رمضانَ حتى توفَّاه الله عزَّ وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده» (1) وعنها أيضاً قالت: «كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكفُ في كلِّ رمضانَ عشرةَ أيامٍ، فلما كان العامُ الذي قُبِضَ فيه اعتكفَ عشرين يوماً» (2) وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكِف العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ فلم يعتكفْ عاماً، فلما كان العامُ المقبلُ اعتكفَ عشرينَ» (3) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أرادَ أن يعتكفَ صلَّى الفجرَ ثم دخل مَعْتَكَفَهُ فاستأذنَته عائشةُ فإذِنَ لها فضربتْ لها خِبَاء، وسألت حفصةُ عائشةَ أنْ تستأذن لها ففعلتْ فضربتْ خِبَاءً، فلما رأتْ ذلك زينبُ أمَرَتْ بخباءٍ، فضُرِبَ لها، فلما رأى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأخْبِيَة قال: " ما هَذا؟ " قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آلْبِرَّ أردْنَ بِهذا؟ انْزعُوها فلا أراها "، فنُزِعَتْ وترَك الاعتكاف في رمضانَ حتى اعتكف في العشر الأول من شوال» (4) وقال الإِمامُ أحمدُ بنُ حنبلَ رحمه الله: لا أعْلَمُ عن أحدٍ من العلماءِ خلافاً أنَّ الاعتكافَ مَسْنونٌ.
والمقصود بالاعتكاف: انقطاعُ الإِنسانِ عن الناسِ لِيَتَفَرَّغَ لطاعةِ الله في مسجدٍ من مساجِده طلباً لفضْلِهِ وثوابِهِ وإدراكِ ليلة القَدْرِ، ولذلك ينْبغِي للمعتكفِ أنْ يشتغلَ بالذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والعبادةِ، وأن يتَجنَّب ما لا يَعنيه من حديثِ الدنيَا، ولا بأسَ أنْ يتحدثَ قليلاً بحديثٍ مباحٍ مع أهْلِه أو غيرهم لمصلحةٍ، لحديث صَفِيَّةَ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتكفاً فأتَيْتُه أزورُه ليلاً فحدثتُه ثم قمتُ لأنْقَلِبَ (أي: لأنصرفَ إلى بيتي) فقامَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معِي» (الحديث) (5) .
ويحرُمُ على المعتكفِ الجِماعُ ومقدِّماته من التقبيلِ واللَّمسِ لشهوةٍ لقولِه تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وأمَّا خُروجُه من المسجدِ فإنْ كان بِبَعْض بدنِه فلا بأسَ به لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِج رأسَه مِنَ المسجِدِ وهو معتكفٌ فأغسله وأنا حائض» (1) وفي رواية: «كانت ترجِّل رأس النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي حائضٌ وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه» ، وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام:
* الأوَّلُ: الخروجُ لأمرٍ لا بُدَّ منه طبعاً أوْ شرعاً كقضاءِ حاجةِ البولِ والغائِط والوضوءِ الواجبِ والغُسْلِ الواجِب لجنابَةٍ أوْ غيرها والأكلِ والشربِ، فهذا جائزٌ إذا لم يُمْكنْ فعْلُهُ في المسجدِ، فإنْ أمكنَ فِعُلُه في المسجدِ فلاَ، مثلُ أنْ يكونَ في المسجدِ حَمَّامٌ يمكنُه أنْ يقضيَ حاجتَه فيه وأن يغتسلَ فيه، أوْ يَكونَ له من يأتِيْهِ بالأكِل والشربِ فلا يخرجُ حينئذٍ لعدمِ الحاجة إليه.
* الثاني: الخروج لأمْر طاعةِ لا تجبُ عليهِ كعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ ونحو ذلك، فلا يفعله إلاَّ أنْ يشترطَ ذلك في ابتداءِ اعتكافِه، مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعودَه أو يخشى من موته، فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجَه لِذَلِكَ فلا بأْسَ به.
* الثالث: الخروجُ لأمْرٍ ينافي الاعتكافَ كالخروج للبيعِ والشراءِ وجماعِ أهْلِهِ ومباشرتِهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرطٍ ولا بغيرِ شرطٍ؛ لأنه يناقضُ الاعتكافَ وينافي المقصودَ منه.
* ومن خصائِص هذه العشر أنَّ فيها ليلةَ الْقَدْرِ التي هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، فاعْرفوا رحمكم الله لهذه العشر فَضْلَها، ولا تضيِّعوها فوَقْتُها ثمينٌ وخيرُها ظاهِرٌ مبينٌ.
اللهُمَّ وفِّقْنا لِمَا فيهِ صلاحُ دينِنا ودنيانَا، وأحْسِنْ عاقَبَتَنا وأكْرِمْ مثَوانا، واغفر لنَا ولوالِدِينَا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.