من أيام رمضان




في دولة المرابطين بالأندلس


محمود ثروت أبو الفضل






يمتلئ التاريخ الإسلامي على امتداد أيامه بكثير من الانتصارات والفتوحات والبطولات والأيام المشهودة، ويقع شهر رمضان في بؤرة تلك الأحداث والأيام التاريخية وعلى رأسها؛ حيث وقعت فيه العديد من تلك المشاهد.. وفي هذه الصفحات نواصل معكم مطالعة أحداث شهر رمضان على امتداد أيام ممالك ودول الخلافة الإسلامية الزاهرة.



في هذه الحلقة نطالع معكم أحداث شهر رمضان في أيام دولة المرابطين؛ والتي حكمت ما يزيد على قرن من الزمان (434- 541 هـ / 1042- 1147م)؛ والمرابطون هم قومٌ نذروا أنفسهم للجهاد وتوحيد المغرب الإسلامي على عهدهم، وينتمي أصلهم إلى قبيلة لمتونة، ولمتونة هذه بطن من بطون صنهاجة، أعظم القبائل البربرية، وهي بدورها فرع من فروع قبيلة البرانس الكبرى.



وقد بدؤوا دعوتهم الجهادية بالتوحد تحت زعامة أمير صنهاجة "إبراهيم بن يحيى"، والذي تأثر بعد رحلته للحج بالجو الذي كان عليه المشرق الإسلامي وقتها من طلب العلم والجهاد، فقرر إبلاغ أحد كبار علماء المذهب المالكي، وهو "أبو عمران الفاسي"، برغبته في توحيد القبائل تحت زعامته ومد سلطان الإسلام إلى أدغال إفريقيا، فبارك أبو عمران الفاسي هذه الدعوة وأرسله إلى تلميذ من تلاميذه بالسوس الأقصى يدعى أبا محمد "وجاج بن زلو اللمطي"، الذي بعث معه الفقيه عبدالله بن ياسين ليكون سندًا له في دعوته الإصلاحية والجهادية، وفي غضون سنوات قلائل كان إبراهيم بن يحيى قد وحد معظم قبائل صنهاجة، وانطلق إلى غانا لفتحها في قلب إفريقيا، وبسط عبدالله بن ياسين سلطانه الروحي على سائر قبائل تلك الصحارى، وجعل السلطة الزمنية ليحيى بن إبراهيم، ولما توفي الأمير يحيى بن إبراهيم، ندب عبدالله بن ياسين مكانه للرياسة الأمير "يحيى بن عمر بن تلاكاكين اللمتوني" لتولي شؤون الحرب والجهاد.



وكان المغرب يومئذٍ قد انقسم بعد انقضاء أمر الأدارسة إلى ممالك وإمارات عدة، تسودها مختلف القبائل البربرية، وضاق الفقهاء والناس بهذا التشرذم وتسلط النصارى عليهم، فبعثوا إلى المرابطين للمسير إليهم لفتح صفحة جديدة من انبعاث الإسلام والجهاد في الأندلس.



ويعد "يوسف بن تاشفين" أشهر أمراء المرابطين، وتعد فترة ولايته هي واسطة عقد الدولة المرابطية، وكان قد أنابه "أبو بكر بن عمر اللمتوني" زعيمًا على المرابطين، وذهب أبو بكر بنفسه لنشر الإسلام في السنغال وغيرها من بقاع إفريقيا، أما يوسف بن تاشفين، فلقد حارب حاييم بن منّ الله، وحارب صالح بن طريف؛ لأنهم ادعوا النبوة، وبدأ ينشر الإسلام حتى سيطر على معظم نواحي المغرب الجنوبية والوسطى، فلما عاد أبو بكر بن عمر اللمتوني، ووجد يوسف بن تاشفين وقد نشر الإسلام وضم مزيدًا من القبائل تحت حكمه، تنازل له عن الحكم وذهب إلى إفريقيا لاستكمال دعوته إلى الإسلام، وصارت دولة المرابطين بذلك تسيطر على ثلث إفريقيا.



بدأ يوسف بن تاشفين في الاحتكاك بملوك النصارى في الأندلس الذين تغلبوا على كثير من مقاليدها في ظل حالة التشرذم التي كانت عليها إمارات الأندلس في ظل حكم ملوك الطوائف، والتقى بهم في موقعة الزلاقة الشهيرة، حيث هزم ملكهم "ألفونسو السادس" ومد سلطانه على بلاد الأندلس، وقد حكم يوسف بن تاشفين أعظم إمبراطورية إسلامية قامت في الغرب الإسلامي، ففضلاً عن إنشاء الإمبراطورية المغربية الكبرى، ممتدة فيما بين تونس والمحيط، وما بين البحر وحدود السودان، قد انتهى بعد ظفره في موقعة الزلاّقة على جيوش إسبانيا النصرانية، إلى افتتاح ممالك الطوائف الأندلسية، وبسط سيادة الدولة المرابطية المغربية على إسبانيا المسلمة، وبذا كانت تمتد إمبراطوريته عبر البحر شمالًا حتى سرقسطة في شمال شرقي إسبانيا، وحتى شنترين وأشبونة في قلب البرتغال.







وقد ضعفت دولة المرابطين في عهد خلفاء يوسف بن تاشفين، وبدأ الوهن يدب في أوصالها؛ إذ توالى على الحكم أمراء ضعاف النفوس لم يستطيعوا الحفاظ على وحدة دولة المرابطين وانشغلوا بخلافاتهم السياسية.. وما أن وافت سنة 540 هجرية حتى انتهى حكم دولة المرابطين بسقوطهم أمام دولة الموحدين بالأندلس، وقد حكم دولة المرابطين ثمانية ملوك على النحو التالي:



الترتيب

الاسم

سنوات الحكم

1

يحيى بن إبراهيم

1042 - 1043م

2

عبدالله بن ياسين

1043 - 1055م

3

أبو بكر بن عمر

1055 - 1071م

4

يوسف بن تاشفين

1071 - 1106م

5

علي بن يوسف

1106 - 1143م

6

تاشفين بن علي

1143 - 1145م

7

إبراهيم بن تاشفين

1145 - 1145م

8

إسحاق بن علي

1145 - 1147م




ومن جملة أحداثها الرمضانية:

موقعة الزلاقة وهزيمة النصارى أمام المرابطين (رمضان 479 هـ):

تعد موقعة الزلاقة من أهم المعارك الحاسمة في تاريخ الأندلس والمغرب الإسلامي، حيث تم فيها دحر سلطان النصارى في بلاد الأندلس، وقطع غائلتهم التي كانت قد اشتدت في عهد ملوك الطوائف، حتى إن المسلمين صاروا يدفعون الجزية لألفونسو السادس بعد ما كانوا يأخذونها من حكام النصارى في تلك البلاد، ولما رأى فقهاء الأندلس هذه الحال المخزية قرروا الكتابة إلى المجاهدين لإنقاذهم من هذا الهوان، فساروا إلى القاضي عبدالله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد رأينا رأيًا نعرضه عليك، قال: ما هو؟ قالوا: نكتب إلى غرب إفريقية ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله، قال: نخاف إذا وصلوا إلينا، يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقية، ويتركون الفرنج ويبدؤون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا.




قالوا له: فكاتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وارغب إليه ليعبر إلينا، ويرسل بعض قواده.




ووافقهم على ذلك المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية، فكتبوا إلى ابن تاشفين، ففي الحال أمر يوسف بن تاشفين بعبور العساكر إلى الأندلس، وكان وقتها بمدينة سبتة، ثم أرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره، وسار حتى التقى بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان قد جمع عساكره أيضًا، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير لمساندة الجيش المرابطي.




ووصلت الأخبار إلى ألفونسو، فجمع فرسانه وسار من طليطلة، وعسكرت الجيوش الصليبية على بعد 3 أميال من جيش المسلمين على الضفة الأخرى من نهر جريرو، وسار يوسف بن تاشفين، والمعتمد بن عباد، حتى أتوا أرضًا يقال لها: الزلاقة، من بلد بطليوس، وأرسل ألفونسو إلى المعتمد في ميقات القتال، فحددوا يوم الاثنين للمعركة، فخدع ألفونسو المسلمين وبادر جيش المعتمد في صباح اليوم التالي، وهو الجمعة، غدرًا، وهاجم بقواته معسكر المعتمد؛ ظنًّا منه أن ذلك المخيم هو جميع عسكر المسلمين، ولم يعلم أن جيش ابن تاشفين قد عسكر في موقع آخر، فوقع القتال بينهم فصبر المسلمون، وقاوموا مقاومة عنيفة واستمرت المعركة حتى العصر ما بين المجموعة الأولى وقوات ألفونسو كلها حتى أرهق كل الطرفين، وأرسل المعتمد بن عباد إلى ابن تاشفين يُعلمه بداية المعركة بخدعة ألفونسو، فما كان من ابن تاشفين إلا أن أرسل جنوده على دفعات إلى أرض المعركة؛ مما أدى لتحسين موقف المسلمين، ثم عمد ابن تاشفين على اختراق معسكر الصليبيين ليقضي على حراسه ويشعل النار فيه، الأمر الذي أدى إلى تفرق جيش ألفونسو بين مدافع عن المعسكر ومحارب للقوات الإسلامية، ونجا ألفونسو في نفر يسير، وقطعت قدمه في المعركة ورجع معه 450 فارسًا أغلبهم مصابون، كما هرب الذين تبقوا من جيش ألفونسو ولم يصل منهم إلى طليطلة سوى 100 فارس، وجعل المسلمون من رؤوس القتلى كومًا كثيرةً، فكانوا يؤذنون عليها إلى أن جيفت فأحرقوها، وكانت الوقعة يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان، وأصاب المعتمد بن عباد بالمعركة جراحات في وجهه، وظهرت ذلك اليوم شجاعته، وغنم المسلمون كل ما لجيش ألفونسو من مال وسلاح ودواب وغير ذلك، وعاد ابن عباد إلى إشبيلية، ورجع يوسف بن تاشفين إلى الجزيرة الخضراء، وعبر إلى سبتة، وسار إلى مراكش مرة أخرى حيث كانت مقره ومركزه.




وقد تلقب يوسف بن تاشفين بلقب "أمير المسلمين" عقب هذا الغزو المبارك، حيث بايعه في ذلك اليوم - أي: عقب النصر - ملوك الأندلس وأمراؤها الذين شهدوا معه تلك الغزاة، وكانوا ثلاثة عشر ملكًا، وسلموا عليه "بأمير المسلمين"، وخرجت كتبه مصدرة عنه بذلك إلى العُدوة وبلاد الأندلس، فقرئت على المنابر، وفيها يخبرهم بما فتح الله عليه من النصر والظفر والفتح العظيم.




يقول د. "محمد عبدالله عنان" تعليقًا على هذه المعركة وأثرها:

"كانت موقعة الزلاّقة (479 هـ - 1086 م) موقعة الحسم، في مصاير إسبانيا المسلمة، سواء إزاء إسبانيا النصرانية، أو إزاء المرابطين؛ فقد انقشع الخطر الداهم الذي كان يهددها بالفناء العاجل، مذ سقطت طليطلة حصن الأندلس من الشمال في أيدي النصارى، وقد كتبت لها حياة جديدة، ولكن الزلاّقة كانت - من جهة أخرى - نذيرًا بأعظم تحول وقع في مصايرها منذ الفتح، ذلك أن المرابطين الذين قدموا إليها إخوانًا في الدين، وأصدقاء مجاهدين منجدين، انقلبوا عقب الزلاّقة إلى أعداء فاتحين".




سقوط سرقسطة وتسلميها للنصارى (رمضان 512 هـ):

كانت سرقسطة تمثل بالأندلس منذ عهد الإمارة - زعامة الأسر العربية، في الثغر الأعلى، واستمرت هذه الزعامة قائمة خلال القرن الخامس الهجري، أولًا في بني هاشم التجيبيين، ثم في خلفائهم بني هود، حتى وضع مقدم المرابطين حدًّا لهذا الوضع القبائلي بالقضاء على ملوك الطوائف، وكانت سرقسطة آخر القواعد التي سقطت في أيدي المرابطين، وذلك في أواخر سنة 503 هـ (1110 م).




وكان موقع سرقسطة موقعًا خطيرًا حساسًا؛ فقد كانت تلك المملكة المسلمة تقع بين الممالك النصرانية؛ بين إمارة برشلونة من الشرق، ومملكتي أراجون ونافار (نبرة) من الشمال، ومملكة قشتالة من الغرب؛ لذا كان النصارى يتحينون أي فرصة لضعف سلطان المرابطين للاستيلاء عليها ومد نفوذهم على قواعدها الهامة.




وفي عهد أمير المسلمين علي بن يوسف استغل النصارى فرصة خلو سرقسطة من والٍ يدير شؤونها بعد وفاة أميرها "أبي بكر بن إبراهيم بن تافلوت"، وانشغال أمير المرابطين "علي بن يوسف" بخوض عدة معارك بالبرتغال، وتورد المصادر الإخبارية أن علي بن يوسف قد عين في النهاية "عبدالله بن مزدلي" والي غرناطة ليكون واليًا لبلنسية وسرقسطة، وذلك في أواخر سنة 511 هـ (أواخر 1117م).




ويبدو أن الحاكم الجديد لم يستطع الصمود طويلًا أمام أطماع الممالك النصرانية؛ إذ سرعان ما فرض النصارى حصارًا على سرقسطة، بدأ في شهر صفر سنة 512 هـ، الموافق لشهر مايو سنة 1118م.




ولم يكن الجيش المحاصر مكونًا فقط من الأرجونيين، أعداء سرقسطة الأصليين، بل كان يضم طوائف عديدة أخرى من النصارى، والواقع أننا نجد أنفسنا في هذا الموطن أمام حملة صليبية حقيقية، حيث كان عدد الجيش المحاصر لسرقسطة خمسين ألف فارس.




وقد سارع علي بن يوسف بالكتابة إلى أمراء الأندلس بالمسير إلى أخيه تميم، وكان واليًا على شرق الأندلس؛ ليسيروا معه لاستنقاذ سرقسطة ولاردة، على وجه السرعة، وسار تميم إلى سرقسطة وخاض عدة معارك مع جيش النصارى هناك، حيث اشتبك عند لاردة في موقعة شديدة مع ألفونسو المحارب، وأنزل به هزيمة ساحقة، ولكنه بعد ذلك أدرك استحالة الحفاظ على سرقسطة وصعوبة استردادها في ظل إحاطة جميع الممالك النصرانية بها؛ مما اضطر تميمًا أن يعود على أثر ذلك إلى مقر ولايته بلنسية، ويترك أهل سرقسطة لمصيرهم المحتوم.




وقد وقع خلال الحصار الذي استمر سبعة أشهر كاملة معارك شديدة بين المسلمين والنصارى، اشترك فيها عبدالله بن مزدلي، آخر ولاة سرقسطة المسلمين، بقواته في هذه المعارك وأبلى فيها.




وفي خلال ذلك الحصار اعتلَّ الأمير "عبدالله بن مزدلي"، فتوفي في رجب، فكتم خبر وفاته أيامًا؛ حتى لا يعلم به ملوك النصارى، ثم أذيع فكان له أثر سيئ على جميع من بالمدينة، ومع نفاد الأقوات، وشدة الحصار، سلمت المدينة بمعاهدة في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان من عام 512 هـ، والذي يوافق 18 ديسمبر سنة 1118 م على الأرجح.




وكان سقوط سرقسطة أول ضربة موجعة حقيقية نالت دولة المرابطين وضعضعت هيبتهم العسكرية وهزت أركانها، وكانت بداية لزوال ملك المرابطين وانحساره، وجرأة ملوك النصارى على التهام إماراتهم في الأندلس.
يتبع