تفسير آيـة:
{بـسـم الله الـرحمـن الـرحـيـم}
الإمام السيد موسى الصدر


بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واغفر لي تلك الذنوب العظام، فإنه لا يغفرها غيرك يا رحمن يا علاّم.

قبل أن أبدأ بكلمتي في هذه الليلة أحب أن أعلّق بعض التعليقات على المجلس، في المثَل أنّ المستمع هو الذي يشجّع القائل المتكلم، أنا أريد أن أقترح أنّ الإخوان الذين تعبوا من تكاليف النهار ويتمنون أن يجتمعوا في هذه الحلقات ولكنهم نتيجةً لتعب النهار يبتلون بالنعاس أن يشرّفوا إلى مؤخرة المجلس حيث هناك كراسي مريحة جداً ويتركوا الصفوف الأمامية للذين يستمعون بوعي وبانتباه تام (مع الاعتذار طبعاً).

التعليق الثاني على كلام أخينا العلامة الشيخ "علي الزين" (حفظه الله)، حيث تجاوز على حقلي وقرأ من القرآن وتفسيره، واستفدنا منهما، وأريد أن أتجاوز عليه تطبيقاً لقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(البقرة:194) .

قال تفسيراً لكلام الإمام أنّ النعيم مفسَّر بولاية أهل البيت (ع) وبولاية أمير المؤمنين (ع)، وقد تلا من خطَبه ونهجه ما ملأ قلوبنا إيماناً وسروراً وأملا.

توضيحاً لهذه النقطة، وتمهيداً لما ورد هنا وهناك من تفاسير عن الأئمة الأطهار في شرح الآيات المباركة، فإنّ هناك روايات كثيرة في تفسير القرآن، حتى أن بعضهم ألّفوا كتباً من مجموعة الروايات الواردة في التفسير. مثلاً "تفسير الصافي" للسيد "محسن الفيض الكاشاني": كل التفسير من الروايات الواردة عن الأئمة في تفسير الآيات القرآنية. وتفسير "الدرّ المنثور" للسيوطي (طبعاً من إخواننا السنّة) ينقل جميع ما ورد من الأحاديث الشريفة في تفسير القرآن الكريم، وتفسير نور الثقلين ينقل الروايات الواردة عن الأئمة مسنداً في تفسير القرآن الكريم، وهناك تجد في الكتب الفقهية تفاسير كثيرة واردة عن الأئمة في تفسير القرآن الكريم.

هنا نقطة مهمة جداً يجب أن ننتبه لها، إنّ هذه التفاسير كما يقول الفقهاء تفسّر وتبيّن مصداقاً للآية الكريمة ولا تحددها، فمن باب المثل الشائع عند الفقهاء والمفسرين يقولون مثلاً: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}(الشعراء:182)، في التفسير أنّ القسطاس المستقيم هو علي ابن أبي طالب (ع).

طبعاً لا يقصد الإمام أن يقول أن المقصود من الآية الكريمة هو علي فحسب، بل يريد أن يفتح أمام المسلمين القارئين للقرآن باباً جديداً للتفكّر، فيقول لهم: ليس القسطاس ما تزنون به بضائعكم فقط كقسطاس و ميزان السكر أو الرز، ميزان المتر، ميزان الأرض. هذا القسطاس المتعارف، هذا الميزان المتعارف عند الناس. يريد أن يقول لهم: أيها المؤمنون، القرآن كلام الله، لا حدّ لعمقه، وله معانٍ كثيرة، وكلّما تعمقت بالقرآن تفهم من القرآن معنى أكثر وأشمل وأوسع، فالقسطاس مثلاً ليس الميزان العادي فحسب، وإن كان (معنى) القسطاس يحمل الميزان العادي، ولكن يشمل غيره، وتوضيح ذلك أنّ الميزان ما يوزَن به الشيء، فالشيء إن كان سكّراً أو خبزاً يوزَن بالميزان العادي، وإن كان قماشاً يوزَن بالأمتار، وإن كان حرارة يوزَن بميزان الحرارة، وإن كان سرعة السيارة يوزَن بالساعة التي تبيّن سرعة السيارة، وإن كان كهرباء فميزانها الميزانية.

وهكذا: لكل شيء ميزان، وميزان الإنسان هو علي ابن أبي طالب (ع)، فإذا تريد أن تفهم أنك موزون أو خفيف أو ثقيل، إذا تريد أن تفهم أنك مستقيم أو منحرف، فزن نفسك بعلي ابن أبي طالب (ع)، فهو الذي يقول (كما سمعتم من الإبن الحبيب) أنّ أصحابي وجماعتي يُعرفون بميزتين: المحافظة على أوقات الصلاة، ومواساة إخوانهم المؤمنين، فإذاً: ذكر علي من باب المثل للقسطاس وليس من باب الحصر.

وهذا الأسلوب اتبعه أئمتنا تعميقاً لفكر المسلمين ومحاولةً لإدراك أشياء جديدة من القرآن، وهكذا نجد أنّ الإمام الصادق والباقر (ع) اللذين كانا يعيشان في وقت التيارات الفكرية والعقائدية والسياسية والعلمية في المجتمع الإسلامي كانوا يحاولون دائما أن يبيّنوا الأحكام والحلول وحل الشبهات، ثم يقولون أنّ هذا وأشباهه يُعرف من كتاب الله، وهذا واضح في تفاسيرهم بكثرة.

وأما في باب النعيم: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(التكاثر:8)، النعيم: النعمة، ما هو أكمل النعم وأفضل النِعم في نص القرآن؟ نفهم من الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(المائدة:3)، أتممت عليكم نعمتي، فإذاً: النعمة التامة الكاملة هي ولاية علي ابن أبي طالب (ع).

فهل يمكن أنّ النعيم يشمل الخبز واللحم والراحة والصحة ولا يشمل الهداية والولاية وكمال النعمة وتمام الدين؟، فإذاً: النعيم حسب التفسير هو أكمل النِعم ومشمول للآية ومدلول من الآية من دون تردد، أمّا السبب في ذلك فهذا بحث عميق.

ولماذا اعتُبرت الولاية إكمال النعمة وإتمام الدين ورضا الله؟ فهذا بحث طويل سوف نذكره بإذن الله في الليالي القادمة في معنى الولاية ودور الولاية الذي ورد في الحديث الشريف أنّه: في يوم القيامة ما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية.

وأمّا كلمتي فهي في تفسير الآية الكريمة {بسم الله الرحمن الرحيم}.
قلنا أمس أن {بسم الله} معناه الظاهر هو ما نفهمه في هذا العصر (وفي كل عصر) أنّ الذي يبدأ عملاً أو يفتتح مؤسسة أو يدخل في مشروع أو يطالب بحق أو يحكم بشيء. يبدأ بإسم الشعب، أو بإسم الحاكم، أو باسم العدالة. فمعنى هذه الجملة في عُرفنا أنّ الحق، العدل، الشعب، الحاكم، هو الذي يعمل، والذي يقول باسمه هو الواسطة.

فنحن حينما نبدأ بعمل ما ونقول "بسم الله" يعني أن الله تعالى هو الذي يعمل ولكننا خلفاؤه وأمناؤه والمتكلمين باسمه والفاعلين بأمره، وقلنا أنّ هذا المفهوم مفهوم قرآني شامل وتربية إسلامية صحيحة، ويبدو من كثير من الأبحاث حقيقة هذا التفسير، ثم وصلنا من كلمة "بسم" الى كلمة "الله".

ما معنى "الله"؟ وما تفسير القرآن بالذات؟.

لا شك أن الله عرفه البشر منذ الأزل، حسب التفسير الديني أنّ الدين فطرة، يعني: البشر بحسب فطرته اهتدى الى الله والى خالق الكون، ولكن وحي الفطرة ضعيف ومبهم، ولهذا سرعان ما انحرف البشر وزاد في جوره واحتاج الى دعوة الأنبياء الذين يدعون الى الله. هذا الرأي الديني: أنّ الله معرفته فطـرة وضمير.
والتفسير العلمي يقول أنّ الدين فطرة، ويستند لإثبات ذلك بأدلة متعددة، فيقول مثلاً: في الاكتشافات الأثرية منذ أسبق العصور البشرية الى الآن نجد أن البشر كان يؤمن بالله الواحد، ففي اكتشافات أثرية لأقوام كانوا يعيشون في العصور الأولى، مثل الأقزام في أفريقيا، ومثل القبائل الذين كانوا كان يهاجرون من الهند عن طريق إيران وقفقاس وتركيا الى ألمانيا، ومثل الاكتشافات التي وُجدت في جنوب كاليفورنيا عند الهنود الحمر القدامى. في جميع هذه المكتشَفات نرى أنّ البشر الأولّي كان يؤمن بالإله الأسمى وبالله الواحد.

ثم يقول العلم أنّ التفسير الذي حاول أن يفسّر به الدينَ جماعاتٌ من العلماء في سابق الأزمان من أنّ الدين ردة الفعل البشري أمام الضعف والعجز والخوف والمصلحة. هذا تفسير خاطئ، لأنهم قالوا أنّ البشر في أول الخلق كان يخاف من العوامل الطبيعية، فالتجأ الى ملجأ وهو الله، أو أن البشر كان يعجز عن تفسير ما يدور حوله، فالتجأ الى تفسيره بخلق الله وأمثال ذلك.

يقول العلم أنّ هذا التفسير تفسير غير صحيح، لأنّ البشر لو لم يكن يعرف الله قبل أن يخاف كيف التجأ الى الله وهو لا يعرفه؟. أنت اليوم يهجم عليك عدو لك، فإذا عرفت استعمال السلاح الذي عندك تدافع عن نفسك بالسلاح، ولكن ضع السلاح عند الطفل الذي لا يعرفه ولا يعرف استعماله فلا يلجأ الى السلاح أبداً، فإذا التجأ البشر لخوفه أو لعجزه أو لجهله الى الله فلأنه كان يعرفه، ولكن معرفة خاطئة، فإذاً معرفة الله تسبق الخوف والعجز والضعف.

ولهذا علماء تاريخ الأديان في القرن العشرين كلهم متفقون على أنّ الإيمان بالله أسبق ظاهرة في تاريخ البشر، والإيمان بالله فطرة وليس حاصلاً من ردود الفعل البشرية أمام العوامل الطبيعية. فإذاً الله كان يعرفه البشر منذ الأزل، ولكن معرفة سطحية، فإذا لاحظنا التاريخ وتاريخ الأديان نجد أنّ الإنسان كان يعرف الإله، كان يعرف البارئ المبدع الخالق للكون.

ولكن ما هو خالق الكون؟ ومن هو؟

هنا تدرّج الإنسان في معرفته حسب مستوى وعيه، فبدأ في زمن ما بوجود قوة تخلق الكون أو شخص يخلق الكون، ولكن ما هي ميزات هذا الشخص؟ ما كان يعرفها، فترى أنّ القبائل البدائية كانوا يرجعون لسلطة الشيخ، شيخ القبيلة، رئيس القبيلة، فكانوا يتصورون أن الله خالق الكون شيء من قبيل شيخ القبيلة، رجل كبير ذو لحية بيضاء طويلة وعلى وجهه أثار العمر. هذا هو الله خالق الكون (بتصوّرهم). وكانوا يصوّرون الله كما يظنّون، ومنهم من كان يعتقد أن الله تجسّد فيما يحتاجون إليه، ولهذا نرى في تاريخ البشرية عبادة البقر، عبادة الشمس، عبادة البحر، وعبادة القمر، وعبادة الملائكة، وعبادة النجوم، وعبادة الأشجار. كل هذه الانحرافات مرتكزة على الشعور الأصلي البشري بأنّ له خالقاً، والخالق من جنس محبوبه، ما هو محبوبه؟ محل حاجته. إذا يحتاج الى البحر، الى البقر، الأرض، الشجر. فكان يرسم صورة الله حاجته ورغبته ومعرفته.

وهكذا الدين: مع تطوره أعطى صوراً مختلفة لله، فنرى الله في الديانة اليهودية صورة تشبه الملوك الجبابرة، وكانوا يسمونه "يهوه"، ونرى في التطوير المتأخر عند الديانة المسيحية الأولى أنهم كانوا يتصورون وجود الله كأب، الأب خالق العائلة، والله خالق الكون، الأب رازق العائلة، والله رازق الكون، والأب يرحم ويشفق ويربّي العائلة، وهكذا الله.

ثم تطورت الفكرة حتى بلغت القمة، ووصلت الى الفكرة الإسلامية حينما وصف القرآن الكريم خالق الكون بالله، والله في المفهوم الإسلامي وفي المفهوم المعاصر وفي قمة الفكر البشري هو ملتقى جميع القيَم، يعني: أيها البشر. تصوّر من الكمال ما تريد، فتجد الكمال هذا بأعلى مستوياته في الله، فالجمال كمال، والله جميل، والرزق والإرادة والخلق والرحمة كذلك. وكلها موجودة في ذات الله بصورة لا متناهية، والقدرة والإرادة والتكلّم والتصرّف والقيمومة والأولية و الآخرية. كل هذه الصفات تبلغ القمة في ذات الله، فالله هو مجمع جميع صفات الكمال، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا. هذا المفهوم من "الله" مفهوم جديد عرفته البشرية بكلمة "الله".

أما توصيف القرآن لله فتوصيف جميل جداً، فحينما تقرأ القرآن ترى في ناحية أن الإسلام يحاول أن يعظّم الله غاية التعظيم، فيقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(الزمر:67)، يعني: جميع الكرات السماوية، يعني: النجوم التي تبعد عنا مسيرة مليون سنة نورية، السنة النورية ما معناها؟ أنتم تعرفون أنّ النور في خلال ثانية واحدة يسير 300 ألف كلم، هذا الرقم في خلال الدقيقة، كم في خلال ساعة؟ في خلال يوم؟ وأسبوع؟ وسنة؟، مليون سنة نورية، كم يكون بُعد النجم والنجوم؟ وهناك أكثر وأكثر.

والعلم الحديث يشاهد أنه كلما وسّع مكبّرات ووسائل الرؤية والتلسكوبات التي ترى الأشياء البعيدة. كلما كبّرها يجد أنه ما وصل الى نهاية السماء، واليوم في بعض البلدان يوجد تلسكوب قطر العدسة فيها 14 متراً، ينظرون فيها فيرون أنهم ما وصلوا في الرؤية الى غاية الكواكب ونهاية السماء، ولهذا بعضهم اعتقد أنّ الكون في توسّع، وهذه النظرية مقبولة اليوم، ويشير إليها القرآن الكريم أيضاً: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}(الذاريات:47). وتفسير {َإِنَّا لَمُوسِعُونَ} في اللغة العربية يعني أن نوسّعها، أن نكبّرها، اعتقدوا بهذا لأنهم ما وصلوا الى نهاية السماوات.

هذه جزء من أجزاء السماوات، فيقول القرآن: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(الزمر:67) ، هذا تفسير القرآن عن الله، كم هو كبير؟ السماوات مطويات بيمينه، ونقول كل يوم "الله أكبر". كيف تفسرون "الله أكبر"؟ الله أكبر من كل شيء؟ لا، الله أكبر من أن يوصف، وإلا لا يقاس بالشيء، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، الله كبير جداً، ولا أكبر منه، بل أكبر من أن يوصَف، هذا من ناحية، ثم من ناحية ثانية حتى لا نجعل من كبر الله بعداً عنّا، حتى لا نشعر نحن أن الله الكبير الكبير لهذه الدرجة أنه بعيد بعيد عنا، يرجع من ناحية ثانية فيقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}(البقرة:186).

ويقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(ق:16)، ويقول:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(الأنفال:24). وهناك حديث يقول: "قلب المؤمن عرش الرحمان"، وحديث آخر: "أنا عند المنكسرة قلوبهم".

وهكذا الآثار والآيات والروايات تؤكد أنّ الله فينا ومعنا بالرغم من هذه العظمة الكبيرة الكبيرة اللامتناهية: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}(الحديد:4). فإذاً: الله الكبير الكبير معنا وفي قلبنا وأقرب إلينا من حبل الوريد، وبمرآنا ومسمعنا إذا خاطبناه، يسمع في أي ساعة، وفي أي مكان، وفي أي حالة، قل الله وكفى، يقول لك لبيك قريب إليك. يقول علي (ع) : "والله ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفيه ومعه"، طبعا ليست الرؤية بالعين، لأنّ القرآن يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103).
إذاً: الله الكبير العزيز قريب جداً إلينا، هذا فيما يعود الى ذاتنا. ثم يحاول الإسلام أن يملأ جوانب وجود الإنسان بالله، يقول: إذا حاربت في سبيل قضيتك ورسالتك ودينك فقد جاهدت في سبيل الله، وإذا أنفقت على الفقير فقد أنفقت في سبيل الله، وإذا عدت المريض فقد عدت الله، وإذا خدمت أخاك المؤمن فقد جاهدت في سبيل الله. "الساعي لخدمة أخيه المؤمن كالمتشحط بدمه في سبيل الله". يحاول أن يقول: كل فعل يصدر منك إذا كان لوجه الله فهو يوصلك الى الله مباشرةً.

ويتجاوز القرآن من هذا الحد، يعني: ما يحيط بالإنسان من الأفعال، فيدخل فيما يحيط بالإنسان من الكائنات والكون، فيقول أنّ الكون كله بأجمعه: أنظر إليه ترى أن فيه نظاماً ودقة وحركة وتنسيقاً ووحدة. تجد أنّ الكون بأجمعه متفاعل، فالبحر يموج ويتحرك للنسيم، والنسيم يحصل من الحرارة، والحرارة تنبع من نور الشمس، والشمس حارة لفاصلتها وبعدها عنّا، وبعدها عنّا نتيجة للتجاذب الكوني الموجود بين الكواكب كلها، فإذاً: موجة البحر متصلة بجميع الكائنات. كما أنّ النسبة بين الحرارة والرطوبة ونمو الأشجار وإشراق الشمس والأمطار وطول الإنسان ولونه ولون شعره.

كل شيء في كون منسجم ومتجاوب. حتى كأنّ الكون كله شيء واحد. أنت تقف أمام هذا الكون، كيف تفسّر الكون؟ قد تقول أنّ الكون مصنع كبير كل جزء من أجزاءه يقوم بعمل، وقد تقول أنّ الكون كله مسرحية كل جزء منها يلعب دوره، وقد تقول أنّ الكون كله لوحة فنية كل جزء منها تشكّل لوناً، لكن القرآن يقول أنّ الكون كله محراب كبير للسجود لله ولتسبيحه وللصلاة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ}(الحج:18)، ويقول أيضاً: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (الجمعة:1)، ويقول: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} (النور:41).

فإذاً: الطير يسبّح ويصلّي، والبحر مسبّح ومصلّ وساجد، والشجر مصلّ ومسبّح. وبهذا المنظار بإمكانك أن ترى أنّ ما حولك من الكون كلها عباد الله راهبون ساجدون خاشعون مسبّحون مصلّون. وهكذا يملأ القرآن الكون كله من الله، فإذاً: الله في تفسيرنا الكبير الكبير الكبير، والقريب القريب القريب، والذي يملأ وجودنا وما حولنا وكوننا، ولماذا يقول؟ ولماذا يربي؟.

مفهوم الله في الأديان وفي الإسلام مفهوم عظيم أيها الإخوان، كل الشريعة لأجل الله ولأجل معرفة الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(البيّنة:5)، جميع الشرائع حتى نعرف الله، ولا يمكن معرفة الله عن غير طريقة الشريعة، حينما نعرف الله، وكلما ازداد عرفاننا بالله ازداد سمونا وتقرّبنا الى الله، فإذاً: معرفة الله تشكّل عنصراً أساسياً في حياة الإنسان: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، أي: ليعرفوني، لماذا نقول ونصف ونهتم لأمر الله؟ لأن شعورنا بأنّ الله العظيم الذي السماوات مطويات بيمينه وهو فوق كل شيء وهو خالق كل شيء. هذا الله حينما نشعر بأنه معنا تزداد قوتنا لأننا متصلين بأقوى القوى وبأقدر القادرين، يزداد أملنا، فلا نيأس، يزداد تهيؤنا، فلا نتكاسل، يزداد إيماننا، فلا نخاف ولا نتردد ولا نشك، فالمعرفة بالله أساس كل كمال للإنسان، ولهذا نرى في الأدعية الكثير الكثير من هذه التوصيفات لأجل المعرفة والعبرة. وقد قرأنا في دعاء الافتتاح "الحمد لله الذي لا يُهتك حجابه ولا يُغلق بابه ولا يُردّ سائله ولا يخيب أمله، الحمد لله قاصم الجبّارين مبير الظالمين مدرك الهاربين نكّال الظالمين صريخ المستصرخين موضع حاجات الطالبين". فالله يملأ وجودنا وكوننا وأفعالنا.

هذا هو معنى الله، فليس مفهوم الله مفهوما تجريديا كما يريدون أن يقولوا، ولا مفهوماً مادياً كما يحاول بعضهم أن يتّهم به الإسلام، بل فيه من التجريدية والقرب ما يصفه أمير المؤمنين (ع): "داخل في الأشياء لا بالممازجة، وخارج عن الأشياء لا بالمزايلة، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين".

{بسم الله} يعني: نحن نقدم في عمل أو نسعى في طريق أو نمشي في مهمة بالاتكال على هذا الموجد العظيم، فترى تأثير {بسم الله} في حياتنا الى أي حد من العظمة، حينما أنت تبدأ نهارك وليلك وسعيك وسفرك وجهادك بإسم الله فلا شك أنك تنجح، وحينما تبدأ عملك من دون اسم الله فلا شك أن عملك أبتر. قل الله، ذلك بأنّ الله هو الحق، هذا هو معنى الله.

{بسم الله الرحمن الرحيم}، والرحمة بمعنيين الرحمانية والرحيمية. تعميق وتوسعة في مفهوم الرحمة، ولا نريد أن نبحث فيما قالوا عن معنى الرحمان ومعنى الرحيم، إلا أنّ الرحمان شمول الرحمة، والرحيم عمق الرحمة، ومهما كان فالله تأتي منه الرحمانية والرحيمية، والرحيمية منه هي الجانب الذي يملأ وجود الإنسان أملاً بالنجاح، ولهذا نحن في بدء كل عمل وفي شروع كل مهمة بحاجة الى جانب الرحمانية من الله حتى نطمئن بالرعاية، بالوصاية، بالمواكبة، بالمساعدة في التأييد وبالنجاح، ولهذا نبدأ عملنا بـ{بسم الله الرحمن الرحيم}.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته