وكانت بين عبس وذبيان، وكانت الحرب بينهما سجالاً وانتهت بصلح، وداحس والغبراء: اسما فرسين لقيس بن زهير، وتشتمل هذه الحرب أيام المريقب وذي حساء واليعمرية والهباء وفروق وقطن .

سار قيس بن زهير بن جذيمة العبسي إلى المدينة ليتجهز لقتال بنى عامر، ويأخذ بثأر أبيه زهير بن جذيمة الذي قتله خالد بن جعفر الكلابي العامري، فأتى أحيحة بن الجلاح يشتري منه درعاً موصوفة، فقال له: لولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها لك، ولكن اشترها بابن لبون. ففعل ذلك، وأخذ الدرع وكانت تسمى ذات الحواشي ووهبه أحيحة أدراعاً أخرى، وعاد إلى قومه، وقد فرغ من جهازه.

واجتاز بالربيع بن زياد العبسي، ودعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأر أبيه، فأجابه إلى ذلك. ولما أراد فراقه نظر الربيع إلى عيبته وقال له: ما في حقبيبتك ؟ فقال: متاع عجيب، لو أبصرته لراعك. وأناخ راحلته، وأخرج الدرع من الحقيبة، فأبصرها الربيع فأعجبته، ولبسها فكانت في طوله، فمنعها من قيس ولم يعطه إياها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، ولج قيس في طلبها، ولج الربيع في منعها.

فلما طالت الأيام على ذلك سير قيس أهله إلى مكة، وأقام ينتظر غرة الربيع، ثم إن الربيع سير إبله وأمواله إلى مرعى كثير الكلأ، وأمر أهله فظعنوا، وركب فرسه وسار إلى المنزل.

ولما بلغ الخبر قيساً سار إلى أهله وإخوته، فعارض ظعائن الربيع ، فوجد فيها أم الربيع فاطمة بنت الخرشب الأنمارية ، فاقتاد جملها ، يريد أن ير تهنها بالدرع حتى ترد إليه ، فقالت له : ما تريد يا قيس ؟ فقال : أذهب بكن إلى مكة ، فأبيعكن بها بدرعي ؟ فقالت : ما رأيت كاليوم فعل رجل ! أي قيس، ضل حلمك، أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد، وقد أخذت أمهم، فذهبت بها يميناً وشمالاً، فقال الناس في ذلك ما شاءوا، وحسبك من شر سماعه.

فعرف قيس ما قالت له، فخلى سبيلها، وأطرد الإبل، وسار بها إلى مكة، فباعها من عبد الله بن جدعان القرشي، واشترى بها خيلاً، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء.

ثم إن قيس بن زهير أقام بمكة، فكان أهلها يفاخرونه - وكان فخوراً- ، فقال لهم: نحوا كعبتكم عنا وحرمكم، وهاتوا ما شئتم، فقال له عبد الله بن جدعان: إذا لم نفاخرك بالبيت المعمور ، والحرم الآمن فبم نفاخرك ؟ فمل قيس مفاخرتهم وعزم على الرحلة ، وسر ذلك قريشاً ، لأنهم قد كانوا كرهوا مفاخرته ،فقال لإخوته : ارحلوا بنا من عندهم أولاً وإلا تفاقم الشر بيننا وبينهم ، والحقوا ببني بدر بن فزارة ، فإنهم أكفاؤنا في الحسب ، وبنو عمنا في النسب ، وأشراف قومنا في الكرم ، ومن لا يستطيع الربيع أن يتناولنا معهم ، ثم لحق ببني بدر.

وأجاره حذيفة بن بدر، وأخوه حَمَل بن بدر، فأقام فيهم ، وكان معه أفراس له ولإخوته لم يكن في العرب مثلها ، وكان حذيفة يغدو ويروح إلى قيس ، فينظر إلى خيله ، فيحسده عليها ، ويكتم ذلك في نفسه.

وأقام قيس فيهم زماناً يكرمونه وإخوته، ولما علم بذلك الربيع بن زياد غضب ونقم منهم ذلك، ولكن بنى بدر لم يتغيروا عن جوار قيس، فغضب الربيع، وغضبت بنو زياد لغضبه.

ثم إن حذيفة كره قيساً، وأراد إخراجه عنهم فلم يجد حجة، وعزم قيس على العمرة، فقال لأصحابه: إني قد عزمت على العمرة، فإياكم أن تلابسوا حذيفة بشيء، واحتملوا كل ما يكون منه حتى أرجع، فإني قد عرفت الشر في وجهه، وليس يقدر على حاجته منكم إلا أن تراهنوه على الخيل ، وكان قيس ذا رأى لا يخطئ فيما يريده، ثم صار يريد مكة.

زار الورد العبسى حذيفة بن بدر فعرض عليه حذيفة خيله، فقال: ما أرى فيها جواداً مبِرّاً فقال له حذيفة: فعند من الجواد المبر ؟ فقال: عند قيس بن زهير، فقال له : هل لك أن تراهنني عليه ؟ قال : نعم ، قد فعلت. فراهنه على ذكر من خيله وأنثى. ثم إن ورداً العبسى أتى قيس بن زهير وقال: إني قد راهنت على فرسين من خيلك ذكر وأنثى، وأوجبت الرهان، فقال: ما أبالي من راهنت غير حذيفة، فقال: ما راهنت غيره ! فقال قيس: إنك ما علمت لأنكد !

ثم ركب قيس حتى أتى حذيفة فوقف عليه، فقال له حذيفة: ما غدا بك ؟ فقال: غدوت لأواضعك الرهان، فقال حذيفة: بل غدوت لتغلقه، فقال قيس: ما أردت ذلك، فأبى حذيفة إلا الرهان، فقال قيس: أخيرك ثلاث خلال، فإن بدأت واخترت قبلي، فلي خلتان ولك الأولى، وإن بدأت فاخترت قبلك، فلك خلتان ولي الأولى. قال حذيفة: فابدأ، قال قيس: الغاية من مائة غلوة – [ الغلوة: الرمية بالنشابة ]، قال حذيفة: فالمضمار أبعون ليلة، والمجرى من ذات الإصاد [ ذات الإصاد: ردهة بين أجبل في ديار عبس، والردهة: نقير في حجر يجتمع فيها الماء ]. ففعلا ووضعا السبق على يدي أحد بنى ثعلبة بن سعد.

ثم ضمروا الخيل، فلما فرغوا استقبل الذي ذرع الغاية بينهما من ذات الإصاد وهي ردهة وسط هضب القليب فانتهي الذرع إلى مكان ليس له اسم. فقادوا الخيل إلى الغابة وجعلوا السابق الذي يرد ذات الإصاد، وأجرى قيس داحساً والغبراء، وحذيفة الخطّار والحنفاء. وملئوا البركة ماء، وجعلوا السابق أول الخيل يكرع فيها. وأقام حذيفة رجلاً من بنى أسد في الطريق، وأمره أن يلقى داحساً في الطريق فإن جاء سابقاً ردوا وجهه عن الغابة.

ثم إن حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى ينظران إلى الخيل كيف خروجها منه، فلما أرسلت عارضاها، فقال حذيفة: خدعتك يا قيس، فقال قيس: ترك الخداع من أجرى من مائة. ثم ركضا ساعة، فجعلت خيل حذيفة تسبق خيل قيس، فقال حذيفة: سبقت يا قيس. فقال قيس: جرى المَذَكّيات غلاب.

فلما أرسلت الخيل سبقها داحس سبقاً بيناً والناس ينظرون، فلما هبط داحس في الوادي عارضه الأسدي فلطم وجهه فألقاه في الماء، فكاد يغرق هو وراكبه ولم يخرج إلا وقد فاتته الخيل. وأما راكب الغبراء فإنه خالف طريق داحس لما رآه قد أبطأ، ثم عاد إلى الطريق، واجتمع مع فرسي حذيفة ، ثم سقطت الحنفاء وبقي الخطار والغبراء.

ثم إن الغبراء جاءت سابقة، وتبعها الخطار، ثم الحنفاء، ثم جاء داحس بعد ذلك والغلام يسير به على رسله، وأخبر الغلام قيساً بما صنع بفرسه. فأنكر حذيفة ذلك، وادعى السبق ظلماً، وقال: جاء فرساي متتاليين.

ومضى قيس وأصحابه حتى نظروا إلى القوم الذين ضربوا داحساً، وجاءه الأسدي نادماً على ضرب داحس، واعترف لقيس بما صنع، وبما أمره به حذيفة. فرجع قيس وأصحابه إلى حذيفة وأصحابه وقال: يا قوم إنه لا يأتي قوم إلى قومهم شراً من الظلم، فأعطونا حقنا، فأبت بنو فزارة أن يعطوهم شيئاً، وكان الخطر[ أي السباق يتراهن عليه ] عشرين من الإبل، فقالت بنو عبس: أعطونا بعض سبقنا فأبوا، فقالوا: أعطونا جزوراً ننحرها ونطعمها أهل الماء، فإن نكره القالة في العرب، فقال رجل من فزارة: مائة جزور وجزور واحدة سواء، والله ما كنا لنقر لكم بالسبق علينا، ولم نُسبق.

فقام رجل من بنى مازن بن فزارة فقال: يا قوم، إن قيساً كان كارهاً لأول هذا الرهان وقد أحسن في آخره ، وإن الظلم لا ينتهي إلا إلى شر ، فأعطوه جزوراً من نعمكم ، فأبوا ، فقام إلى جزور من إبله ، فعقلها ليعطيها قيساً ويرضيه ، فقام ابنه فقال : إنك لكثير الخطأ ، أتريد أن تخالف قومك، وتلحق بهم خزية بما ليس عليهم ، وأطلق الغلاء عقالها ، فلحقت بالنعم. فلما رأى ذلك قيس بن زهير احتمل عنهم ومن معه من بنى عبس.

ثم إن حذيفة لج في ظلمه، وأرسل إلى قيس ابنه ندبة يطالبه بالسبق، فلم يصادفه، فقالت له امرأته: ما أحب أنك صادفت قيساً. فرجع إلى أبيه فأخبره بما قالت. فقال: والله لتعودن إليه. ورجع قيس فأخبرته امرأته الخبر، فأخذت قيس زفرات. ولم ينشب ندبة أن رجع إلى قيس، فقال: يقول أبي: أعطني سبقي ، فتناول قيس الرمح فطعنه فدق صلبه ، وعادت فرسه إلى أبيه عاثرة ، ونادى قيس : يا بنى عبس ، الرحيل ! فرحلوا كلهم.

ولما أتت الفرس حذيفة علم أن ولده قتل، فصاح في الناس، وركب فيمن معه، وأتى منازل بنى عبس فرآها خالية، ورأى ابنه قتيلاً، فنزل إليه، وقبله بين عينيه ودفنوه. واجتمع الناس، فاحتملوا دية ندبة مائة عشراء، فقبضها حذيفة وسكن الناس.

وكان مالك بن زهير أخو قيس متزوجاً في فزارة وهو نازل فيهم، فأرسل إليه قيس: إني قد قتلت ندبة بن حذيفة ورحلت، فالحق بنا وإلا قتلت، فلم يجبه وقال: إنما ذنب قيس عليه.

ثم إن قيساً أرسل إلى الربيع بن زياد يطلب منه العود وإليه والمقام معه، إذ هم عشيرة وأهل، فلم يجبه ولم يمنعه، وظل مفكراً في ذلك.

وعاد حذيفة بن بدر فدس لمالك بن زهير فرساناً على أفراس من مسان خيله وقال: لا تنتظروا مالكاً إن وجدتموه أن تقتلوه، فانطلق القوم وقتلوه.

ولما بلغ عبساً مقتل مالك بن زهير جزعت عليه، وأتت بنو جذيمة حذيفة فقال بنو مالك بن زهير لمالك بن حذيفة: ردوا علينا ما لنا. فأشار سنان بن أبي حارثة على حذيفة ألا يرد أولادها معها، وأن يرد المائة بأعيانها، فقال حذيفة: أرد الإبل بأعيانها ولا أرد النسل، فأبوا أن يقبلوا ذلك.

وعلم الربيع بن زياد بمقتل مالك بن زهير، فجزع عليه، وأرسل إلى قيس عيناً بأتيه بالخبر، فرجع العين إلى الربيع فأخبره بما قال قيس، فبكى الربيع على مالك.

ولما علم قيس بجزع الربيع ركب هو وأهله، وقصدوا الربيع بن زياد، وهو يصلح سلاحه، فنزل إليه قيس، وقام الربيع فاعتنقا وبكيا، وأظهرا الجزع لمصاب مالك، ولقي القوم بعضهم بعضاً فنزلوا، فقال قيس للربيع:إنه لم يهرب منك من لجأ إليك ، ولم يستغن عنك من استعان بك ، وقد كان لك شر يومي ، فليكن لي خير يوميك ، وإنما أنا بقومي وقومي بي ، وقد أصاب القوم مالكاً ، ولست أهم بسوء ، لأني إن حاربت بنى بدر نصرتهم بنو ذيبان ، وإن حاربتني خذلتني بنو عبس ، إلا أن تجمعهم عليّ ، وأنا والقوم في الدماء سواء ، قتلت ابنهم وقتلوا أخي ، فإن نصرتني طمعت فيهم ، وإن خذلتني طمعوا فيّ.

فقال الربيع: يا قيس، إنه لا ينفعني أن أرى لك من الفضل مالا أراه لي ، ولا ينفعك أن ترى لي مالا أراه لك ، وأنت ظالم ومظلوم ، ظلموك في جوادك ، وظلمتهم في دمائهم ، وقتلوا أخاك بابنهم ، فإن يبؤ الدم بالدم ، فعسى أن تلقح الحرب.

وبعث قيس إلى أهله وأصحابه، فجاءوا ونزلوا مع الربيع، وبلغ حذيفة أن الربيع وقيسًا اتفقا، فشق ذلك عليه واستعد للبلاء.

ثم تلاقت جموع بنى ذيبان وعبس واقتتلوا قتالا شديداً، وكانت الشوكة في ذيبان، وقتل منهم عوف بن بدر، وقتل عنترة ضمضم أبو الحصين المري، والحارث بن بدر، وأسر الربيع حذيفة بن بدر، وكان حر بن الحارث العبسى قد نذر إن قدر على حذيفة أن يضربه بالسيف ، وله سيف قاطع يسمى الأصرم ، فأراد ضربه بالسيف لما أسر وفاء بنذره ، فنهوه عن قتله ، وحذروه عاقبة ذلك ، فأبى إلا ضربه ، فوضعوا عليه الرجال ، فضربه فلم يصنع السيف شيئاً ، وبقى حذيفة أسيراً.

فاجتمعت غطفان وسعوا في الصلح، واصطلحوا على أن يهدروا دم بدر بن حذيفة بدم مالك بن زهير، ويعقلوا عوف بن بدر [ أي يؤدوا ديته ]، ويعطوا حذيفة عن ضربته التي ضربه حر مائتين من الإبل، وأن يجعلوها عشاراً كلها وأربعة أعبد، وأهدر حذيفة دماء من قُتِل من قومه ذيبان في الوقعة، وأطلق من الأسر.

فلما رجع إلى قومه ندم على ذلك، فساءت مقالته في بنى عبس، وركب قيس بن زهير وعمارة بن زياد فمضيا إلى حذيفة وتحدثا معه، فأجابهما إلى الاتفاق، وأن يرد عليهما الإبل التي أخذ منهما – وكانت توالدت عنده – وبينما هم في ذلك إذ جاءهم سنان بن أبي حارثة المري ، فقبح رأي حذيفة في الصلح ، وقال : إن كنت لا بد فاعلاً فأعطهم إبلا عجافاً مكان إبلهم ، واحبس أولادها ، فوافق ذلك رأى حذيفة ، وأبى قيس وعمارة ذلك.

ثم إن مالك بن بدر- أخو حذيفة - خرج يطلب إبلاً له ، فرماه جندب أحد بنى رواحة بسهم فقتله ، ومن ثم أخذ الشر يعظم بين عبس – ويرأسهم الربيع بن ذبيان - وذيبان – ويرأسهم حذيفة بن بدر- ، وهزمت بنوعبس واتبعتهم بنو ذيبان.

فأشار قيس على الربيع بن زياد أن يماكرهم، وخاف إن قاتلوهم ألا يقوموا لهم، وقال: إنهم ليسوا في كل حين يجتمعون، وحذيفة لا يستنفر أحداً لاقتداره وغلوه، ولكن نعطيهم رهائن من أبنائنا فندفع حدهم عنا، فإنهم لن يقتلوا الولدان ولن يصلوا إلى ذلك منهم مع الذين نضعهم على أيديهم، وإن هم قتلوا الصبيان فهو أهون من قتل الآباء، وكان رأي الربيع مناجزتهم فقال: يا قيس، أملأ جمعهم صدرك ؟

وقال قيس: يا بنى ذيبان، خذوا منا رهائن إلى أن تنظروا، فقد ادعيتم ما تعلم وما لا نعلم ، ودعونا حتى نتبين دعواكم ، ولا تعجلوا إلى الحرب ، فليس كل كثير غالباً ، وضعوا الرهائن عند من ترضون به ونرضاه ، فقبلوا ذلك ، وتراضوا أن تكون الرهائن عند سبيع بن عمرو ( من بنى ثعلبة بن زيد بن ذيبان) ، فمات سبيع وهم عنده ، فلما حضرته الوفاة قال لا بنه مالك : إن عندك مكرمة لا تبيد إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة ، وكأني بك لو قد مت أتاك حذيفة خالك ، فعصر عينيه وقال : هلك سيدنا ، ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه ، فقتلهم ، فلا شرف بعدها ، فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم.

فلما ثقل سبيع جعل حذيفة يبكى ويقول: هلك سيدنا، فوقع ذلك في قلب مالك، فلما هلك سبيع أطاف حذيفة بابنه مالك فأعظمه، ثم قال له: يا مالك، إني خالك، وإني أسن منك، فادفع إليّ هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا فإنه قبيح أن تملك شيئاً، ثم لم يزل به حتى دفعهم إليه باليعمرية.

وأحضر أهل الذين قتلوا فجعل كل يوم يبرز غلاماً فينصبه غرضاً ويرمى بالنبل ثم يقول: ناد أباك، فينادي أباه، حتى يمزقه النبل، ويقول لواقد بن جندب: ناد أباك. فجعل ينادى يا عماه - خلافاً عليهم – ويكره أن يأبس – الأبس : القهر والحمل على المكروه- أباه بذلك ، وقال لابن جنيدب بن عمرو بن عبدالأسلع : ناد جنيبة – وهو لقب أبيه - ، فجعل ينادي : يا عمراه ! باسم أبيه حتى قتل، وقتل أيضاً عتبة بن شهاب بن قيس بن زهير. و لما بلغ ذلك بني عبس أخذوا ما كانوا جمعوا من الديات ، فحملوا عليه الرجال واشتروا السلاح.

ثم خرج قيس في جماعة ، فلقوا ابناً لحذيفة ، ومعه فوارس من ذبيان فقتلوهم ، فجمع حذيفة قومه وسار إلى عبس وهو على ماء يقال له عراعر ، فاقتتلوا وكان الظفر لذيبان ، ورجعت سالمة.

ثم جد حذيفة في الحرب ، وكرهها أخوه حمل بن حذيفة ، وندم على ما كان ، وقال لأخيه في الصلح فلم يجب إلى ذلك ، وجمع الجموع من أسد وذيبان وسائر بطون غطفان وسار نحو بني عبس.

ولما بلغ بني عبس أنهم قد ساروا إليهم تشاوروا بينهم، فقال قيس: أطيعوني فوالله لئن لم تفعلوا لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري. قالوا: فإنا نطيعك. فأمرهم فسرحوا السوام والضعاف بليل ، وهو يريدون أن يظعنوا من منزلهم ذلك ، ثم ارتحلوا في الصبح وقد مضى سوامهم وضعافهم.

فلما أصبحوا طلعت عليهم الخيل، فقال قيس: خذوا غير طريق المال – أي غير طريق الإبل-، فإنه لا حاجة للقوم أن يقعوا في شوكتكم، ولا يريدون بكم في أنفسكم شراً من ذهاب أموالكم، فأخذوا غير طريق المال. ولما رأى حذيفة الأثر قال: أبعدهم الله ! وما خيرهم بعد ذهاب أموالهم ؟ ثم اتبع المال وسارت ظعن بنى عبس والمقاتلة من ورائهم، وتبع حذيفة وبنو ذيبان المال، فلما أدركوه ردّوا أوله على آخره، ولم يفلت منه شيء، وجعل الرجل يطرد ما قدر عليه من الإبل، فيذهب بها، ثم تفرقوا واشتد الحر.

فقال قيس بن زهير: يا قوم ، إن القوم قد فرق بينهم المغنم ، فاعطفوا الخيل في آثارهم ، فلم تشعر بنو ذيبان إلا والخيل دوائس – أي يتبع بعضها بعضاً - ، فلم يقاتلهم كبير أحد ، إذ أن همة الرجال من بني ذيبان كانت أن يحرر غنيمته ويمضي بها ، ووضعت بنو عبس فيهم السلاح ، وقتلوا منهم مالك بن سبيع التغلبي سيد غطفان وكثيراً غيره حتى ناشدتهم بنو ذيبان البقية ، وانهزمت ذيبان وحذيفة معهم.

ولم يكن لعبس هم غير حذيفة، فأرسلوا خيلهم مجتهدين في أثره، ثم تبعه قيس بن زهير والربيع بن زياد، وقرواش بن عمرو، وريان بن الأسلع، وشداد بن معاوية وغيرهم، وقال لهم قيس: كأني بالقوم وردوا جفر الهباء ونزلوا فيه، وأنا أعلم أن حذيفة بن بدر إذا احتدمت الوديقة مستنقع في الماء – الوديقة: شدة الحر-.

وكان حذيفة قد استرخى حزام فرسه، فنزل عنه ووضع رجله على حجر مخافة أن يقتص أثره، وعرفوا فرسه فاتبعوه، ومضى حتى استغاث بجفر الهباء وقد اشتد الحر، فرمى بنفسه ومعه حمل بن بدر وجماعة من أصحابه، وقد نزعوا سروجهم وطرحوا سلاحهم، ووقعوا في الماء، وتمعكت دوابهم – أي تمرغت -.

ولما اقترب منهم قيس بن زهير وأصحابه أبصرهم حمل بن بدر فقال لهم: من أبغض الناس أن يقف على رؤوسكم ؟ فقالوا : قيس بن زهير والربيع بن زياد، فقال : هذا قيس بن زهير قد أتاكم ، ولم ينقض كلامه حتى وقف قيس وأصحابه وحالوا بينهم وبين الخيل ، وحمل جنيدب على خيلهم فاطّردها ، واقتحم عمرو بن الأسلع وشداد عليهم في الجند ، وهم ينادون : لبيكم لبيكم ، وقال لهم قيس : كيف رأيتم عاقبة البغي ؟ فقال حذيفة: يا بنى عبس: فأين العقول والأحلام ؟ ناشدتك الله والرحم يا قيس: فضربه أخوه حمل بين كتفيه وقال: (اتق مأثور الكلام).

ثم قال حذيفة لقيس: بنو مالك بمالك، وبنو حمل بذي الصبية ونرد السبق، قال قيس: لبيكم لبيكم، قال حذيفة: لئن قتلتني لا تصلح غطفان بعدها أبداً. فقال قيس: أبعدهم الله ولا أصلحها. ثم إن قرواش بن هني جاء من خلف حذيفة، فقال له بعض أصحابه: احذروا قرواشاً وكان قد رباه، فظن أنه سيشكر ذلك له، قال: خلوا بين قرواش وظهري، فنزع له قرواش بمعلبه – وهو نصل طويل عريض - فقصم به صلبه ، وابتدره الحارث بن زهير وعمرو بن الأسلع فضرباه بسيفهما حتى أجهزا عليه.

وقتل الحارث بن زهير حمل بن بدر، واستبقوا حصن بن حذيفة لصباه.

أيام العرب في الجاهلية ، لمحمد أحمد جاد المولى وصاحباه ، ص 246

منقووووووووووووووول