نبذة تاريخية:
لا جرم أنَّ من يتناول تاريخَ العلوم عند المسلمين بالبحث والدراسة سيتبين له، إذا ما درس مستوى المعرفة التي كانت عند سكَّانِ الجزيرة العربية قبيل الإسلام، والمستوى الذي كان إبَّان ذلك يسودُ البلاد المجاورة - سيتبين له بجلاءٍ أثرُ الإسلام العظيم في هذه النقلة الجبارة التي شهِدها سكان الجزيرة العربية: من الأميَّة المطلقة تقريبًا، إلى الرِّيادة في مجالات العلم والفكر، وذلك خلال مدة قصيرةٍ جدًّا في تاريخ الحضارات.

إن البيئة الصحراوية، والبلاد الواسعة الشاسعة المترامية الأطراف، التي كان يعيش فيها العربي، بعيدًا عن العمران، متنقلاً براحلتِه وماشيتِه من هنا وهناك - إن هذه البيئة أكسبَتْه صفاءً في الذهن، كصفاءِ السماء التي يتنقل تحتها خلال معظمِ أيام السَّنة، لكنه مع هذا بقِي أميًّا، ولم يشتغل بعلمٍ، ولم يسْعَ إليه، لا عن طريق مدارسَ منظمة، ولا عن طريق حلقات مرتبة، وما كان له أن يفعل ذلك، وهو الذي لا يفتأُ يتنقَّلُ طلبًا للكلأ والمرعى، في بلاد تندُرُ فيها الأمطارُ، وتخلو فيها الأنهار.

أما المعرفة القليلة التي كانت عنده في النجوم أو في الطبِّ أو في بعض المعارف الأخرى، فما كانت لتكونَ لولا ظروفُ الحياة التي يعيشها، والتي اضطرَّته أن يكسِبَها لحاجته الماسَّةِ إليها في هذه البيئةِ الجافية.

خلافًا لذلك فإن الوضعَ الذي ساد البلدان المجاورة، امتاز بوجود مدارسَ علميَّةٍ فيها ومنذ سنين بعيدة، من ذلك مثلاً مدرسة الرُّها التي أقامها النساطرة عام 431م، تلك المدرسة التي بقيت نيِّفًا وخمسين عامًا، منهلاً ساطعًا تنتشر منه معرفةُ اليونان في الشرق، إلا أن نساطرةَ هذه المدرسة ما لبثوا أن فرُّوا إلى بلاد فارس، عام 489م -وقد وجدوا عند حكَّامها الساسانيِّين الحمايةَ والرعاية- خوفًا من البطش والتنكيل الذي سلَّطه زنون الإيزوري على كلِّ مَن اتُّهم بالزَّيغ والهرطقة، ولحق بهم كذلك رجالُ المدرسة الأفلاطونية بأثينا، التي لم تكن أقلَّ شهرةً من مدرسة الرُّها، كذلك يمَّم أصحاب مدرسة الإسكندرية، التي أغلقها جستنيان، شَطر بلاد فارس؛ حيث عمل هؤلاء وهؤلاء على نقل كتب أرسطو وجالينيوس وبطليموس وغيرهم من علماء ومؤلِّفي اليونان - عمِلوا على نقلِها إلى بعض اللغات الشرقية كالسُّريانية والكلدانية.

أثر الكتاب والسنَّة في الإقبال على العلم وتقدُّمِه وتطوره:
إذًا، فلقد كان البونُ كبيرًا بين مستوى المعرفة الذي كان عليه سكانُ الجزيرة العربية قبيل الإسلام، ومستوى المعرفة الذي كانت عليه البلادُ المجاورة، ثم ما لبث أن اختلف هذا الوضعُ اختلافًا جذريًّا بعد أن جاء الإسلامُ، وبعد أن دخل سكانُ الجزيرة العربية فيه، فلم يمضِ إلا مدةٌ وجيزة، حتى فُتحت بلادُ الشام وبلاد فارس ومصر، وصارت هذه البلدان -بما فيها الجزيرة العربية- مراكزَ ومناهل تُعنى بحقول العلم والمعرفة، بما فيها -بطبيعة الحال- العلومُ الكونية والرياضيات، كان ذلك وَفْق منهج جديد، مختلفٍ عما كان يسودُ تلك البلدانَ من قبل، وغدا ذاك العربيُّ الأمي -الذي صار اليوم يَدين بالإسلام- طالبَ علمٍ أو معلمًا، في مدارسَ انتشرت في طول البلاد وعرضها، حيث أقبل الناسُ على العلم إقبالاً لا نظيرَ له في أمَّة من الأمم.

فما السرُّ في هذا التحوُّل الهائل المفاجئ يا ترى؟
إنه -بالطبع- فعلُ هذا الدِّين الجديد؛ دين الإسلام، إنه يكمن في تأثير كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صلوات الله وسلامه عليه- على أتباع هذا الدين، فلنتحرَّ الأسبابَ فيهما، تلك الأسباب التي غيَّرت هذا الإنسانَ الأميَّ، ونقلَتْه من دياجير الجهلِ والظلام إلى آفاق العلم والنور الواسعة.

ولعل أهمَّ هذه الأسباب سببان:
أولهما: أن القرآن الكريم يعتبر الإنسانَ أكرمَ مخلوقات عالَمِ الشَّهادة وأشرفَها، وأن كل الكائنات الأخرى مسخَّرةٌ له ومذلَّلة: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].

﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 12، 13].

وإن أعظمَ خصال التكريم التي خص الله -جل وعلا-بها بني آدم، هي أنْ كان الإنسانُ نفحةً من خلق الله، وأنه -سبحانه- آتى الإنسانَ العقلَ، الذي به تسلَّط على سائر الحيوانات، وبه ميَّز بين الحَسن والقبيح، واهتدى إلى سائر الصناعات المتنوعة، التي تشهدُها الأجيالُ تلو الأجيال.

ومن خصال التكريم -كذلك- أنْ سخَّر اللهُ -جل وعلا-لهذا الإنسان ما في السموات والأرض، وخلَق -سبحانه- خلائقَ كثيرةً جعلها في خدمة هذا الإنسان: ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 15 - 18].

ولا يمكِن للإنسان أن ينتفع بما سُخِّر له في إصلاح أمره ومعاشه إلا بالعلم؛ ولهذا كان العلمُ والمعرفة أخصَّ خصائص الإسلام؛ ذلك لأن حقائق الإسلام، من جهة، والحقائق أو النواميس التي تربط مكوِّنات هذا الكون بعضها ببعض، من جهة أخرى - لا يمكِنُ استخراجُها بمجرد القراءة، بل لا بد من أمَّةٍ تتوافر فيها الأفهامُ الذكية، والأساليب العالية، والآداب الكريمة، فمن أين تأتي معرفةُ الله على وجهٍ مستكملٍ جميلٍ، إلا عن طريق إمعان النظر في ملكوت الله، ومطالعة روائعِه بين الحين والحين؟ سيَّما وأن التفكير في الكون اطرد الأمرُ به في سور القرآن الكريم، واعتُبر الأساس الأول لإقامة إيمانٍ ثابت وطيد.

يقول زكريا بن محمد بن محمود القزويني (ت 682هـ/ 1283م) صاحب كتاب "عجائب المخلوقات" و"آثار البلاد وأخبار العباد" وقد استوقفه قولُه -جل وعلا-: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 6 - 8].

يقول: "ليس المراد من النظر تقليبَ الحدَقة نحوها؛ فإنَّ البهائمَ تشارك الإنسانَ فيه، ومن لم يرَ من السَّماء إلا زُرقتَها، ومن الأرض إلا غُبرتَها، فهو مشارك للبهائم في ذلك وأدنى حالاً منها وأشدُّ غفلة، كما قال -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

والمراد من هذا النظرِ التفكُّرُ في المعقولات، والنظر في المحسوسات، والبحث عن حكمتها وتصاريفها لتظهرَ له حقائقُها، فإنها سبب اللَّذات الدنيوية والسعادات الأخروية، وكلما أمعن النظرَ فيها، ازداد من الله -تعالى- هداية ويقينًا ونورًا وتحقيقًا.

والتفكُّر في المعقولات لا يتأتَّى إلا لمن له خُبرٌ في العلوم والرياضيات، بعد تحسين الأخلاق وتهذيب النفس، فعند ذلك تنفتح له عينُ البصيرة، ويرى في كلِّ شيء من العجب ما يعجز عن إدراك بعضها.

ولقد كان في واقع هذه الأمة -نتيجة هذا الرباط المقدَّس بين الإسلام وبين العلم- حركةٌ علمية وتأليفية، لا يوجد مثيلُها في تاريخ البشرية؛ فقد نُقل العلمُ من فرد إلى فرد فنتج هذا العلمُ الذي في الأمصار الإسلامية في طول البلاد وعرضها.

ولقد بدأ انتشارُ هذا العلم -أول ما بدأ- في أحضان النبوَّة وباسم الربِّ الذي خلق هذا الكونَ وخلق الإنسان، فكان هذا العلم مصطبِغًا بالإيمان بالله، وبمعرفة اللهِ الصحيحة، وتحت هدايته -جل وعلا- وراية قوله -سبحانه-: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].

وللقلم -كما يعرف كل متعلم- دورٌ كبير، وله مدلوله العظيم، بخاصة إذا عُرف أنَّ مَن كان يعرف القراءة والكتابة من قريش عند نزول الوحي بهذه الآية سبعةَ عشرَ شخصًا، كما يذكر ابنُ عبدربه صاحب "العِقد الفريد"، والبلاذري صاحب "فتوح البلدان".

ولقد كان -ويبقى- لهذه البدايةِ من نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دلالاتُها وآثارها العظيمة على كافة المراحل التي ستلي، وعلى تحديد طبيعة العلاقة بين هذا الدِّين وبين العلم الذي سيسود هذه الدعوة، ولقد بقي هذا الدينُ -ولا يزال وسيبقى إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها- مقترنًا بالعلم أيًّا كان نوعُه، مرافقًا له، مسايرًا لرغبة العقل البشري في كلِّ معضلة، غيرَ متجهِّمٍ لعلمٍ، وغيرَ هيَّاب لنشاط العقل.

وبهذا يتضح أن العلمَ الذي ينتدبُ الإسلامُ الإنسانَ إليه، لا يمثِّل علمًا معينًا، محدودَ البداية والنهاية؛ وإنما يحثه على طلب أي علم، يوسِّع منادح النظر، ويزيح السدودَ أمام العقل النَّهِم إلى المزيد من العِرفان، ويرفعه إلى كل ما يوثِّق صلته بالوجود، ويفتح له آمادًا أبعدَ من الكشف والإدراك، وإلى كل ما يتيح له السيادة في العالَم، والتحكُّم في قواه، والإفادة من ذخائره المكنونة.

ولا غروَ أن يُشيدَ الإسلامُ بالعلماء، ما دام للعلم هذه المنزلةُ الرفيعة، ولا غروَ أن يقدِّرَ جهودَهم، ويكرم شمائلهم، وهذا الاحتفاءُ العظيم بالعلم -أيًّا كان نوعُه- والإشادة بالعلماء، تدل عليه الآياتُ الكريمة والسنة الشريفة: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].

ذلك لأن أهلَ العلم بمنزلة أدلة اللهِ وآياته وبراهينه الدالة على توحيده: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22].

ومن الخطأ أن يُظنَّ أن العلم المحمودَ هو دراسة الفقه والتفسير وما شابه ذلك... وأن ما وراءها فهو نافلة يؤدِّيها من شاء تطوُّعًا أو يتركها، وليس عليه من حرج!

هذا خطأ كبير؛ فإن علومَ الكون والحياة، ونتائج البحثِ المتواصل في ملكوت السماء والأرض في زماننا هذا، لا تقلُّ خطرًا عن علوم الدين المحضة، وحسبنا أن نعلمَ أن الإعداد للعدو يتطلَّب معرفةَ كل سلاح، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا نفَرت طائفةٌ من المسلمين تتفقَّهُ في العلوم الكونية.

ولم يحضَّ الإسلامُ أتباعَه على العلم وهم مكتوفو الأيدي، بل هيَّأ لهم الحريةَ الفكرية، التي لولاها لَمَا كانت هذه الأعدادُ الكبيرة من العلماء، المسلمين منهم وغير المسلمين في شتى فروع المعرفة.

والحرية الفكرية التي بسط الإسلامُ سلطانها، ذاتُ دلالة بالغةٍ فيما يخص علاقةَ العلم بالدين؛ ذلك أنه لم يشهد تاريخُ الإسلام حادثةً واحدة من حوادث القتل أو الحرق من جرَّاء الإفصاح أو التلميح بفكرة علمية طبيعية، مثل: كروية الأرض أو دورانها، أو مثل ظاهرة قوس قزح؛ فقد كان عقابُ الكنسية لمن يصرِّح بمثل هذه الأفكارِ الحرقَ حيًّا، أو الإعدامَ شنقًا.

ويذكر التاريخُ أن عددَ الذين أُحرقوا وهم أحياء في أوروبا، خلال ثمانية عشر عامًا -ما بين سنة 886هـ/ 1481م و905هـ/ 1499م- بلغ عشرة آلاف ومائتين وعشرين شخصًا، وشُنق خلال المدة نفسها ستةُ آلاف وثمانمائة وستُّون نفرًا.

ولقد كان من بين مَن أعدم ثم أحرقت جثتُه: العالِم الفيزيائي "برنو"؛ بتهمة أنه يؤمن بتعدُّد العوالم.

ولا تخفى قصةُ العالم الفيزيائي "غاليليو" على أحدٍ؛ فقد حُكم عليه بالإعدام بتهمة أنه يؤمِنُ بدوران الأرض حول الشمس، وما حال دون التنفيذ إلا تظاهرُه بالتراجع، أو النزول عند رأي الكنيسة.

أما العالم "دي رومنس"، فقد أُودِعَ السجن حتى وافاه الأجلُ فيه، ثم أُخِذت جثتُه وكتبُه وحُوكمتا وصدر عليهما الحُكم بالحرقِ؛ ذلك لأنه صرَّح بأن قوسَ قزح ليست قوسًا حربية بيدِ الله ينتقم بها من عباده إذا أراد، بل هي نتيجةُ انعكاس ضوء الشمس على بخار الماء في الهواء.

والطريف أن ابن الهيثم، قبل "دي رومنس" بمئات السنين، لم يصرِّح بما صرح به "دي رومنس" بخصوص قوس قزح فحسب، بل كتب رسالةً بعنوان "قوس قزح والهالة" لا تزال تُقرأ حتى يومنا هذا، ولم ينَلِ ابنَ الهيثم أذًى، بل استحقَّ الإكبارَ والإعجاب.

ثانيهما: المنهج الأمثل المتميِّز الذي أتى به القرآنُ الكريم وحققتْه السنَّة المشرفة، ويشمل هذا المنهجُ فيما يشمل:
أ- الصدقَ والأمانة في القول والعمل مع التواضع الجمِّ؛ وهذه الصفات التي يتحلَّى بها أتباعُ هذا الدين، هي من ألزمِ الأخلاق في الإسلام، كما ورد في الكتاب والسنَّة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))؛ متفق عليه.

ولا يخلو كتابٌ من كتب علماء المسلمين المرموقين، من معالِمِ هذه الخصال الحميدة.

لا بأس أن نورد هنا أُنموذجًا واحدًا، تبرز فيه هذه الخصائص، ونُتبعه بنماذج عند تناول مجالات العلوم فيما بعد.

وهذا الأنموذج مقتبَسٌ من مقدمة كتاب "الجبر والمقابلة" للخُوارزمي: "... ولم يزلِ العلماءُ في الأزمنة الخالية والأمم الماضية يكتبون الكتبَ مما يصنِّفون من صنوف العلم ووجوه الحكمة؛ نظرًا لمن بعدهم واحتسابًا للأجر... ويبقى لهم من لسان الصِّدق ما يصغُر في جنبه كثيرٌ مما كانوا يتكلَّفونه من المؤونة، ويتحمَّلونه على أنفسهم من المشقة في كشف أسرار العِلم وغامضه، إما رجل سبق إلى ما لَم يكن مستخرَجًا قبله فوَرَّثه مَن بعده، وإما رجل شرَح مما أبقى الأولون ما كان مستغلقًا فأوضح طريقَه، وسهَّل مسلكَه، وقرَّب مأخذَه، وإما رجل وجد في بعض الكتب خللاً فلَمَّ شعثَه، وأقام أَوَدَه، وأحسن الظنَّ بصاحبه، غير رادٍّ عليه، ولا مفتخرٍ بذلك مِن فِعل نفسه".

ب- التحقُّق من المعلومة قبل تدوينها؛ فلقد ألزم القرآنُ الكريم المؤمنين به والعاملين على هديه، ألا يبنوا علمًا على ظنٍّ، وأنكر على من يفعل ذلك أشدَّ الإنكار: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [يونس: 36].

جـ- البعد عن التقليد الأعمى؛ كذلك أنكر القرآنُ الكريم التقليدَ الأعمى في التماس الحقائق: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من تشبَّه بقومٍ، فهو منهم))؛ رواه أحمد وأبو داود.

د- الرجوع إلى أهل الاختصاص عند الحاجة؛ وألزم المتحرِّين للحق أن يسألوا أهلَ الخبرة والاختصاص: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].

وأخيرًا نودُّ أن نشير إلى أمر مهم بالنسبة لطلاب العلوم الكونية، وهو أن كثيرًا من الآياتِ الكونية تنتهي بالفعل: يعلم، أو بالفعل: يعقل، أو بالفعل: يفكر، أو بالفعل: يذكر، أو بمشتقاتها؛ أي: بالأفعال التي هي مناط التفكير، مناط العقل: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 97، 98].

﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [النحل: 10 - 13].

وأنَّ بعض هذه الآيات ترِدُ فيها إشاراتٌ إلى علوم كونية طبيعية شتى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 27، 28].

ألا ترى أنَّ هاتين الآيتين أشارتا إلى علم الأنواء، والأجواء، وعلم النبات، وعلم الأرض (الجيولوجيا)، وعلم الأجناس، وعلم الحيوان، وعلم اللغات، وعلم الطب، وانتهتا بذكرِ أهل العلم والاختصاص؟
أجل، إنه الدِّين العظيم الذي يجعل الإيمانَ أولَ نتائج العلم، والذي يحضُّ على النظر في عالَم النبات والحيوان والجماد؛ لأنه لا يخشى عاقبة هذا النظر، بل يرى أن هذا النظر أداة لمعرفة الله وخشيتِه.



منقووول