أربعينية الامام الحسين(عليه السلام)




يوم الأربعين : هو اليوم العشرون من شهر صفر ، وفيه وصلت عائلة الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى كربلاء قادمين من الشام ، وهم في طريقهم إلى المدينة المنوّرة .

وسُمّيَ بـ ( يوم الأربعين ) ؛ لأنّه يصادف انقضاء أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) .

ويُعتبر تحديد أو تعيين السنة التي وصلت فيها قافلة آل الرسول إلى أرض كربلاء بعد رجوعهم من الشام من غوامض المسائل التاريخيّة . فهل كان الوصول في نفس السنة التي حدثت فيها فاجعة كربلاء الدامية ، أي سنة (61) للهجرة ، أم كان ذلك في السنة التي بعدها ؟

فهنا تساؤل يقول : كيف يُمكن ذهاب العائلة من كربلاء إلى الكوفة ، ثم إلى دمشق ، ثم الرجوع والوصول إلى كربلاء ، كلّ ذلك في أربعين يوماً ، مع الانتباه إلى نوعيّة الوسائل النقليّة المتوفّرة يومذاك ؟!

وهذه معركة علميّة تاريخيّة لا تزال قائمة على قدم وساق بين حملة الأقلام من المحدّثين والمؤرّخين .
ولعلّ رجوعهم كان من طريق الأردن إلى المدينة المنوّرة ، فحينما وصلوا إلى مفترق الطرق طلبوا من الحَرَس الذين رافقوهم من دمشق أن يجعلوا طريقهم نحو العراق وليس إلى المدينة . ولم يستطع الحرس إلاّ الخضوع لهذا الطلب والتوجه نحو كربلاء .

وحينما وصلوا أرض كربلاء صادف وصولهم يوم العشرين من شهر صفر ، وكان الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري قد جاء إلى كربلاء يرافقه عطاء ، أو عطيّة العوفي(1) وجماعة مِن بني هاشم ، جاؤوا جميعاً لزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السّلام) .
واجتمع جماعة من أهل السواد(2) ، وهم أهل القرى والأرياف التي كانت في ضواحي كربلاء يومذاك ، فصار هناك اجتماع كبير نِسبيّاً من شتّى الطبقات ، فالجميع حضروا عند قبر ريحانة رسول الله ، وسيّد شباب أهل الجنة ، يزورون قبره ويسلّمون عليه ، والكآبة تخيّم على وجوههم ، والأسى والأحزان تَعصِر قلوبهم .
كانت القلوب تشتعل حزناً ، والدموع مستعدّة لتجري على الخدود ، ولكنّهم ينتظرون شرارة واحدة حتّى تضطرم النفوس بالبكاء ، وترتفع أصوات النحيب والعويل .

في تلك اللحظات وصلت قافلة العائلة المكرّمة إلى كربلاء ، فكان وصولها في تلك الساعات هي الشرارة المترقّبة المتوقّعة ، فتلاقَوا في وقت واحد بالبكاء والعويل(3) .
كانت السيّدة زينب (عليها السّلام) في هذا المقطع من الزمان ، وفي هذه المنطقة بالذّات ـ وهي أرض كربلاء ـ لها الموقف العظيم ، وكانت هي القلب النابض للنشاطات والأحاسيس المبذولة عند قبور آل رسول الله (عليهم السّلام) في كربلاء . نشاطات مشفوعة بكلّ حزن وندبة ، مِن قلوب ملتهبة بالأسى .

وما تظنّ بسيّدة فارقت هذه الأرض قبل أربعين يوماً ، وتركت جُثَث ذويها معفّرة على التراب بلا دفن ، واليوم رجعت إلى محلّ الفاجعة ؟! فما تراها تصنع , وماذا تراها تقول ؟!

أقبلت نحو قبر أخيها الحسين (عليه السّلام) ، فلمّا قربت من القبر صرخت ونادت أكثر من مرّة ومرتين : وا أخاه ! وا أخاه ! وا أخاه !
كانت هذه الكلمات البسيطة المنبعثة من ذلك القلب الملتهب سبباً لتهييج الأحزان وإسالة الدموع ، وارتفاع أصوات البكاء والنحيب ، والله العالم كم كانت كلمات الشكوى تمرّ بخاطر السيّدة زينب الكبرى (عليها السّلام) حين كانت تبثّ آلامها ، وأحزانها عند قبر أخيها الإمام الحسين ؟ ممّا جرى عليها وعلى العائلة طيلة تلك الرحلة المُزعجة .

وما يُدرينا ؟ ولعلّها كانت سعيدة ومُرتاحة الضمير بما قامت به طيلة تلك الرحلة ؛ فقد أيقظت عشرات الآلاف من الضمائر الغافلة ، وأحيَت آلاف القلوب الميّتة ، وجعلت أفكار المنحرفين تتغيّر وتتبدّل مئة وثمانين درجة على خلاف ما كانت عليه قبل ذلك !
كلّ ذلك بسبب إلقاء تلك الخطَب المفصّلة ، والمحاورات الموجزة التي دارت بينها وبين الجانب المُناوئ ، أو الأفراد المحايدين الذين كانوا يجهلون الحقائق ، ولا يعرفون شيئاً عن أهل البيت النبويّ الطاهر .

وتُعتبر هذه المساعي من أهمّ إنجازات السيّدة زينب الكبرى ، فقد أخذوها أسيرة إلى عاصمة الاُمويِّين ، وإلى البلاط الاُموي الذي أُسّس على عداء أهل البيت النبويّ من أوّل يوم ، والذي كانت موادّه الإنشائية يوم بناء صرحه من النُصب والعداء لآل رسول الله ، ومكافحة الدين الإسلامي الذي لا ينسجم مع أعمال الاُمويِّين وهواياتهم .

أخذوها إلى مقرّ ومسكن طاغوت الاُمويِّين ، وبمحضر منه ومشهد ، ومسمع منه ومن أسرته . خطبت السيّدة زينب تلك الخطبة الجريئة ، وصبّت جام غضبها على يزيد ، ووَصَمته بكلّ عارٍ وخِزي ، وجعلت عليه سبّة الدهر ، ولعنة التاريخ !
نعم ، قد يتجرّأ الإنسان أن يقوم بمغامرات ، اعتماداً على القدرة التي يَملكها ، أو على السلطة التي تُسانده ، وأمثال ذلك .
ولكن ـ بالله عليك ـ على مَنْ كانت تعتمد السيّدة زينب الكبرى في مواجهاتها مع اُولئك الطواغيت وأبناء الفراعنة ، وفاقدي الضمائر والوجدان ، والسُكارى الذين أسكرتهم خمرة الحكم والانتصار ، مع الخمرة التي كانوا يشربونها ليلاً ونهاراً ، وسرّاً وجهاراً ؟!

هل كانت تعتمد على أحد غير الله تعالى ؟!
ويُمكن أن نقول : إنّها قالت ما قالت ، وصنعت ما صنعت في اصطدامها مع الظالمين ؛ أداءً للواجب ، وهي غير مُبالية بالعواقب الوخيمة المحتملة ، والأضرار المتوقّعة ، والأخطار المتّجهة إلى حياتها ، فليكن كلّ هذا ؛ فإنّ الجهاد في سبيل الله محفوف بالمخاطر ، والمجاهد يتوقّع كلّ مكروه يُحيط به وبحياته .
ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أنّ قافلة آل الرسول مكثت في كربلاء مدّة ثلاثة أيّام ، مشغولة بالعزاء والنياحة ، ثمّ غادرت كربلاء نحو المدينة المنوّرة .

الرجوع إلى مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله):

وصلت السيّدة زينب الكبرى إلى وطنها الحبيب ، ومسقط رأسها ، ومهاجَر جدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) .
وكانت قد خرجت من المدينة قبل شهور ، وهي في غاية العزّ والاحترام بصُحبة إخوتها ورجالات أُسرتها ، واليوم قد رجعت إلى المدينة وليس معها من اُولئك السادة الأشاوس سوى ابن أخيها الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) ، فرأت الديار خالية مِن آل الرسول الطاهرة .

وتـرى ديـارَ اُميّة معمورةً وديارَ أهلَ البيتِ منهم خاليهْ

وجاء في التاريخ : أنّ السيّدة زينب (عليها السّلام) لمّا وصلت إلى المدينة توجّهت نحو مسجد جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعها جماعة من نساء بني هاشم ، وأخذت بعُضادَتي باب المسجد(4) ، ونادت : يا جدّاه ! إنّي ناعية إليك أخي الحسين . وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة ، ولا تفتُـرُ عن البكـاء والنحيـب(5) .

إنّ الأعداء كانوا قد منعوا العائلة عن البكاء طيلة مسيرتهنّ من كربلاء إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، وهنّ في قيد الأسر والسَبي ، حتّى قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام) : (( إن دمعت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح ))(6) .
والآن قد وصلت السيّدة إلى بيتها ، وقد ارتفعت الموانع عن البكاء ، فلا مانع أن تُطلق السيّدة سراح آلامها لتنفجر بالبكاء والعويل على أشرف قتيل وأعزّ فقيد ، وأكرم أُسرة فقدتهم السيّدة زينب في معركة كربلاء .

وخاصةً إذا اجتمعت عندها نساء بني هاشم ليُساعدنها على البكاء والنياحة على قتلاها ، وحضرت عندها نساء أهل المدينة ليُشاركنها في ذرف الدموع ، ورفع الأصوات بالصراخ والعويل .
والبلاغة والحكمة تتطلّب من السيّدة زينب أن تتحدّث عمّا جرى عليها وعلى أُسرتها طيلة هذه الرحلة من ظلم يزيد وآل أبي سفيان ، وعملائهم الأرجاس الأنذال . وتتناوب عنها السيّدات الهاشميات اللاتي حضرن في كربلاء , ونظرن إلى تلك المآسي والفجائع ، وشاهدنَ المجازر التي قام بها أتباع الشياطين من بني اُميّة .

كانت النسوة يخرُجن من مجلس العزاء وقد احمرّت عيونهنّ من كثرة البكاء ، وكلّ امرأة مرتبطة برجل أو أكثر ، من زوج أو أبٍ أو أخ أو ابن ، وتقصّ عليهم ما سمعته من السيّدة زينب (عليها السّلام) من الفجائع التي وقعت في كربلاء ، وفي الكوفة ، وفي طريق الشام ، وفي مجلس يزيد ، وفي مدينة دمشق بصورة خاصّة .

كان التحدّث عن أيّ مشهد من تلك المشاهد المؤلمة يكفي لأن تمتلئ القلوب حقداً وغيظاً على يزيد وعلى مَنْ يدور في فَلكه ، وحتى الذين كانوا يحملون الحبّ والوداد لبني اُميّة انقلبت المحبّة عندهم إلى الكراهية والبغض ، كما وأنّ الذين كانوا يُكنّون الطاعة والانقياد للسلطة الحاكمـة صـاروا على أعتاب التمـرّد والثورة ضـدّ السلطة(7) .

ومن الطبيعي أنّ الأخبار كانت تصل إلى حاكم المدينة ، وهو من نفس الشجرة التي أثمرت يزيد وأباه وجدّه ، فكان يرفع التقارير إلى يزيد ويُخبره عن نشاطات السيّدة زينب ، ويُنذره بالانفجار ، وانفلات الأمر من يده ، قائلاً : إن كان لك في المدينة حاجة فأخرج منها زينب .
جُبَناء ، يحكمون على نصف الكرة الأرضية ويخافون من بكاء امرأة لا تملك شيئاً من الإمكانات والإمكانيّات !
إنّهم يعرفون أنفسهم ويعرفون غيرهم ، يعرفون أنفسهم أنّهم يحكمون على رقاب الناس ، ويعرفون أنّ غيرهم يملكون قلوب الناس .
من المؤسف المؤلم أن يُحسَب هؤلاء الظلمة مِن المسلمين ، وأن تُحسَب جناياتهم على الدين الإسلامي .
وأيّ إسلام يرضى بهذه الجناية التي تقشعرّ منها السماوات والأرض ؟! هل هو إسلام النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، أم إسلام بني اُميّة ؟! إسلام معاوية ، ويزيد بن معاوية ، وعمر بن سعد ، والدعيّ ابن الدعيّ عبيد الله بن زياد ؟!
ولا مانع لدى يزيد أن يأمر حاكم المدينة بإبعاد السيّدة زينب مِن مدينة جدّها الرسول ، ولكن السيّدة امتنعت عن الخروج من المدينة ، وكأنّها لا تَهاب الموت ، ولا تخاف مِن أيّ رجس من اُولئك الأرجاس .

وهل يستطيع الأعداء أن يَحكُموا عليها بشيء أمرّ من الإعدام ؟ فلا مانع ، فلقد صارت الحياة مبغوضة عندها ، والموت خير لها من الحياة تحت سلطة الظالمين .

إنّها تلميذة مدرسة كان أساتذتها يقولون : (( إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما )) .
وتحدّت السلطة ، وأعلنت امتناعها عن الخروج من المدينة , ولكنّ عدداً من السيّدات الهاشميات اجتمعن عندها وذكّرنها بيزيد وطغيانه ، وأنّه لا يخاف من الله تعالى ، ومن الممكن أن تتكرّر فاجعة كربلاء ؛ بأن يأمر الوالي بإخراج السيّدة من المدينة قَسراً وجَبراً ، فيقوم بعض مَنْ تبقّى من بني هاشم لأجل الدفاع ، وتقع الحرب بين الفريقين ، وتُقام المجزرة الرهيبة ؛ فقرّرت السيّدة زينب (عليها السّلام) السفر إلى بلاد مصر .
ولماذا اختارت مصر ؟
إنّ أحسن بلاد الله تعالى عند السيّدة زينب بعد المدينة المنوّرة هو مصر ؛ لأنّه كان لآل رسول الله في بلاد مصر رصيدٌ عظيم من ذلك الزمان إلى هذا اليوم .
والسبب في ذلك أنّ أفراداً من الخط المُوالي للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) كانوا قد حكموا مصر في تلك السنوات ، أمثال : قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، ومحمد بن أبي بكر ، وأخيراً مالك الأشتر النخعي(8) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)وهو من مشاهير التابعين الذين لم يَرَوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولكنّهم رأوا صحابة الرسول .
(2) أهل السواد : كان يُعبّر عن أراضي العراق بـ ( أرض السواد ) ؛ لكثرة وكثافة الأشجار فيها ، مع الانتباه إلى تُربتها الصالحة للزراعة لدرجة كبيرة . فالأراضي التي تُغطّيها الأشجار تتراءى من بعيد وكأنّها سوداء ؛ ومِن هنا سمَّوا المزارع والبساتين بـ ( أرض السواد ) ، وسمَّوا الذين يسكنون هذه المناطق بـ ( أهل السواد ) . المحقّق .
(3) ذكر السيّد ابن طاووس في كتاب ( الملهوف ) / 225 : ولمّا رجعت نساء الحسين (عليه السّلام) وعياله من الشام وبلغوا العراق ، قالوا للدليل : مُرّ بنا على طريق كربلاء . فوصلوا إلى موضع المصرع ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسول ، قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) ، فوافَوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللَطم ، وأقاموا المآتم المُقرحة للأكباد ، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أيّاماً . المحقّق .
(4) أي الخشبتين المنصوبتين عن يمين الباب وشماله . كما في ( لسان العرب ) .
(5) كتاب ( بحار الأنوار ) 45 / 198 . المحقّق .
(6) بحار الأنوار 45 / 154 ، ب 39 ، نقلاً عن كتاب ( إقبال الأعمال ) .
(7) وقد جاء في التاريخ : أنّ عبد الله بن جعفر كان جالساً في داره يستقبل الناس الذين يريدون أن يعزّوه باستشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) واستشهاد ولديه عون وجعفر ، إذ دخل عليه رجل وعزّاه ، فقال عبد الله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون !
فقال رجل يُقال له ( أبو السلاسل ) : هذا ما لَقينا من الحسين بن علي ! فحَذَفه (أي رماهُ) عبد الله بن جعفر بنعله ، وقال له : يابن اللَخناء ! (يُقال في السبّ : يابنَ اللخناء ، أي يابن المرأة المُنتنَة) أللحسين تقول هذا ؟!
ثمّ قال : والله ، لو شهدتُه لأحببت أن لا أُفارقه حتّى أُقتَل معه . والله إنّه لمِمّا يُسكّن نفسي ، ويُهوّن عليّ المُصاب أنّ أخي وابن عمّي أُصيبا مع الحسين ، مواسيَين له ، صابرَين معه .
ثمّ أقبل على جلسائه فقال : الحمد لله ، عزّ عليّ مصرع الحسين ، إن لم أكن واسيتُ حسيناً بيدَيّ فقد واساه ولداي .
المصدر : كتاب ( بحار الأنوار ) 45 / 122 ـ 123 ، وذكره الطبري في تاريخه 5 / 466 . المحقّق .
(8) وقد ذكر تفاصيل ذلك المَقريزي (المتوفى عام 845 هـ) في كتابه ( المواعظ والاعتبار ) ، طبع لبنان (سنة 1418 هـ) 2 / 93 ، و 4 / 151 و 156 ـ 157 ، حيث قال : ومصر يومئذ من جيش علي بن أبي طالب .