صراح الشعر مع الخيبة والأمل عند الشعراء العرب، وخاصة شعراء ا لمغرب العربي

مقال مأخوذ من كتابة الناقد الأدبي: خالد بلقاسم (ناقد من المغرب)



صراع الشعر مع الخيبة والأمل، بالمعنيين اللذين صغناهما، انطلاقا من قراءة أفقية لا تقتصر على القصيدة الواحدة وإنما تنفتح على ديوان بكامله وتعول على رصد الوشائج الصامتة بين مختلف القصائد، ذلك أن القراءة العمودية المتقصرة على القصيدة الواحدة لا تسمح برصد آليات هذا الصراع، وهكذا سنصاحب بعض هذه الابيات اعتمادا على "نهر بين جنازتين" لمحمد بنيس، و"بعكس الماء" لمحمد بنطلحة، فهما يسمحان باختيار الفرضية التي انطلقنا منها.

1 - الاستشكال وحدوده

إن قراءة الشعر في ضوء موضوع معين مهددة بالتعميم وبنسيان الشعر في آن، ما لم تتحصن هذه القراءة بأسئلة منهجية تُمكنها من تسويغ موقعها وتجنب الاستسهال الذي يتمنّع عليه الشعر. واختيار موضع خيبة الأمل منطلقا لمقاربة الشعر المغربي المعاصر لا يبدو اختيارا مأمون العواقب. لذلك يتعين تحصينه من الاستسهال الذي يُرسيه التعميم ويحميه التداول الحدسي، وهو ما لا يستقيم إلا ببناء الموضوع إشكاليا. بهذا البناء تنكشف المداخل القرائية وحدودها في آن. ولا يتسنى هذا الاستشكال إلا بما يلي:

1 - 2 ليس موضوع خيبة الأمل في الشعر المغربي المعاصر إلا فرضية توجب استدلالا لإثبات صلاحيتها أو محدوديتها بالنظر الى فرضيات أخرى. وبناء هذه الفرضية يستتبع الوعي بفروق قراءتها في الشعر، لأن اشتغال الخيبة فيه لا يتم بالآلية ذاتها في خطابات أخرى.

2 - 2 لعل أول ما يستدعي الاضاءة في هذه الفرضية هو علاقة الخارج، أي ما يعرف بالواقع، بالداخل، أي عناصر البناء النصي، لئلا يتحول الواقع بديلا عن النص. فالتسليم بآلام الواقع وخيباته وانكساراته ومفارقاته لا يقوم دليلا على استعجال رصد ذلك في الشعر المغربي المعاصر. معلوم أن التوصيفات لن تسعفنا، أيا كانت نجاعتها، في وسم الجدب الروحي المستشري والرعب الوجودي الكاسح والانقلاب السريالي في منظومة القيم في الحياة الحديثة، ولا سيما في المجتمعات التي ينضاف وسم التخلف لتحديد موجهات هذه الحياة بها. غير أن هذه الوضعية التي تنهض على الخيبة والانكسار والخسران لا تسوًّغ اعتماد هذه الدلالات مدخلا لقراءة الشعر دون حذر منهجي، لأن علاقة الشعر بالواقع تحتفظ بتميزها المتمنع عن مفهوم الانعكاس المبتذل، أو مفهوم السببية أو غيرهما من المفاهيم التي تُماهي بين الشعر وغيره من الخطابات. ومن ثم فإن اختبار فرضية خيبة الأمل في الشعر المغربي المعاصر تُلزم بالتشديد على اختلاف الشعر عن الخطابات الأخرى في العلاقة التي تصله بالواقع مع الاستدلال على هذا الاختلاف، انطلاقا من وضعية اللغة في الشعر.

1 - 3 هل يتسنى للنقد أن يقارب الخيبة بوصفها بنية في الشعر المغربي المعاصر؟ بهذا السؤال نولد فرضية ثانية عن الفرضية الأولى هي فرضية بنية الخيبة. إن الحديث عن بنية الخيبة أو غيرها من البنيات يضمر الإقرار، على نحو مسبق، بتجانس في متن الشعر المغربي المعاصر، لأنه بدون هذا التجانس لا يمكن أن نرصد الاختلاقات التي تشتغل داخله، بناء على ما يستوجبه مفهوم البنية. والحال أن الاستدلال النظري على هذا التجانس لم يتأسس بعد، ثم ان الحديث عن البنيات يُعدُّ مرحلة متقدمة في القراءة تقترن بالتصنيف، الذي لم نبلغ بعد عتبته في نقد الشعر المغربي المعاصر. ففي غياب الدراسات النصية لتجربة الشاعر الواحد يصعب الانتقال الى الحديث عن بنيات في الشعر المغربي المعاصر. فألمُ دراسة هذا الشعر يتبدى، في وضعية نقده البيّنة من محدودية الكتب الني انشغلت به. ولما كان هذا حال نقد الشعر المغربي المعاصر، فإن المتابعة الصحفية تكفلت بتعويضه بما يتجاوز مُمكنها. ذلك أن المتابعة الصحفية تقوم على إيقاع لا ينسجم مع ما تتطلبه قراءة الشعر من مصاحبة طويلة ومتأنية.

1 - 4 يقتضي اختبار الفرضية، التي تحتمل خيبة مُبنْينةً في الشعر المغربي المعاصر، بناء متنٍ يسوغها. وما يعترض هذا البناء هو موجهاته. ذلك ما نصوغه في الأسئلة الآتية: هل نُلزم المتن بدلالة مغلقة، ووفق ذلك نحقق تجانسا بين قصائد المتن تُسوًّغ الحديث عن بنية لها قوانينها، أم نروم في البناء رصد مواضيع يتقاطع فيها المتن وتشتغل فيها دلالة الخيبة على نحو ما؟ ألا يُهدد ذلك باختزال الشعر في موضوعه؟ ما هو الامكان الذي تسمح به القصائد للحديث عن بنيةٍ للخيبة تقومُ على عناصر نصية كالصور والتداخل النصي والايقاع؟

1 - 5 لا يتحدد الفعل الكتابي بموضوعه، بل إن مُوجه هذا الفعل يتسامى عن الموضوع. وقد تأمل النقد، المستند الى الخلفية الفلسفية، الحاجة الى الكتابة لا انطلاقا من موضوع محدد وإنما انطلاقا من مخاطر هذا الفعل ذاته(١). إن التمييز بين الفعل الكتابي وموضوع الكتابة يجنبنا الاستسهال المشار اليه سابقا ويسمح برصد الخيبة في الشعر المغربي المعاصر وفق المستويات الآتية:

أ - مقاربة الخيبة بوصفها موضوعا مقترنا بانكسارات الواقع وخساراته. إنه المستوى البسيط للمقاربة. وهو مهدد بنسيان الشعر والتمادي في قراءة الواقع.

ب - مقاربة الخيبة بوصفها حالة لغة تنكرت لنسبها الشعري، على نحو يسحب عن النص الذي بنته هذه اللغة صفة الشعرية. الخيبة، بهذا المعنى، إخفاق كينونة يسمح نقديا بمراقبة الانتساب الى الشعر. إنها خسران يضيع فيه الشعر، لأنها إخفاق في بلوغ عتبته. وهي بذلك إخفاق لا شعري. أما الإخفاق الباني والمؤسس فهو الذي يتم في الشعر وبه. وقد خبَرَه الشعراء والعارفون في صراعهم مع اللغة. بالتمييز بين الإخفاقين يتسنى تنسيب الحديث عن الخسارات في الشعر. وهو ما نضيئه بالانتقال الى المستوى الثالث من مقاربة الخيبة.

ج - مقاربة الخيبة بوصفها إخفاقا متجددا في الشعر وبه. المقصود، هنا، خيبة اللغة في بلوغ الأقاصي التي تلامسها الذات الكاتبة. الخيبة، بهذا المعنى، مقاومةٌ لبلوغ الأقاصي وهو ما يلزم اللغة بالتجدد، لأنها تتحول الى تجربة في ذاتها وتكف عن أن تكون أداة لمآرب أخرى. هكذا تغدو الخيبة بما هي مقاومةٌ نقيض دلالتها المبتذلة. إنها الإخفاق بوصفه الأمل الذي تفتحه اللغة وهي تتوجه نحو المجهول واللانهائي.

وسنزاوج في تأمل الخيبة في الشعر المغربي المعاصر بين المستوى الأول والمستوى الثالث، انطلاقا من وشيجةٍ بينهما تسمح بعض الأعمال في الشعر المغربي المعاصر برصدها، مسترشدين في ذلك بتصور بلانشو لعلاقة الكلمات بالأشياء في ما يسميه بالعمل الأدبي. وذلك بعد تحويل جزئي يحصر هذا التصور ليغدو أداة إجرائية. يرى بلانشو أن للكلمات في العمل الأدبي »قدرة على إخفاء الأشياء وإظهارها بوصفها مختفية. إنه الظهور الذي ليس إلا اختفاء والحضور الذي يغدو غيابا عبر فعل التآكل والإتلاف بوصفه الفعل الذي يمثل روح الكلمات وحياتها«.(2) ومع ان بلانشو يتناول الكلمات في علاقتها بالأشياء بغية التنصيص على اختلاف وجود الكلمات في العمل الأدبي عن وجود الأشياء، فإن لنا أن نفيد من تصور التآكل والاتلاف لمقاربة علاقة الشعر بموضوعه، على نحو يجعلنا نتأمل هذه العلاقة بوصفها صراعا يقوم على الإظهار بالإخفاء.

هكذا سنختبر صراع الشعر مع الخيبة، بالمعنيين اللذين صغناهما لها في المستويين الأول والثالث السالفين، انطلاقا من قراءة أفقية لا تقتصر على القصيدة الواحدة وإنما تنفتح على ديوان بكامله وتعول على رصد الوشائج الصامتة بين مختلف القصائد التي تؤسس هذا الديوان. ذلك أن القراءة العمودية المقتصرة على القصيدة الواحدة لا تسمح برصد آليات هذا الصراع. وهكذا سنصاحب بعض هذه الآليات اعتمادا على »نهر بين جنازتين« لمحمد بنيس، و»بعكس الماء« لمحمد بنطلحة لصلاحية هذين الديوانين. فهما يسمحان باختبار الفرضية التي انطلقنا منها. أما تعميم هذه الفرضية على أعمال شعراء آخرين فيقتضي مصاحبة هادئة لم يتهيأ لنا زمنها في انجاز هذه الورقة.

2 - »نهر بين جنازتين« أو اللغة بين الدفق والموت:

»نهر بين جنازتين«، هكذا يسمي محمد بنيس عملا شعريا من أعماله. وهي تسمية تنهض على تعارض بين الماء والموت. للقراءة، إذن، أن تتوجه، وفق هذه العتبة الأولى صوب هذا التعارض للاقتراب من حافتي الموت المطوّفتين للنهر، انطلاقا من الإنصات للبناء الاستعاري في هذه العتبة. لن يطول انتظار القارئ في سعيه لاستجلاء استعارة النهر التي تأسس عليها العنوان وتكفلت قصائد الديوان ببناء تشعبها. ففي القصيدة الخامسة من هذا العمل الشعري الموسومة لغة، نُلفي عبارة العنوان وقد تحولت إلى بيت شعري مع تعويض بلفظ الضاد الدال على اللغة العربية. وهو تعويض يقوم على الانتقال من التلميح إلى التصريح دون أن يتخلى هذا التصريح عن رهان الإخفاء. نقرأ في هذه القصيدة:

أنت أيتها اللغة

بأي يد كتبتك

عبرا

أصغي لبرد الضاد بين جنازتين

ومنْ هنا

أعطي لأهلك كل هذا الموت

كيف أعود منك

وليس لي غير الهباء

يظل يثقب وشوشات الصمت

في حلقي

وفي ألم يقلبه الخراب(3)

تُسعفُ، قصيدة لغة، التي ينتمي إليها هذا المقطع، في علاقتها بقصائد الديوان في تحديد ما اعتبرناه مستوى اولا في مقاربة الخيبة، أي المستوى البسيط الذي يقارب الخيبة بوصفها موضوعا. الموضوع في »نهر بين جنازتين« هو وضعية اللغة العربية. فعلى رصد هذه الوضعية يقوم الديوان بكامله. ولكنه رصد يحتفظ بفروقه عن المقاربة اللسانية أو السياسية للموضوع. إنها المقاربة الشعرية التي تقوم على إظهار الموضوع بإخفائه. لذلك كانت استعارة الجو الجنائزي لإقامة تأبين شعري للغة العربية مُوجهة لهذا الإظهار بالإخفاء. فثمة نبذٌ للغة (4)، ومقبرة تئن (5)، ونحيب يعلو (6)، وسكرات تنشأ(7)، وبياضُ كفنٍ يغطي وجه اللغة(8). ذلك قبس من الحقل الدلالي الذي يؤثث مشهد احتضار اللغة العربية في الديوان. وثمة، إلى جانب ذلك، ذات تصاحب هذا المشهد، بألم وخيبة أمل وهي تقدمه بضمير المتكلم. يقول محمد بنيس:

لغة

لها وجه البياض/ قل/ إن/ هذا/ الموت/ موت/ أنا/ نشيد/ لغة/ لنا أولي/ لعل جنازة/ في / الحلق/ تودعني نوافذها(9)

وسيتحولُ هذا الصوت إلى لازمة في قصيدة سماء الموت. لازمة لا يتغير فيها إلا الفعل. وبتغيره يمتد ليسع اللغة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. لنقرأ لازمة قصيدة »سماء الموت« بتنويعات الفعل فيها. في المقطع الأول يصوغ بنيس اللازمة على النحو الآتي: لي لغة تورثني سماء الموت(10)، وفي الثاني يختفي فعل »تورثني« فتصبح اللازمة كالتالي: لي لغة ترددُ سماء الموت(11)، وهي بذلك تنتقل من الماضي الى الحاضر، قبل أن تستشرف ما يهددُ اللغة في مستقبلها، اذ تختتم القصيدة باللازمة وقد أصبحت بالصوغ الآتي: لي لغة تطلُ على سماء الموت.(12)

فما يحكم قصائد الديوان في توجهها الى موضوعها هو تضاؤل الأمل من حال اللغة العربية. لا ترصد القصائد التفاصيل، لأنها لا تتنكر للوظيفة الشعرية القائمة على تآكل الموضوع وتقديمه انطلاقا من هذا التآكل.

من الخيبة بوصفها موضوعا الى الخيبة بما هي مقاومة من داخل اللغة، ننتقل إلى ما سميناه بالمستوى الثالث في المقاربة. وفيه يتبدى رهان الديوان وتتكشف المسافة التي يفتحها الشعر مع موضوع الخيبة. مسافةٌ تقوم على صراع بينهما الموضوع في ديوان »نهر بين جنازتين« هو مأزق اللغة العربية، كما أوضحنا ذلك سابقا. ومواجهةُ هذا المأزق تتم شعريا باللغة أيضا، بل ان مهمة اللغة الشعرية هي صونُ حياة اللغة. ذلك ما يسمح به تأوُل الديوان.

لغةٌ في مواجهة لغة. خيبةٌ متولّدة عن حال اللغة العربية وأمل منبثق عن لغة الشعر. هو ذا مدارُ الديوان ورهانه. وهو ما يستدعي عودة لعنوان الديوان لإضاءة التعارض الذي يقوم عليه، أي التعارض بين الماء والموت. إن سريان هذا التعارض في قصائد المجموعة الشعرية بلا حدود. وهو يشتغل من داخل مفارقة كبرى. مفارقة احتضار لغة لها صورة نهر دافق بما يحفل به من حياة. نهرٌ لا نهائي مهدد بالجفاف.

لبناء هذه المفارقة لجأ محمد بنيس الى ما يسميه خورخي لويس بورخيس بالاستعارة الهرقليطية(13)، التي تقوم على حكمة هرقليط القائلة باستحالة الاستحمام في النهر مرتين. حكمةٌ تحوّلت إلى استعارة حيوية في الأدب، وكشفت صلاحيتها في تأمل الكتابة والذات، على نحو ما لاحظ بورخيس(14). وقد اعتمدها محمد بنيس لا في بناء قصيدة واحدة، وإنما في البناء العام للمجموعة الشعرية بكاملها. ومن ثم كان الاستناد إليها أسّ هذه المجموعة، فلم قدّم بنيس لغة تموتُ باستعارة النهر لها؟ لعل ما سمحت به هذه الاستعارة هو تقديم الموضوع عبر استنبات مفارقةٍ فيه. وهي مفارقةٌ كشفت أن اللغة التي تحتضر تغدو في الكتابة نهرا لا نهائيا. إن ما يحتضر لا حدود لحياته. وبهذه المفارقة تبيّن التعارضُ بين خيبتين في هذا العمل الشعري. خيبةُ أملٍ مما أصاب اللغة العربية، وخيبةُ الكتابة في بلوغ أقاصي لغةٍ لها صورةُ نهر نبع ولا مصب. وما دام الاستدلال على الخيبة الأولى تكفلت به المنتخبات الشعرية السابقة، فإن لنا أن نستدل على الخيبة الثانية بما جاء في قصيدة »لك هذا الوهب«:

الكتابة أنقاض/ كل مرة/ في انحلالها/ تلمع / امتدادك أيها النهر/ أقوى من حركات/ اصابعي.(15)

ثمة إخفاق في مُجاراة إيقاع اللغة أثناء الكتابة. فاللغة في الكتابة نهرٌ أقوى مما تُسعف الأصابع في تقييده. والاستعارةُ الهرقليطية هي ما كشف البون الشاسع بين خيبة الكتابة والخيبة الناجمة عن احتضار اللغة.

3 - بعكس الماء أو الإتلاف المحكم للموضوع:

يتعرض الموضوع في ديوان بعكس الماء لمحمد بنطلحة لتآكل واتلاف دقيقين إلى حد يتلاشى فيه هذا الموضوع، ويبدو، معه، العمل الشعري كأنه يحتفي بكلمات لا تحيل على غير نفسها. لكن المصاحبة الهادئة لهذا العمل تجعل القارئ يلامس ألماً ساريا واثر انكسارٍ خفي، دون أن يقوى على إعادة بناء مشهد الخيبة والانكسار، لأن الإتلاف كان مُحكماً، مما جعل المعنى يشتغل بالإخفاء في أعلى درجاته، وأمام هذا الإتلاف، الذي يتمنّع معه تحديد موضوع الخيبة على النحو الذي قمنا به في تأمل ديوان »نهر بين جنازتين«، يظل المسلك الممكن في صوغ احتمال متماسك هو تجميع ما تبقى من الموضوع بعد تعرضه للإتلاف والتآكل. أليست القراءة إعادة ترميم لبياض الكتابة أي لما محتْهُ وأخفتْه أو بددتْه؟

ثمة إشارة دالة في مستهل هذا العمل الشعري تهبُ الزمن امتداداً لا نهائيا، وفي هذا الامتداد تومئ الى مكرٍ يكتسحُ الماضي والحاضر والمستقبل. مكرٌ تسنده إلى ضمير الجمع الغائب. يقول محمد بنطلحة في مستهل القصيدة الأولى الموسومة »في ظلام الايقونة«:

منذ الأزل/ وهم يبتسمون/ بشفاهنا(19)/ جدير بي إذن/ أن أعبر/ في ظلام الأيقونة/ إلى نفسي/ أن أكون ضد نفسي/ وأن أعبر بلا قوارب/ الكتب/ هي الأخرى سوف أتركها ورائي/ عندي أصلها/ العدم(20)

الدوامة خيشوم الكائن. لهذا البيت وشيجة قوية بالاستهلال السابق، فسمة الدوامة الدور والدوار، سواء دلت على ما يصيب الرأس او ما يحل بماء البحر أو النهر. ولنا أن نتأول كلمة الخيشوم بوصفها مجازا مرسلا. ذكر فيه الشاعر الجزء وأراد به الكل، أي الوجه. واختيار هذه الكلمة دال، لأن من معاني الخشم في اللسان العربي الداء وفقدان الشم ونتانة الرائحة. وهذا الحقل الدلالي ينسجم مع الوجوه- الأقنعة ومع زمن غدا فيه الإنسان بلا وجه، لأن وجهه أصبح دوامة(21).

الدور وجه الكائن. أثمة، اذن، باعث أقوى على الانكسار من العيش في زمن هي ذي سمة الكينونة فيه. سمة تهدد الإنسان بأن يكون ضد نفسه. فمن المرجح أن يكون هذا الانكسار احتمالا من بين احتمالات أخرى سوغت لمحمد بنطلحة صوغ بيت- أمنية، على النحو الآتي: ليتني أعمى. وهو البيت الذي حوله إلى عنوان عام لمجاميعه الشعرية. تحويل دال يحتاج الى قراءة مستقلة.

على الرغم من زعمنا سابقا بأن تأمل الخيبة بوصفها موضوعا يُعدّ أبسط مستويات المقاربة، فإن هذه البساطة تراجعت في ديوان بعكس الماء، نظرا لوضعية الموضوع فيه، القائمة على التآكل المحكم، الذي يجعل رصد ما تبقى منه شاقا. ومن ثم فالانتقال الى المستوى الثالث من المقاربة يُضاعف هذه المشقة.

كيف تتصدى اللغة الشعرية في ديوان بعكس الماء لهذا الانكسار؟ ان الانكسار الذي ترصده قصائد هذا الديوان بتكتُم تقابله مقاومةٌ تنهض بها اللغة في صوْنها لشعريتها. فآلية إتلاف الموضوع تتحقق باللغة، وهو ما يتطلب منها إظهار الموضوع عبر إخفائه.

وبهذه الآلية تعيد اللغة بناء الموضوع على نحوٍ يضمن انتسابها إلى الشعر. فقصائد بعكس الماء تنزل الى حقيقة الكائن بعمق ولا تنسى نسبها الشعري، بل إنها حريصة على حمايته. وفي هذا الحرص تكمن المقاومة الشعرية. ويمكن أن نصاحب هذه المقاومة انطلاقا مما يميز اللغة الشعرية في هذا الديوان. وهو ما ننصت إليه بناء على العناصر الآتية:

أ - تجاوب اللغة في الديوان مع أمنية العمى. وانخراطها في العمى تصريحا وانجازا، أي أن محمد بنطلحة يصرح بذلك وينجزه في البناء النصي أيضا. فالتصريح بيّنٌ في القول التالي:

اللغة/ حينما عميت عن كل شيء/ تطوّع/ الصمت/ وصار عُكازها/ من كثرة الصمت/ الورق/ حتى هو/ بأنفه الأفطس/ وظهره المتقشر/ لم يطمئن إلى منظر الزرافات/ وهن يجرين في دمائه/ بدون أعناق/ عندئذ غطى عينيه/ غطاهما بأصابعه/ كان سكران/ ومن بين ما فكّر فيه/ ذاكرة أقصر/ للزرافات(22)

تواطؤ اللغة مع الورق في الصمت يتجاوز التصريح إلى الإنجاز، على نحو ما يبدو في التكتم الشديد، وفي انفلات المعنى. ثمة اقتصادٌ كبير في البناء، وكأن الإتلاف يمتدُ إلى اللغة أيضاً ولا يقتصر على الموضوع فحسب. عندما يتوجهُ الإتلاف إلى اللغة يتحول إلى اقتصادٍ بيّن. فينشأ الصمت ويكتسح القصائد بتجليات عديدة. فالإنصات الى الصمت في قصائد بعكْس الماء يكشف أنه يشتغل بآليتين متعارضتين، يشتغل بوصفه تآكلا والتئاماً في آن. التآكل مجسدٌ في التخلي عن الحشو والميل إلى تكثيف باذخٍ يتحصّلُ عن تصفية خاصة للغة لتقول المدى بكلمات أقل. »ثمة حيث كل قطرة محيط« كما يقول بنطلحة.(23)

أما الالتئام فبيّنٌ في الوصل بين أجزاء القصائد عبر انتقالات فجائية لا تسمح بملامسة الوشائج بينها. وبذلك كان الصمتُ أداةَ بناء مركزية. فهو جبيرة ترتق بطريقة خاصة، يقول بنطلحة:

يا صمت/ يا جبيرة من شقائق النعمان(24)

ب - مقاومة القصائد في ديوان بعكس الماء للرتابة بما يفتح الأمل الشعري واسعاً. فإذا كان هذا الديوان قد قدّم كينونة الإنسان انطلاقا من ضياع الوجه، فإنه حرص على صون كينونة الشعر التي تتحدد في مقاومة الرتابة والنمطية، على نحو يشد الشعر، دوما، إلى المستقبل. الشعر هو هذا الإمكان المتمنع عن التكرار والنمطية والاجترار. وسنقتصر في التمثيل لمقاومة الرتابة في العمل الشعري لمحمد بنطلحة على خصيصة لافتة في البناء. تتعلقُ بإدماج أبياتٍ مكتوبة بخط بارز في ثنايا القصائد. وهو إدماج يبدو، للوهلة الأولى، كما لو أنه تقطيع خاص لهذه القصائد. غير أن هذا الاحتمال يتراجع فيما بعد. فعندما يقتصر هذا العنصر المدمج بخط بارز على بيت واحد، يبدو كأنه عنوان لما يفصله عن العنصر المدمج اللاحق، وعندما يتسع هذا العنصر لأكثر من بيت يتراجع احتمال وظيفة العنونة، بل أحيانا يبدو هذا العنصرُ المدمج كما لو أنه منفصل عما تقدمه وعما تلاه. وبهذا البناء تكسرُ القصائد البناء المقطعي الذي أصبح رتيبا في بعض الأشعار، وتتراجع سلطة المقطع التي تحميها الرتابة، ليتأكد أن الشعر يتحقق بالمقطع وبدونه. إن قصائد »بعكس الماء« تقاوم هذه السلطة وتقدم بدائل تفتح الشعر على الآتي. وإذا توغلنا في التأويل يتسنى لنا أن نجازف بالقول إن بعض القصائد تسمح بقراءة هذه العناصر المدمجة بوصفها قصيدة تشتغل داخل القصيدة، وإن كان هذا الاحتمال لا يستقيم في كل قصائد الديوان. لنقرأ هذه العناصر البارزة بخطها، بعد تجميعها، انطلاقا من قصيدة »في ظلام الأيقونة«:

منذ الأزل/ وهم يبتسمون/ بشفاهنا/ ريشهم أقوى دليل/ هكذا وصل الرنين/ من برهة فحسب/ هل أنا ثمل/ أم أنا أكتب/ من هناك/ كن/ هاك جناحي/ وأنت ترى(25)

والتقطع الظاهر بين الأبيات لا يلغي احتمال الجمع الذي قمنا به، لأن هذا التقطع ينسجم مع البناء بالصمت على نحو ما ألمحنا إليه سابقا.

ج - بهاء الغموض. (بعكس الماء) عملٌ شعري متمنّع على غير القراءة الشعرية. فهو يقاوم القراءة المتسرعة. وعبر هذه المقاومة يحمي عُمق الدلالة ونقصها. وتلك واجهة أخرى لحماية الشعر من خيبةٍ تُهدد كينونته. وهي الخيبةُ التي صنفناها سابقا في المستوى الثاني من المقاربة. الغموض افتتانٌ بالباطن وبالأسرار ووفاءٌ للعمق ومقاومة ضد الابتذال لرفْع الحُجُب التي يُراكمها اليومي ولرؤية ما لا يرى على حد تعبير عبدالقاهر الجرجاني. ومن ثم فإن قراءة ديوان (بعكس الماء) منذورة للمعاودة المستمرة، لأن الانتهاء من الديوان يُشعر دوما أن ثمة بدايةُ أخرى.

إن اختبار فرضية هذه الدراسة، انطلاقا من عملين شعريين، يظل محدودا، غير أنه يسمح بما يلي:

- تنسيب الحديث عن الخيبة في الشعر المغربي المعاصر حرصا على تجنب التعميم.

- عدُّ الفعل الكتابي مُقاومةٌ باللغة وفيها.

- الوعيُ بأشكال المقاومة الشعرية انطلاقا من قراءة تتحلَّى بالآداب التي يلزم بها المقروء.

الهوامش

1 - Maurice Blanchot. L`espace litteraire. Galhlimard. 1955. P56 et 57.

2 - المرجع السابق ص٥٤.

3 - محمد بنيس، »نهر بين جنازتين، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص33.

4 - المرجع السابق، ص30.

5 - المرجع السابق ص31.

6 - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.

7 - المرجع السابق ص66.

8 - المرجع السابق ص35.

9 - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.

10 - المرجع السابق، ص125.

11 - المرجع السابق ص126.

12 - المرجع السابق ص127.

13 - Michel Lafon. Borges ou la reecriture. Seuil. 1990. P68.

14 - المرجع السابق ص87.

15 - »نهر بين جنازتين«، م.س. ص92.

16 - محمد بنطلحة ، بعكس الماء، فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء، ط1- 2000، ص7.

17 - المرجع السابق ص8.

18 - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.

19 - المرجع السابق ص9.

20 - المرجع السابق، ص13.

21 - لا يحتفظ الديوان بوتيرةٍ واحدة في رسم هذا الوجه، لأن تعارض المتكلم في النص مع الجمع الغائب يتراجع في قصيدة أنسى واشرب.

22 - المرجع السابق، ص74 و75.

23 - المرجع السابق ص32.

24 - المرجع السابق ص42.

25 - تم تجميع هذه الأبيات من قصيدة (في ظلام الأيقونة)، المرجع السابق، من ص7 الى ص6 الى ص 16.


منقول