في يوم 17 (كانون الاول) من العام 1969 م هوى نجم من النجوم المتلألئة الا وهو علامة اللغة العربية وحجتها وعملاقها الدكتور مصطفى جواد البياتي (1904-1969) .......

الدكتور مصطفى جواد البياتي do.php?imgf=14503688


ولادته ونشأته :

وُلِد مصطفى بن جواد بن مصطفى بن إبراهيم البياتي بمحلة شعبية اسمها القشلة (عقد القشل) في الجانب الشرقي من بغداد عام 1904 لأبوين تركمانيين من عشيرة صارايلو وهي من البيات كان والده خيّاطا يدعى "جواد مصطفى إبراهيم" وأصل أسرته من دلتاوه، قضاء الخالص في محافظة بعقوبة (لواء ديالى سابقا) لذلك كان يوقع مقالاته وقصائده المُبَكِّرة باسم "مصطفى جواد الدلتاوي" ثم حذف هذه النسبة بعد ذلك انتقل مع والده إلى دلتاوه وعمل بالفلاحة في صباه ثم عاد إلى بغداد وأكمل دراسته الابتدائية هناك ......

تعليمه :

درس العلوم الابتدائية في دلتاوه حيث تعلم في الكتاتيب ثم في المدارس فأصبح قارئا للقرآن الكريم وحافظا له وبعد وفاة والده جواد في دلتاوه في أوائل الحرب العالمية الأولى، عاد ابنه مصطفى إلى بغداد مسقط رأسه بعد الاحتلال البريطاني وأكمل بقية دراسته الابتدائية في المدرسة الجعفرية. حيث كان شقيقه "كاظم بن جواد" من أدباء بغداد في التراث الكلاسيكي وهو الذي أسهم ببناء قاعدة العشق اللغوي في شقيقه الأصغر. اذ كلّفه شقيقه بدراسة النحو ومعاني الكلمات وأعطاه قاموسا في شرح مفردات العربية وأوصاه بأن يدرخ (يحفظ) عشرين مفردة في اليوم الواحد، ودرخ أكثر من عشرين حتى نشأت فيه حافظة مؤدرخة. كما كان لشقيقه صلة تعارف مع مدير المدرسة الجعفرية الشيخ "شكر البغدادي" (1855-1938) الذي بدوره ألزم التلميذ مصطفى جواد بحفظ الأجرومية في النحو فحفظها في ثلاثة أيام دُهِش الشيخ شكر وأهداه كتاب "شرح قطر الندى" فأتقن مضامينه أمام الشيخ. وشاع أمره بين طلاب المدرسة الجعفرية لذا أُطلِق عليه لقب "العلّامة النحوي الصغير". وانتقل لاحقا إلى مدرسة باب الشيخ.

أكمل دراسته خلال الفترة (1921-1924) في دار المعلمين العالية عام 1924، وفي هذه الدار وجد اثنين من أساتذته يعتنيان بموهبته وهما "طه الراوي" (1890-1946) حيث أهداه كتاب المتنبي لما وجده يحفظ له قصيدة طويلة بساعة واحدة بصوت شعري سليم بأوزانه، وأستاذه الآخر ساطع الحصري حيث أهداه قلما فضيا بعد أن وجد قابلية تلميذه تتجاوز مساحة عمره إلى أقصى الحدود، وكان أساتذته يقولون له: "أنت أفضل من أستاذ!" فهو يكمل عجز البيت الشعري إذا توقف عن ذكره، ويحلل القصيدة ويتصيد الأخطاء ويشخص المنحول بقدرة استقرائية غير مستعارة من أحد .......ز

الدراسات العليا :

حصل على بعثة لتطوير دراساته في باريس فقضي سنة كاملة في القاهرة لتعلم الفرنسية وهناك التقى رواد الثقافة طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات وباحثهم وجادلهم في أخطائهم ولم يذعنوا لأنهم كما يقول مصطفى جواد "مدارس وقدرات" ولا يجوز انتقادهم. سافر إلى فرنسا خلال الفترة (1934-1939) وأكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في جامعة السوربون في الأدب العربي فنالها عن أطروحته "الناصر لدين الله الخليفة العباسي". نشبت الحرب العالمية الثانية فعاد إلى بغداد سنة 1939 قبل أن يناقش الرسالة وعاد معه الدكتور ناجي معروف، والدكتور "سليم النعيمي"، وهما مثله كانوا بانتظار مناقشة الرسالة.
أفاد ذاكرته التراثية في باريس من ملازمته لمجلس الميرزا "محمد القزويني" ومكتبته التراثية فنسخ منها عشرات المحفوظات العربية النادرة، وعشرات مثلها من المكتبة الوطنية الفرنسية، ومهمة النسخ هذه ساعدته على اتساع خياله التراثي وإرجاع الفرع الذي قرأه في الكتب الحديثة إلى الأصل الذي هو في الكتب الأولى وهذه المراجعة والمذاكرة مع الذات تمهد له الطريق لاكتشاف المزيد من حقائق اللغة التراثية وتجعل ذهنه ذهنا مقارنا حيوي التخريج .....

سيرته المهنية :

بعد تخرجه من دار المعلمين العالية، مارس مهنة التعليم في المدارس مدة تسع سنوات (1924-1933) متنقلا بين البصرة والناصرية وديالى والكاظمية، حيث تم تعيينه معلما للمدارس الابتدائية.
عمل مدرسا في معهده الذي تخرج منه وفي كلية التربية التي ورثت المعهد بعد تأسيس جامعة بغداد. في عام 1962، انتدب للتدريس في معهد الدراسات الإسلامية العليا وعُيِّن عميدا للمعهد المذكور بعد عام.
تم تعيينه كاتبا للتحرير في وزارة المعارف ونقل بعد ذلك معلما في المدرسة المأمونية ببغداد، ومنها نقل إلى المدرسة المتوسطة الشرقية ببغداد. تعرف خلال هذه المدة على الأب أنستاس الكرملي فلازمه وكتب في مجلته "لغة العرب". كما شغل منصب المشرف على الأساتذة الخصوصيين الذين أشرفوا على تدريس وتثقيف الملك فيصل الثاني ملك العراق. وهو أحد الأصدقاء المقربين للسيد رشيد عالي الكيلاني وكان على صلة طيبة به خصوصا أنهما بالأصل من لواء ديالى .....

كتب الكثير من الأبحاث والكتب عن اللغة العربية وكيفية تحديثها وتبسيطها. وله العديد من المؤلفات المشتركة ومقالات ودراسات منشورة لم تجمع بعد، كما واصل النشر والكتابة والبحث والتنقيب والتخصص في اللغة وتاريخها فألف وحقق ما يثريها ويعمق من معرفتها والتمعن بها، باذلا جهوده في الإحاطة بها رغم معاناته من مرض القلب وقام بتدريس اللغة لأكثر من خمس وأربعين سنة .....

من إنجازاته اللغوية :

إعداد قواعد جديدة في النحو العربي كبدائل لقواعد نحوية قديمة.
إعداد قواعد وقوانين جديدة في تحقيق المخطوطات التراثية.
إنزال الفصحى إلى العامة بأسلوبه السلس ذي الجرس الأنيس.
تنبيه أساتذة الجامعات إلى اعتماد لغة سليمة في أبحاثهم.
تعليم الباحثين طريقة الاستناد إلى الشواهد شعرا ونثرا وسواء كانت الشواهد من القرن الأول الهجري أم من العصر الحديث، وبذلك حررهم من الجمود الفكري .....

قل ولا تقل :

عرف العراقيون مصطفى جواد من خلال برنامجه الإذاعي الناجح "قل ولا تقل"؛ أي قل الصحيح وانبذ الخطأ الشائع. كان برنامجا لغويا شيقا وكان يتابعه الصغار والكبار. قام مصطفى جواد من خلال ذلك البرنامج بتبسيط اللغة العربية للمستمع العام وللمختص اللغوي وبحرفة الكتابة في آن واحد.
طبع له من هذا الموضوع جزآن (1970-1988) وربما استعار عنوان كتابه من الدراسات اللغوية الفرنسية التي شاعت في أثناء دراسته في جامعة باريس. ابتدأ بنشر موضوعه منذ عام 1943 في مجلة "عالم الغد" فكان يذكر أولا الصحيح أو الفصيح ويشفعه بالغلط أو الضعيف، وكان يرتب ذلك على حروف المعجم. أما الأسباب التي دعته إلى تأليف موضوعه "قل ولا تقل" فهي:
استهانة طبقة من المترجمين باللغة العربية، وقد امتاز منهم بهذا الإثم اللغوي مترجمو البحوث العسكرية.
أن كثيرا من الكتاب والشعراء يكتبون كلما غير مشكول، واللحن في غير المشكول لا يظهر، وبعضهم يكسر المفتوح ويفتح المضموم وينون الممنوع من الصرف ويكسر المضموم.
إفساد اللغة من قبل طبقة من الممثلين.
كثرة الأغلاط في (تحريرات) الدوائر ودواوين الحكومة ولا سيما في الإعلانات والتعليمات.
كثرة الأغلاط عند مترجمي الأفلام السينمائية. والهدف الرئيس وراء صيحاته ليس طعن من يخطيء، إنما يريد أن ينبه على الغلط ويذكر الصواب.
انتقاده للمصريين أن الخطأ خطأهم، ويقول في ذلك: "ليست اللغة ميراثا لهم وحدهم فيعملوا بها مايشاؤون من عبث وعيث."

مؤلفاته ؛

"الحوادث الجامعة" أول كتاب صدر له (1932)
"سيدات البلاط العباسي." (1950)
"المباحث اللغوية في العراق" (1960)
"سيرة أبي جعفر النقيب" (1950)
"خارطة بغداد قديما وحديثا" (مع الدكتور أحمد سوسة وأحمد حامد الصراف)
"دليل خارطة بغداد" (مع الدكتور أحمد سوسة)
"دليل الجمهورية العراقية" لسنة (1960) (مع محمود فهمي درويش وأحمد سوسة)
"الأساس في الأدب" (مع أحمد بهجت الأثري وكمال إبراهيم)
"دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم" (1968)
"قل ولا تقل" (1969)
"قصة الأمير خلف" (مترجمة عن الفرنسية)
"رحلة أبي طالب خان" الرحالة الهندي المسلم للعراق وأوروبا عام 1799 (طبع سنة 1970)
"دليل خارطة بغداد المفصل" (مع الدكتور أحمد سوسة) مطبعة المجمع العلمي العراقي (1958)
"جاوانية القبيلة الكردية المنسية" المجمع العلمي العراقي
"رسائل في النحو واللغة" آخر كتاب طبعه (1969)
"مستدرك على المعجمات العربية" كتاب خطي
"الشعور المنسجم" ديوان شعر
"الضائع في معجم الأدباء" أعادت دار المدى بدمشق نشر الكتاب بتقديم الدكتور عناد غزوان، تلميذه الوفي له ولدراسة الأدب واللغة والنقد الأدبي، بحثا وتدريسا واهتماما وسهرا على ما غرسه العلامة بنفوس محبي لغتهم وتراثها الإنساني .....

وفاته :

توفي في 17 ديسمبر عام 1969 في بغداد التي ولد فيها عن عمر ناهز الخامسة والستين بسبب مرض عضال لازمه سنواته الأخيرة. سار في تشييعه رئيس الجمهورية العراقية أحمد حسن البكر وأقيمت في الذكرى الأربعينية لوفاته حفلة تأبينية كبرى حضرها مندوب عن رئيس الجمهورية وعدد كبير من الوزراء والمسؤولين وشعراء الدول العربية والإسلامية وجمهور غفير من أصدقائه وطلابه ومحبيه، ثم نظمت وزارة الثقافة والإعلام معرضا يضم مخلفاته وآثاره الشخصية والعلمية افتتح يوم 25 مارس 1970 م .......