بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل عل محد وآل محمد
الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُها السَّمَـاوَاتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّـاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ (136)آل عمران
لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أُعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي :
1 ـ إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدّة والرخاء، في السرّاء والضرّاء (الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء).
، السراء والضراء ما يسر الإنسان وما يسوؤه أو اليسر والعسر
وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين، وحب الخير الذي تغلغل
في نفوسهم، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية في جميع الظروف والأحوال.
ولاشكّ أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدلّ على التغلغل الكامل للصفات الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدلّ على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال، فإن ذلك ممّا يدلّ على تجذر تلك الصفة في النفوس.

يمكن أن يقال : وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عندما يكون فقيراً ؟
والجواب واضح تمام الوضوح :
أولاً : لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه، فليس للإنفاق حدّ معين لا في القلة ولا في الكثرة.
وثانياً : لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب، إذ للإنسان أن ينفق من كلّ ما وهبه الله، ثروة كان أو علماً أو جاهاً أو غير ذلك من المواهب الإلهية الاُخرى.
وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء، والبذل والسخاء حتّى في نفوس الفقراء والمقلين حتّى يبقوا ـ بذلك ـ في منأى عن الرذائل الأخلاقية التي تنشأ من «البخل».
إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون هذا المذهب، لأنهم حسبوا لكلّ واحد منها حساباً مستقلاً وخاصاً، ولو أنهم ضموا هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه.
فلو أن كلّ واحد من أهل قطر من الأقطار ـ فقراء وأغنياء ـ قدم مبلغاً صغيراً لمساعدة الآخرين من عباد الله، ولتقدم الأهداف والمشاريع الإجتماعية، لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة، مضافاً إلى ما يجنونه من هذا العمل

من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق، وتعود إلى المنفق في كلّ حال.
والملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو «الإنفاق» لأن هذه الآيات تذكر ـ في الحقيقة ـ ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة. هذا مضافاً إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السرّاء والضراء من أبرز علائم التقوى.
فالمتقون الذين ينفقون في السراء والضراء، دون الالتفات الى مقدار ما يملكون، أو نوعية الظرف الزماني أو المكاني الذي فيه ينفقون. فالله أوسع من الزمان والمكان، وهكذا هو تطلع الانسان المؤمن، حيث لا تحده الحدود ولا تقف دونه العقبات، بل هو كائن معطاء في كل الظروف، تخلّقاً بأخلاق الله تبارك وتعالى.
2 ـ أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم : (والكاظمين الغيظ).

ولفظة «الكظم» تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلىء غضباً ولكنه لا ينتقم.
وأما لفظة «الغيظ» فتكون بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره.

فهم المتجرعين للغيظ عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر بل يصبرون على ذلك
وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعتري الإنسان، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله.

ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية «كظم الغيظ» و «كبح جماح الغضب» الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين.
قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً».
وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنوياً، وفي تقوية روح الإيمان لديه.
3 ـ أنهم يصفحون عمن ظلمهم

(والعافين عن الناس).
كظم الغيظ أمر حسن جداً، إلاّ أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن «كظم الغيظ» بخطوة أُخرى وهي «العفو والصفح» ولهذا أردفت صفة «الكظم للغيظ» التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.
ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.
وهم كاظمون للغيظ، عافون عن الناس، فهم بعيدون عن الأحقاد وتفاهات الحياة، ويعرفون كيف يعالجون مشاكلهم، تبعاً الى أنّ قلوبهم مليئة بحب الخير والمسامحة، فإذا كانوا يطلبون المغفرة من ربهم الرؤوف الرحيم، فلماذا لا يقلّدون ربهم ويكدحون إليه في حبّ الآخرين وغفران السيئات وتعميم بركاتهم على غيرهم، وإن كانوا هم المحقين
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ( أي إنهم يتداركهم الاقرار بواقعهم وكونهم مجرد أناس معرضين للخطأ والزلل، وأنهم لا يمتلكهم الغرور والعزة بالإثم، وذلك انطلاقاً من طبيعة تربيتهم وقناعاتهم الدينية الحميدة.
4 ـ أنهم محسنون : (والله يحب المحسنين).

وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من «العفو والصفح» وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.
وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسىء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.
وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولاً ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه.
إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي.
ولقد روي أن جارية للإمام علي بن الحسين عليه السلام جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إن الله تعالى يقول : (والكاظمين الغيظ) فقال
لها : قد كظمت غيظي. قالت : (والعافين عن الناس) قال : «قد عفوت وقد عفى الله عنك» قالت : (والله يحب المحسنين) قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله
إن هذا الحديث شاهد حي بأن كلّ مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة

وفي قوله: { والله يحب المحسنين } إشارة إلى أن ما ذكره من الأوصاف معرف لهم, وإنما هو معرف للمحسنين في جنب الناس بالإحسان اليهم, وأما في جنب الله فمعرفهم ما في قوله تعالى:
{ وبشرى للمحسنين, إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

5 ـ إنهم لا يصرون على ذنب : (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم).
و«الفاحشة» مشتقة أصلاً من الفحش، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش ـ في الأصل ـ يعني «تجاوز الحدّ» الذي يشمل كلّ ذنب.

فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة والصغيرة, أو خصوص الصغائر على تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي وهي الكبائر, وفي قوله: { ذكروا الله } الخ دلالة على أن الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرد التلفظ باعتياد ونحوه, وقوله: { ومن يغفر الذنوب إلاَّ الله } تشويق وإيقاظ لقريحة اللواذ والالتجاء في الإِنسان.
هذا وفي الآية أعلاه إشارة إلى إحدى صفات المتقين، فالمتقون مضافاً إلى الإتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية، إذا اقترفوا ذنباً، (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ، ولم يصروا على ما فعلوا).

يستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب مادام يتذكر الله، فهو إنما يذنب إذا نسي الله تماماً واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة ـ لدى المتقين ـ حتّى تزول عنهم سريعاً ويذكرون الله، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.
إن المتقين يحسون إحساساً عميقاً بأنه لا ملجأ لهم إلاّ الله، فلابدّ أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه (ومن يغفر الذنوب إلاّ الله).
وينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافاً إلى «الفاحشة» «ظلم النفس» (أو ظلموا أنفسهم) ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى الذنوب الكبيرة، و «ظلم النفس» إشارة إلى الذنوب الصغيرة.
ثمّ إنه سبحانه تأكيداً لهذه الصفة قال ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).
وقد نقل عن إلامام الباقر (عليه السلام) أنه قال : «الإصرار : أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار»
وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال : «لما نزلت هذه الآية (وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا ؟
قال : نزلت هذه الآية فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين.
فقال : أنا لها بكذا وكذا.
قال : لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك.
فقال : لست لها.
فقال : الوسواس الخناس أنا لها.
قال : بماذا ؟ قال : أعدهم وامنيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الإستغفار.
فقال : أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة»
ومن الواضح أن النسيان ناشىء من التساهل، والوساوس الشيطانية، وإنما يبتلى بها من سلم نفسه لها، وخضع لتأثيرها، وتعاون مع الوسواس الخناس واستجاب له.
ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس، فكلّما صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب، بادروا ـ في أقرب فرصة ـ إلى غسل ما ران على قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان .
الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.
هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم، قد تعرضت لذكرها الآيات السابقة.
والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.
وكان ذلك إذ قال سبحانه : (أُولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم * وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).
لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن : مغفرة ربانية، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون إنقطاع أبداً.
والحقيقة أن الإشارة هنا كانت إلى المواهب المعنوية (وهي المغفرة والطهارة الروحية والتكامل المعنوي) أولاً، ثمّ إلى المواهب المادية.
ثمّ إنه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله : (ونعم أجر العاملين) أي ما أروع هذا الجزاء الذي يعطي للعاملين لا للكسالى، الذين يتهربون من مسؤولياتهم، ويتملصون من إلتزاماتهم.

وقوله: { أُولئك جزاؤهم مغفرة } ، بيان لأجرهم الجزيل, وما ذكره تعالى في هذه الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة } الخ ومن ذلك يعلم أن الأمر إنما كان بالمسارعة إلى الانفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس و الاستغفار
************************************************** ************************************************** ***********************
تفسيرالامثل
تفسيرمجمع البيان
تفسيرمن هدي القرآن
تفسيرالميزان