الجواري اللاتي حكمن بدلاً من الخلفاء
علوانى مغيب
بعضهن تلقين السلطة إرثا وأخريات أقدمن علي قتل الوريث للاستيلاء علي السلطة وكثيرات منهن تولين القيادة بأنفسهن وفي قيادة المعارك.. تعرضن للفشل أحيانا وأبرمن المعاهدات.. ومنهن من منحن ثقتهن لوزراء مختصين ومنهن من لم يعول إلا علي نفسه.. كان لكل واحدة منهن طريقها الخاص في قيادة الشعب وتحقيق العدالة وإدارة الضرائب، بعضهن ظللن علي العرش لفترة طويلة وبعضهن ما كدن يصلن إليه حتي انتهي حكمهن وبعضهن متن علي الطريقة التي مات بها الخلفاء بالسم أو الاغتيال بالخناجر..
وفي كتابها «السلطانات المنسيات.. نساء رئيسات دول في الإسلام» خاضت الكاتبة المغربية «فاطمة المرنيسي» في صفحات التاريخ لتكشف عن سلوك النساء في فترات مختلفة من التاريخ وكيف كان سلاح المرأة هو الثقافة والوعي وحسن تصريف الأمور قبل أن يكون الفتنة والجمال والقد الممشوق وكيف استطعن التربع علي عروش الدول الإسلامية وأصبحن سلطانات.
شجرة الدر أعطت لنفسها لقب سلطانة، إلا أن اللقب لم يدم لها فترة طويلة لرفض الخليفة مما عجل بنهايتها المأساوية رغم كفاحها اليائس وموهبتها في قلب قواعد اللعبة السياسية.
وربما شكلت راضية في توليها السلطة في دلهي قبل شجرة الدر بعشر سنوات حالة استثنائية وكان توليها لها بفضل والدها السلطان قطب الدين أيبك العبد بالأساس، والذي وصل إلي السلطة بواسطة جدارته، وهو الذي أقام سيادة المسلمين علي الهند وقرر تسمية «راضية» ابنته لتكون ولية عهده رغم أنه كان لديه ثلاثة أولاد ذكور وقد حاول العلماء والقضاة أن يثنوه عن قراره إلاَّ أن ذلك لم يحل دون وصول راضية إلي السلطة.
ولكن المقاومة باسم الدين كانت خفية وحركها خصومها أثناء حكمها. ولم يتخلص الإندونيسيون من هذه العقبة رغم المسافة الثقافية والجغرافية بالملكات الأربع اللواتي تولين السلطة في إمبراطورية الأنجية وهو الجزء الواقع أقصي الشمال من جزيرة سوماطرة في نهاية القرن السابع عشر تعرضن لمواجهة ومقاومة دينية أنكرت عليهن حقهن في الحكم وطالبتهن بالحصول علي فتوي من مكة ولم يمنعهن هذا من احتكار السلطة حتي بداية القرن الثامن عشر الميلادي وتحلين بالألقاب التي كانت تسبب ضيقا للخليفة المستعصم العباسي وكانت أولاهما تدعي بكل تواضع « تاج العالم صفية الدين» واختارت الثانية اسم « نور العالم نقية الدين» والثالثة اختارت اسم « عناية شاه نقية الدين» أما الرابعة فكانت « كمالات شاه» وقد أوصلت حكمها بهدوء إلي مطلع القرن الثامن عشر.
إن أول ثورة عبيد كانت ثورة الجواري اللواتي انطلقن للهجوم علي الخلفاء. ولكن هناك اختلافا في تحديد زمانها، فهل كان زمن يزيد الثاني ابن عبد الملك تاسع خليفة أموي ذلك الذي لم يتول السلطة في سنة 101 هجرية إلا ليعيدها كما يقول « الطبري» إلي جاريته حبابة التي كان يقول عنها عندما يصل إلي أوج سروره أنه يود أن يطير، وحبابة هذه هي التي كان ينبغي عليها أن تذكره عندئذ بمهمته علي الأرض وبلزوم عدم الذهاب بعيدا.. أم أن الأمة تكون خيزران امرأة المهدي ثالث خليفة عباسي 158 هجرية، فهذه لم تفلح كحبابة بأن تسحر زوجها وإنما قادته إلي إشراكها معه في سلطته وبعد موت هذا الأخير استمر نفوذها في حكم ولديه الهادي ثم هارون الرشيد من بعده.
وكانت سلطة الإماء علي الخلفاء أجرت تحولات لم تنص عليها الشريعة حتي في صميم النظام ذاته في علاقة النساء مع « ممثل الله علي الأرض» إن الجواري كن يعملن في قصر الخلافة نفسه، في فراش وقلب من نصبه الشرع حاكما مطلقا علي الأموال والأرواح.. ثورة الجواري كانت عميقة ومستمرة لأنها عزفت علي الوتر العاطفي والجنسي، الغرامي والشهواني فالنساء والإماء لم يعلن الحرب علي أسيادهن بل غمرنهم بالحب!
إن أول جارية احتالت للوصول إلي دور سياسي هي الخيزران وبعدها بقليل ظهرت علي المسرح السياسي في عهد الأسرة العباسية وهي الجارية « شغف» أم الخليفة الثامن عشر المقتدر « مات في 321 هجرية» وقد نجحت في توجيه وتحريك كل النخبة البيروقراطية والدينية والعسكرية للاعتراف بابنها كخليفة، وذلك بالرغم من أنه لم يكن له من العمر سوي 13 عاما وقد عاند القاضي أحمد بن يعقوب، فلم يعترف بالمقتدر وأصر بصفته سلطة دينية علي أنه مازال طفلا وبالتالي ليس مؤهلا ليصبح خليفة وقد صفي مع كامل الجماعة التي كانت تشاركه الرأي نفسه.
ولكن هل حصل أن انساق خلفاء إلي إغواء جوار أجنبيات؟ وبصورة خاصة مسيحيات؟ إن الحالة الأكثر شهرة هي حالة الجارية صبح جارية الخليفة الحاكم أحد أكابر أمويي الإمبراطورية الإسلامية في إسبانيا.. كان الطموح يتملك صبح التي اعتاد المؤرخون علي تسميتها «صبحية» ملكة قرطبة. وكان اسمها في الأصل أورورا وكانت زوجة الحاكم المستنصر الخليفة الأموي التاسع في الغرب الفرع الذي حكم في إسبانيا وعاصمتها قرطبة خلال ما يقرب من ثلاثة قرون ما بين «756-1031» ميلادية وقد دام حكمه 16 سنة وقد بدأ حكمه بحملة مشهورة ضد المسيحيين.. كانت غنائمه فيها لا تحصي سواء من القطعان أو عدد السبايا.. وفي إحدي هذه الحملات وقعت صبح سبية.. ولكن كيف أخذت صبح بزمام الأمور ومقاليد الأمة ؟
لابد من التوقف قليلا علي سرد صعود جارية في حريم مسلمة، حيث يتوفر الكثير من السبايا الجميلات، حيث كانت المنافسة إذن منافسة حادة فكيف تميزت وكيف استرعت انتباه الخليفة، خلافا لما يمكن افتراضه لم يكن الجمال الطبيعي والشباب الغض كافيين، بل لابد أن يكون هناك شيء وهذا الشيء الآخر بالنسبة للعرب كان العقل والذكاء والثقافة فكل الجواري بلا استثناء نجحن في التأثير علي أسيادهن إلي حد جعلهم يشركهن في السلطة.فالجواري الكثيرات اللواتي نجحن في أن يصبحن مفضلات كن نساء يمتلكن معلومات جيدة وبصورة خاصة حول ما كان يجري في الإمبراطورية وقد كن ضليعات في العلوم السياسية.
ومع تقدم الحاكم في السن ترك أمور الدولة لجاريته التي عينت سكرتيرا كان يدعي بن عامر وكان موهوبا في تطويع الوقت والناس وبدأت بين الملكة وأمين سرها علاقة محكمة وثار الجدل حول الحياة الجنسية لصبح واستطاعت صبح أن تبسط سلطانها علي زوجها، حيث كان ابنها لا يزال طفلا واستمرت العلاقة بين صبح وابن عامر قرابة ثلاثين عاما وعندما حاولت الملكة التخلص منه بعد هذه السنين إلا أنه استطاع بحنكته أن يستولي علي السلطة منها.
علي أن إحدي الجواري التي كانت تغار منها الخيزران كثيرا كانت تدعي مكنونة وكان لها وجه جميل جدا وقوام رشيق وكانت معروفة علي الأخص في المدينة كمغنية اشتراها المهدي وهو لا يزال أميرا ووليا للعهد دفع ثمنا لامتلاكها مائة ألف درهم، وكان مثل هذا السعر غاليا مما دفعه إلي إبقائه سرا، لأن والده المنصور لم يكن يقبل بمثل هذا التبذير. وكان المهدي مأخوذا بسحرها لدرجة أن الخيزران اعترفت « لم أخف مطلقا من امرأة كما خفت من هذه».
وكان ثمن الجواري يرتفع مع تعليمهن وتدريبهن علي الفنون، وأصبح تعليمهن مؤسسة حقيقية أغنت كثيرا أولئك الذين امتهنوها، وكان ذلك بدقة في عصر الخليفة المهدي ووالده، وكان معاصرها إبراهيم الموصلي سيد الغناء والموسيقي العربية الذي كان ملازما قصر هذين الخليفتين وحسب الأصفهاني «كان للمهدي مدرسة حقيقية تضم ثمانين جارية يتدربن عند الموصلي في وقت واحد إضافة إلي جواريه.
أما الجارية شارعة التي اشتراها إبراهيم بن الخليفة المهدي والتي تميزت أنها من نسل أمير وكلفه شراؤها 300 دينار وأعفاها من خدمة المنزل وكرست نفسها للدراسة والتدريب علي الغناء وسمع بها الخليفة المستعصم وعرض علي إبراهيم بن المهدي سبعين ألف دينار ومعلوم أن المنافسة بالنسبة للخيزران كانت تأتي من جانب الجواري وليس من جانب زوجة المهدي الاستقراطية التي نجحت في تجريدها من كل امتيازاتها بما في ذلك حقها أن تري أبناءها يعينون أمراء وارثين للعرش.
في التاريخ الإسلامي كان عدد الخلفاء ممن كانت أمهاتهم إماء أكثر من مؤثر إنها ظاهرة تستحق الدراسة المعمقة لأنها ترشدنا خارج قصص الحب إلي بعد أهم جدا من صراع الطبقات والثقافات أثناء العصر الذهبي الإسلامي.. إنه البعد الجنسي وفي هذا يلاحظ بن حزم أنه « بين الخلفاء العباسيين كان ثلاثة خلفاء فقط أبناء نساء حرات.. وبين أمويي الأندلس لم ينجح ابن خليفة واحد من امرأة حرة في أن يصبح خليفة، ف«سلامة» أم الخليفة المنصور والد المهدي كانت بربرية وأمهات الخلفاء المأمون والمنتصر والمستعين والمهتدي هن روميات وأم المتوكل العاشر كانت تركية.
من هن هؤلاء النسوة اللواتي كان لهن شرف التاريخ؟ أي ألحقن بالعلامات المؤكدة للسلطة : الخطبة وسك النقود؟ وهل كان لهن مواصفات فريدة أو جمال مذهل أو فتنة صاعقة أم ذكاء لا مثيل له؟ هل كن أميرات بالدم أم نساء من عامة الشعب أم جاريات؟
يأتي في مقدمة هؤلاء شجرة الدر.
ففي البداية كانت الملكات من سلالة كوتولوغ خانير وهي الملكة كوتولوغ خاتون وتسمي في بعض الوثائق تركان خاتون وابنتها باديشاه خاتون وحكمت هذه السلالة بين القرن الثالث عشر والرابع عشر كرمان وهي مقاطعة فارسية تقع في الجنوب الغربي لبلاد فارس وعندما توفي الأمير قطب الدين طلب أعيان كرمان من البلاط المنغولي بأن يعهد بالحكومة إلي أرملتة كوتولوغ خاتون التي حكمت البلاد لمدة ستة وعشرين عاما، وقد عرفت كيف تحظي برعاية البلاط المنغولي بإرسالها ابنها خدجاج ليحارب في جيش هولاكو وتزويج ابنتها باديشاه خاتون إلي أبكاخان ابن هولاكو وكان هذا الزواج مستغربا استغرابا مزدوجا لأن الزوجة مسلمة والزوج بوذي، وكذلك لأن باديشاه خاتون تربت كصبي بين الصبيان تماما ليخدعوا المغول الذين كانوا يخضعون أميرات مستعمراتهم للزواج الإجباري. ويبدو أن سلالة كوتولوغ خاتون لم يكن لديها أي رغبة بالارتباط بالزواج مع بلاط هولاكو.
أما الملكات التي حكمن في الجزر فكانوا سبعا ثلاث منهن في جزر الملاديف وأربعة في إندونيسيا وكانت السلطانة الأولي في الملاديف خديجة بنت السلطان صلاح الدين.
وقد شهدت المنطقة العربية ملكتين وكان ذلك في اليمن حيث تتمتع بوضع استثنائي ليس لأن العديد من النساء اليمنيات مارسن السلطة السياسية، ولكن لأن امرأتين هما الملكة أسما والملكة أروي تتمتعان بالامتياز والمعيار الثابت لرئيس الدولة ألا وهو الخطبة التي كانت تلقي أسبوعيا في المساجد

منقووول