لم تكن الولايات الإقطاعية، التي وهبت الصين بعدئذ ما استمتعت به من نظام سياسي قرابة ألف عام، من عمل الفاتحين، بل نشأت من المجتمعات الزراعية التي قامت في الأيام البدائية بامتصاص أقوياء الزراع ضعافهم، أو باندماج الجماعات تحت رياسة زعيم واحد حتى يستطيعوا أن يدفعوا عن حقولهم من يغيرون عليها من الهمج المحيطين بهم. وبلغ عدد هذه الإمارات في وقت من الأوقات سبع عشرة ولاية تتكون كل منها في العادة من بلدة مسورة تحيط بها أرض زراعية ومن ضواح مسورة أصغر منها يتألف من مجموعها محيط دفاعي واحد. ثم أخذت هذه الولايات يندمج بعضها في بعض على مهل حتى نقص عددها إلى خمس وخمسين ولاية تشمل الإقليم الذي يعرف الآن بإقليم هونان وما جاوره من أقاليم شانسي، وشنسى، وشانتونج. وكان أهم هذه الولايات الخمس والخمسين ولاية تشي التي وضعت أساس الحكومة الصينية، وولاية تشين التي أخضعت سائر الولايات لحكمها وأنشأت منها امبراطورية موحدة، وخلعت على بلاد الصين اسمها المعروفة به في جميع بلاد العالم إلاّ فيها هي نفسها. وكان السياسي العبقري الذي وضع لولاية تشي نظامها هو جوان جونج مستشار الدوق هوان. وقد بدأ جوان حياته السياسية بمساعدة أخى هوان عليه في نزاعهما من أجل السيطرة على تشي، وكاد يقتل هوان في إحدى الوقائع الحربية. ولكن هوان انتصر في آخر الأمر وأسر جوان وعينه رئيس وزراء دولته. وزاد جوان من قوة سيده باستبدال الأسلحة والأدوات الحديدية بنظائرها المصنوعة من البرنز، وباحتكار الحكومة للحديد والملح أو بالسيطرة عليهما، ثم فرض الضرائب على النقود والسمك والملح "لكي يساعد الفقراء ويكافئ الحكماء وذوي المواهب". وأصبحت تشي في أيام وزارته الطويلة الأجل دولة حسنة النظام ذات عملة مستقرة، ونظام اداري محكم، وثقافة زاهرة. وقد قال عنه كنفوشيوس- وهو الذي لم يكن يمتدح الساسة إلا بأوجز عبارة- "إن الناس لا يزالون حتى اليوم يستمتعون بالنعم التي أسبغها عليهم، ولولا جوان جونج لظللنا حتى اليوم ذوي شعر أشعث، ولظلت ملابسنا تزرر جهة الشمال" . وفي بلاط نبلاء الاقطاع نشأت طريقة التحية التي امتاز بها الصينيون المهذبون، كما نشأت فيها شيئا فشيئا تقاليد من الاخلاق والاحتفالات ومراسم التكريم بلغت من الدقة حدا يكفيها لأن تحل محل الدين عند الطبقات العليا في المجتمع. ثم وضعت أسس الشرائع وبدأ نزاع شديد بين حكم العادات التي نمت عند عامة الشعب وبين حكم القانون الذي وضعته الدولة. وأصدرت دوقيتا جنج وتشين (في عامي 535 512 ق. م) كتبا في القانون ملأت قلوب الفلاحين رعبا، وتنبئوا بما سيحل بهما من عقاب سماوي شديد على هذه الجريمة الشنيعة. وحدث بالفعل أن دمرت النار عاصمة جنج بعد ذلك بقليل. وكان في هذه الشرائع محاباة للطبقات العليا، فقد أعفتها من كثير من الواجبات المفروضة على غيرها من الطبقات على شريطة أن يؤدب أفرادها أنفسهم. من ذلك أن القاتل منهم كان يسمح له بأن ينتحر، وكان الكثيرون منهم ينتحرون بالفعل على النحو الذي أصبح فيما بعد عادة مألوفة بين طبقة السموراي في اليابان. واحتج عامة الشعب على هذه التفرقة، وقالوا أن في مقدورهم هم أيضا أن يؤدبوا أنفسهم، وتمنوا أن يقوم بينهم وطني مخلص شبيه بهرموديس أو أرستجيتون يحررهم من ظلم القوانين. ثم تراضت الفئتان آخر الأمر واتفقتا على حل سليم فضيقت دائرة القانون الوضعي حتى لم تعد تشمل الا المسائل الكبرى أو المسائل القومية، وظلت أحكام العرف والعادة هي الفيصل فيما دونها من الأمور. واذ كانت الكثرة الغالبة من شئون البشر من المسائل الصغرى فقد ظل حكم العادة هو السائد بين كافة الطبقات. واستمر تنظيم الولايات يجري في مجراه، وجمعت قواعد هذا النظام في الجو- لي، أو "دستور جو" وهو مجموعة من الشرائع تعزوها الروايات إلى جو جونج عم دوق جو الثاني وكبير وزرائه، وهو بالطبع قول لا يقبله عقل لأن هذه الشرائع لا يمكن أن تكون من وضع رجل واحد. والواقع إن الإنسان يلمح فيها روح كونفوشيوس ومنشيس، ولهذا فأكبر الظن أنها وضعت في آخر أيام أسرة جو لا في أيامها الاولى. وقد ظلت مدى ألفي عام تمثل فكرة الصينيين عن النظام الحكومي: وقوامه إمبراطور يحكم نيابة عن الخالق، وأنه "ابن السماء" يستمد سلطانه مما يتصف به من الفضيلة والصلاح؛ وأعيان، بعضهم بحكم مولدهم وبعضهم بحكم تربيتهم وتدريبهم، يصرفون أعمال الدولة؛ وشعب يرى أن واجبه فلح الارض يعيش في أسر أبوية ويتمتع بالحقوق المدنية ولكنه لا رأي له في تصريف الشؤون العامة؛ ومجلس من ستة وزراء كل واحد منهم على ناحية من النواحي الآتية وهي: "حياة الإمبراطور وأعماله، ورفاهية الشعب وزواج أفراده المبكر، والمراسيم والتنبؤات الدينية، والاستعداد للحرب والسير فيها، وتوزيع العدالة بين السكان وتنظيم الأشغال العامة". ويكاد هذا القانون يكون قانونا مثاليا، وأكبر الظن أنه نبت في عقل فيلسوف أفلاطوني مجهول لم يتحمل أعباء الحكم، لا من تجارب زعماء دنستهم السلطة الفعلية ويتعاملون مع خلائق حقيقيين. ولما كان الشر المستطير قد يجد له مكانا حتى في أكمل الدساتير، فقد كان تاريخ الصين السياسي هو التاريخ المألوف الذي يتناوبه الفساد الطويل وفترات الإصلاح القصيرة. ذلك أن الثروة حين زادت أدت إلى الإسراف والترف فأفسدا الطبقة العليا، كما غصّ بلاد الأباطرة وغصت فيما بعد لويانج عاصمة الدولة بالموسيقيين والقتلة والسفاحين والسراري والفلاسفة. وقلما كانت تمضي عشر سنين دون أن يهاجم فيها الدولة الجديدة البرابرة الجياع الذين لم ينقطعوا يوما ما عن الضغط على حدودها، حتى أضحت الحرب أولا ضرورة لا بد منها للدفاع، ثم صارت بعد قليل حرب هجوم واعتداء، وتدرجت من ألعاب يتسلى بها الأعيان إلى مسابقات في التقتيل بين عامة الشعب، يطاح فيها بعشرات الآلاف من الرؤوس، فلم يمض إلاّ قرنان من الزمان أو أكثر منهما بقليل حتى قتل من الملوك ستة وثلاثون، وعمت البلاد الفوضى، ويئس الحكام من إصلاح الأمور. وظلت الحياة تتعثر في طريقها متخطية هذه العقبات القديمة فكان الفلاّح يزرع ويحصد لنفسه في أحيان قليلة وللنبلاء الإقطاعيين في أكثر الاحيان، لأنه هو وأرضه كانا ملكا لهؤلاء النبلاء، ولم يبدأ الفلاحون في امتلاك الارض الاّ في أواخر أيام هذه الأسرة. وكانت الدولة- وهي مجتمع مهلهل من النبلاء الإقطاعيين يعترفون بعض الاعتراف بسيادة واحد منهم- تجند العمال للأشغال العامة، وتروى الحقول من قنوات كثيرة منبثة في أنحاء البلاد؛ وكان الموظفون العموميون يعلّمون الأهلين زرع الحقول وغرس الأشجار؛ ويشرفون على صناعة الحرير بكافة أجزائها. وكان صيد السمك واستخراج الملح من باطن الأرض احتكارا للحكومة في كثير من الولايات. وكانت التجارة الداخلية رائجة في المدن فنشأت من رواجها طبقة وسطى صغيرة العدد تستمتع بنعم لا تكاد تفترق عن نعم الحياة الحديثة، وكان أفرادها ينتعلون أحذية من الجلد، ويرتدون ملابس من الحرير، أو من نسيج آخر يغزلونه بأيديهم، وينتقلون في عربات مختلفة الانواع، أو في قوارب تسير في الأنهار، ويسكنون بيوتا حسنة البناء، ويستخدمون الكراسي والنضد، ويتناولون طعامهم في صحاف وأواني من الخزف المنقوش. وأكبر الظن أن مستوى حياتهم كان أرقى من مستوى حياة معاصريهم في بلاد اليونان أيام صولون Solon أو في روما أيام نوما Numa. وسرت في الحياة الذهنية في الصين بين ظروف التفلك ومظاهر الفوضى السائدة في البلاد حيوية تنقض ما يضعه المؤرخون من نظريات وقواعد عامة يريدون أن يأخذ بها الناس؛ فقد وضعت في هذا العهد المضطرب قواعد اللغة الصينية والأدب والفلسفة والفن. ونشأ من ائتلاف الحياة التي أصبحت آمنة بفضل التنظيم الاقتصادي والادخار مع الثقافة التي لم تكن قد وحدت بعد أو قيدت بالقيود والأحكام التي تفرضها عليها التقاليد والحكومة الإمبراطورية القوية السلطان، نشأ من ائتلافهما ذلك الاطار الاجتماعي الذي احتوى أكثر العهود إبداعا وإنشاء في تاريخ الصين الذهني. فكان في كل قصر من قصور الأباطرة والأمراء وفي آلاف من المدن والقرى شعراء ينشدون القصائد، وصناع يديرون عجلة الفخار أو يصبون الآنية الفخمة الجميلة، وكتبة ينمقون على مهل حروف الكتابة الصينية وسفسطائيون يعلمون الطلبة المجدين أساليب الجدل والمحاجة الذهنية، وفلاسفة يتحسرون ويأسون لنقائص البشر وتدهور الدول. وسندرس في الفصول التالية حال الفن واللغة في أكمل تطوراتهما وأخص خصائصهما، ولكن الشعر والفلسفة من نتاج هذا العصر الذي نتحدث عنه بنوع خاص، وهما يجعلانه أكثر عصور الفكر الصيني ازدهارا. ولقد ضاع معظم ما كتب من الشعر قبل كنفوشيوس، وأكثر ما بقي منه هو ما اختاره هذا الفيلسوف من نماذج كلها جد وصرامة، جمعت في الشي- جنج، أي "كتاب الأغاني" وقيلت في فترة تزيد على ألف عام تمتد من أيام الشعر القديم الذي قيل في أيام أسرة شانج إلى الشعر ذي الصبغة الحديثة الذي قيل في زمن معاصر لفيثاغورس. وتبلغ عدة هذه القصائد الباقية خمس قصائد وثلثمائة قصيدة، وكلها موجزة إيجازا يجعلها مستعصية على الترجمة، ذات تصوير إيحائي، تتحدث عن الدين ومتاعب الحرب وهموم الحب. والى القارئ أمثلة من نواح الجنود الذين انتزعوا من بيوتهم في غير الأوقات المناسبة؛ ليلقى بهم في مخالب المنايا لغير سبب تدركه عقولهم:

ألا ما أعظم حرية الإوز البري وهو يطير في الفضاء



ثم يتمتع بالراحة فوق أغصان شجر اليو الملتف الكثيف!



أما نحن الدائمو الكدح في خدمة الملك،



فإنا لا نجد من الوقت ما نزرع فيه الذرة والأرز



ترى على أي شيء يعتمد آباؤنا؟



حدثيني أيتها السماء النائية الزرقاء!



متى ينتهي هذا كله؟..



وهل في الاشجار أوراق لم تصبح بعد أرجوانية؟



وهل بقي في البلاد رجل لم ينتزع من بين ذراعي زوجته؟



رحمة بنا نحن الجنود:-



ألسنا نحن أيضا آدميين؟

وفي القصائد كثير من أغاني الحب المختلفة النغم التي تضرب على أوتار القلوب، وان كان ذلك العصر يبدو لنا لفرط جهلنا عصر الهمجية الصينية وبداية تاريخها. ونحن نستمع في احدى هذه القصائد إلى صوت الشباب المتمرد إلى أبد الدهر يهمس في آذاننا من خلال القرون البائدة، التي كانت تبدو عهودا نموذجية لكنفوشيوس، وكأنما هي تقول أن لا شيء يماثل التمرد والعصيان في قدم العهد:

أتوسل إليك يا حبيبي



أن تغادر قريتي الصغيرة



وألاّ تهشم أغصان صفصافي؛



وليس ذلك لأن تهشيمها يحزنني



بل لأني أخشى أن يثير تهشيمها غضب أبي.



والحب يناديني بعواطفه المقهورة:-



"إن أوامر الأب يجب أن تطاع"



أتوسل إليك يا حبيبي



أو تحطم أغصان توتي



وليس ذلك لأني أخشى سقوطها



بل لأني أخشى أن يثير سقوطها غضب أخي.



والحب يناديني بعواطفه المقهورة:-



"إن كلام الأخ يجب أن يطاع"



أتوسل إليك يا حبيبي،



ألاّ تتسلل إلى الحديقة



ولا تحطم أشجار الصندل؛



وليس هذا لأني أعني بهذه أو تلك



بل لأني أرهب حديث المدينة،



وإذا ما سار المحبون على هواهم


فماذا يقولون عنهم جيرانهم؟

وثمة قصيدة أخرى هي أقرب هذه القصائد إلى الكمال، أو أحسنها ترجمة، وهي تدل على أن العواطف البشرية قديمة موغلة في القدم:

جلال الصباح يعلو فوق هامتي



وتحيط بي الازهار الشاحبة بيضاء وأرجوانية وزرقاء وحمراء وأنا قلقة البال



وتحرك شيء بين الحشائش الذابلة



فظننت أن ما سمعته هو وقع أقدامه،



وإذا جندب يصر،



وتسلقت التل ساعة أن بزغ الهلال



فأبصرته مقبلا من الطريق الجنوبي



فاستراح قلبي وأطرح عنه حمله(29).


5- الفلاسفة قبل كنفوشيوس


"كتاب التغيرات" - "اليانج والين" - عصر الاستنارة الصينية - ننج شي سقراط الصين

يمتاز هذا العصر بفلسفته. وليس يعيب الجنس البشري أن تشوفه كان في كل عصر من العصور يسبق حكمته، وأن مثله العليا كانت تخطو بأسرع من خطى مسلكه. وها هو ذا يو- دزه في عام 1250 ق. م ينطق بتلك العبارة القصيرة التي تعد من جوامع الكلم، والتي طالما رددها الناس من قبله، ولكنها لم تبل جدتها بعد؛ اذ لا يزال الناس في حاجة إلى من يذكرهم بأن كل مجد مآله كرب وشقاء:

"من يطرح المجد ولا يعبأ به ينج من الاحزان"(30).

ألا ما اسعد الانسان الذي لا تاريخ له! وقد ظلت بلاد الصين من ذلك العهد القديم إلى يومنا هذا تخرج فلاسفة. فكما ان الهند أرقى بلاد العلم في الاديان، وعلم ما وراء الطبيعة، فكذلك الصين أرقاها في الفلسفة الانسانية غير الدينية، اذ لا يكاد يوجد في الادب الصيني كله كتاب ذو شأن في علم ما وراء الطبيعة غير تلك الوثيقة العجيبة التي يبدأ بها تاريخ التفكير الصيني المدون، وهي الوثيقة المعروفة بإسم إي- جنج، أو "كتاب التغيرات". وتقول الرواية المأثورة إن هذا الكتاب قد كتبه ون وانج، أحد مؤسسي أسرة جو في سجنه، وان أبسط مبادئه مستمدة من فوشي الذي عاش قبله بزمن طويل. وهم يقولون لنا ان هذا الامبراطور الاسطوري قد اخترع "الجوات" الثماني أو التثاليث الرمزية التي ترى علوم ما وراء الطبيعة عند الصينيين أنها تنطبق على قوانين الطبيعة وعناصرها. وهم يقولون أن كل واحد من هذه التثاليث يتألف من ثلاثة خطوط بعضها متصل ويمثل عنصر الذكورة أو اليانج وبعضها متقطع ويمثل عنصر الأنوثة أو الين. وكذلك يمثل اليانج في هذه الثنائية الرمزية العنصر الايجابي الفعال، المنتج، السماوي عنصر الضوء والحرارة والحياة؛ على حين أن الين يمثل العنصر السلبي المنفعل، الأرضي، عنصر الظلمة والبرودة والموت وقد خلد ون يانج ذكره، وأتعب عقول آلاف الملايين من الصينيين بمضاعفة عدد الشرط في الخطوط المتصلة والمتقطعة، فرفع بذلك عدد تباديلها وتوافيقها إلى أربعة وستين كل منها يقابل قانونا من قوانين الطبيعة، ويحتوي على جميع العلوم والتاريخ. والحكمة جميعا تكمن في هذه الأربع والستين شَيْبَنْجَة- أو الآراء الممثلة تمثيلا رمزيا في التثليثات السالفة الذكر. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون وهما عنصرا الذكورة والأنوثة أي اليانج والين.


وكان الصينيون يتخذون كتاب التغيرات كتابا يدرسون فيه طرق التنبؤ بالغيب، ويعدونه أعظم تراثهم الأدبي، ويقولون أن كل من فهم ما فيه من توافيق يدرك جميع القوانين الطبيعية. وقد نشر كنفوشيوس هذا الكتاب بنفسه، وجمله بما علق عليه من الحواشي، وكان يفضله على كل ما عداه من كتب الصينيين، ويتمنى أن يخلو لنفسه خمسين عاما يقضيها في دراسته. ولا يتفق هذا السفر العجيب مع روح الفلسفة الصينية، وهي الروح الايجابية العملية، وان كان يلائم غموض النفس الصينية ونحن نجد في الصين فلاسفة في أبعد الازمان التي وصل إلينا تاريخها، ولكن كل ما حفظه التاريخ لهم قبل أيام لو- دزه، لا يعدو أن يكون قطعة مبتورة من هنا وهناك، أو مجرد أسم من الاسماء، وقد شهد القرنان السادس والخامس في بلاد الصين، كما شهدا في الهند وفارس وبلاد اليهود واليونان، عاصفة قوية من العبقرية الفلسفية والأدبية، بدأت كما بدأت في بلاد اليونان بعصر من "الاستنارة" العقلية. ولقد سبق هذه الاستنارة عهد من الحروب والفوضى فتح أمام المواهب غير ذات الانساب العريقة مسالك للرقي، وحفز أهل المدن على أن يطلبوا لأنفسهم معلمين يثقفون أذهانهم بالفنون العقلية. وسرعان ما كشف معلمو الشعب ما في علوم الدين من ابهام وغموض، وما في الأداة الحكومية من نقص، وعرفوا أن المقاييس الاخلاقية مقاييس نسبية، وشرعوا يبحثون عن المثل العليا والكمال المطلق. وقد أعدم الكثيرون من هؤلاء الباحثين على يد ولاة الامور الذين وجدوا أن قتلهم أسهل من محاججتهم. وتقول احدى الروايات الصينية ان كنفوشيوس نفسه، وهو وزير الجريمة في مقاطعة لو، حكم بالاعدام على موظف صيني متمرد بحجة أنه "كان في وسعه أن يجمع حوله طائفة كبيرة من الرجال؛ وأن آراءه كانت تجد بسهولة من يستجيب لها من العامة، وأن تجعل العناد صفة خليقة بالإكبار والإجلال؛ وأن سفسطته كان فيها من المعارضة والمعاندة ما يمكنها من الوقوف في وجه الأحكام الحقة المعترف بها من الناس". ويصدق زوما- تشين هذه القصة ولكن بعض المؤرخين الصينيين يرفضونها؛ ونحن نرجو ألا تكون صحيحة. وأشهر هؤلاء المتمردين العقليين هو تنج شي الذي أعدمه دوق جنج في شباب كنفوشيوس، ويقول كتاب ليه- دزه: ان تنج هذا كان "يعلم النظريات القائلة ان الحق والباطل أمران نسبيان، ويؤيد هذه الآراء بحجج لا آخر لها". واتهمه أعداؤه بأنه لم يكن يستنكف أن يثبت اليوم رأيا ويثبت عكسه في غد، إذا ما نال على عمله هذا ما يرتضيه من الاجر؛ وكان يعرض خدماته على من لهم قضايا في المحاكم، ولا يرى ما يعوقه عن تقديمها لمن يطلبها من الناس. ويروي عنه أحد أعدائه من المؤرخين الصينيين هذه القصة الطريفة: غرق رجل موسر من الولاية التي كان يقيم فيها تنج في نهر واي، وأخرج رجل جثته من الماء، وطلب إلى أسرة القتيل مبلغا كبيرا من المال نظير إخراجها من النهر. وذهبت أسرة القتيل إلى تنج تستشيره في الأمر، فأجابها السفسطائي بقوله: "تريثوا فلن تؤدي المال المطلوب أسرة غير أسرتكم"، وعملت أسرة القتيل بهذه النصيحة. وقلق الرجل الذي كانت الجثة في حوزته فجاء هو أيضا إلى تنجشي يستنصحه. فنصحه السفسطائي بما نصح به أهل القتيل إذ قال له: "تريث؛ فإنهم لن يحصلوا على الجثة إلاّ منك". ووضع تنج شي قانونا للعقوبات تبين أنه أرقى مما تطبقه حكومة جنج. ولما ضاق رئيس الوزراء ذرعا بالنشرات التي كان تنج يحمل فيها على سياسته حرم إلصاقها في الأماكن العامة، فما كان من تنج الا أن عمد إلى توزيعها على الناس بنفسه، فلما حرم الوزير توزيع النشرات أخذ تنج يهربها إلى القراء مخبوءة بين أشياء أخرى، فلما أعيت الحكومة الحيل أمرت بقطع رأسه(36).
6- المعلم القديم


لو- دزه - "الدو" - رجال الفكر في الحكومة - سخف القوانين - مدينة فاضلة على غرار مدينة روسو وقانون أخلاقي على غرار القانون المسيحي - صورة الرجل الحكيم - التقاء لو- دزه وكنفوشيوس

كان لو- دزه، أعظم فلاسفة الصين قبل كنفوشيوس، أكثر حكمة من تنج شي؛ فقد كان يعرف حكمة الصمت، وما من شك أنه عمر طويلا وإن لم نكن واثقين من أنه عاش حقا. ويحدثنا المؤرخ الصيني زوماتشين أن لو- دزه عافت نفسه سفالة السياسيين، ومل عمله في أمانة مكتبة جو الملكية، فاعتزم أن يغادر الصين ليبحث له عن ملجأ بعيد منعزل في الريف. "فلما أن وصل إلى حدود البلاد قال له الحارس ين شي: إنك إذن تنشد العزلة، وأنا أرجوك أن تكتب لي كتابا. فكتب له لو- دزه كتابا من جزأين في الدو والدي يشتمل على خمسة آلاف كلمة. ولما أن أتمه اختفى ولم يعلم أحد أين مات". لكن الروايات والاقاصيص، التي لا تخفى عليها خافية، تقول أنه عاش سبعة وثمانين عاما. ولم يبق لنا منه الا اسمه وكتابه وقد لا يكون هذا أو ذاك له. فأما لو- دزه، فوصف معناه "المعلم القديم" وأما أسمه الحقيقي فهو، كما تقول الرواية، لي- أي البرقوقة. والكتاب الذي يعزى إليه مشكوك فيه شكا أثار كثيرا من الجدل العلمي حول أصله ولكن الباحثين جميعا متفقون على أن الدو- ده- جنج- أي "كتاب الطريقة والفضيلة"- هو أهم النصوص الخاصة بالفلسفة الدوية التي يقول العلماء الصينيون انها وجدت قبل لو- دزه بزمن طويل، والتي كان لها من بعده أنصار من الطراز الاول، والتي صارت فيما بعد دينا تعتنقه أقلية كبيرة من الصينيين من أيامه إلى وقتنا هذا، وجملة القول أن مؤلف الدو- ده- جنج مسألة ذات أهمية ثانوية، وأما الآراء التي احتواها الكتاب فمن أبدع ما كتب في تاريخ الفكر الانساني. ومعنى لفظ الدَّو هو الطريقة: وهي أحيانا طريقة الطبيعة، وأحيانا الطريقة الدوية للحياة الحكيمة. أما المعنى الحرفي لهذا اللفظ فهو الطريق. وهو في الاصل طريقة للتفكير أو للامتناع عن التفكير، وذلك لأن الدويين يرون أن التفكير أمر عارض سطحي لاغير فيه الا للجدل والمحاجاة، يضر الحياة اكثر مما ينفعها. اما "الطريقة" فيمكن الوصول اليها بنبذ العقل وجميع مشاغله، وبالالتجاء إلى حياة العزلة والتقشف والتأمل الهادئ في الطبيعة. وليس العلم في رأي صاحب الكتاب فضيلة، بل ان السفلة قد زاد عددهم من يوم أن انتشر العلم. وليس العلم هو الحكمة، ذلك لأنه لا شيء أبعد عن الرجل الحكيم من "صاحب العقل". وشر أنواع الحكومات التي يمكن تصورها حكومة الفلاسفة؛ ذلك أنهم يقحمون النظريات في كل نظام طبيعي؛ وأكبر دليل على عجزهم عن العمل هو قدرتهم على إلقاء الخطب والإكثار من الاراء، وفي ذلك يقول الكتاب: ان المهرة لا يجادلون؛ وأصحاب الجدل عطل من المهارة... واذا ما نبذنا المعارف نجونا من المتاعب... والحكيم يبقي الناس على الدوام بلا علم ولا شهوة، واذا وجد من لهم علم منعهم من الاقدام على العمل... وان الاقدمين الذين أظهروا براعتهم في العمل بما في الدو لم يفعلوا ما فعلوه لينيروا عقول الناس بل ليجعلوهم سذجا جهلاء... والصعوبة التي يواجهها الحكام انما تنشأ من كثرة ما عند الناس من العلم، ومن يحاول حكم دولة من الدول بعلمه وحكمته ينكل بها ويفسد شئونها، أما الذي لا يفعل هذا فهو نعمة لها وبركة. وانما كان صاحب الفكر خطرا على الدولة لأنه لا يفكر الا في الانظمة والقوانين؛ فهو يرغب في اقامة مجتمع على قواعد هندسية، ولا يدرك أن أنظمته انما تقضي على ما يتمتع به المجتمع من حرية حيوية، وما في أجزائه من نشاط وقوة. أما الرجل البسيط الذي يعرف من تجاربه ما في العمل الذي يتصوره ويقوم به بكامل حريته من لذة، وما ينتجه من ثمرة، فهو أقل من العالم خطرا على الامة اذا تولى تدبير أمورها، لأنه لا يحتاج إلى من يدله على أن القانون شديد الخطر عليها، وأنه قد يضرها أكثر مما ينفعها. فهذا الرجل لا يضع للناس من الانظمة الا أقل قدر مستطاع، واذا تولى قيادة الامة ابتعد بها عن جميع أفانين الخداع والتعقيد، وقادها نحو البساطة العادية التي تسير فيها الحياة سيرا حكيما على النهج الطبيعي الحكيم الرتيب الخالي من التفكير، وحتى الكتابة نفسها يهمل أمرها في هذا النمط من الحكم لأنها أداة غير طبيعية تهدف إلى الشر. فإذا تحررت غرائز الناس الاقتصادية التلقائية التي تحركها شهوة الطعام والحب من القيود التي تفرضها الحكومات دفعت عجلة الحياة في مسيرها البسيط الصحيح. وفي هذه الحال تقل المخترعات التي لا تفيد الا في زيادة ثراء الاغنياء وقوة الاقوياء؛ وتنمحي الكتب والقوانين والصناعات ولا تبقى الا التجارة القروية. "ان كثرة النواهي والمحرمات في المملكة تزيد من فقر الأهلين. وكلما زاد عدد الأدوات التي تضاعف من كسبهم زاد نظام الدولة والعشيرة اضطرابا، وكلما زاد ما يجيده الناس من أعمال الختل والحذق زاد عدد ما يلجئون إليه من حيل غريبة وكلما كثرت الشرائع والقوانين كثر عدد اللصوص وقطاع الطرق؛ ولهذا قال أحد الحكماء: " لن أفعل شيئا، فيتبدل الناس من تلقاء أنفسهم، وسأولع بأن أبقى ساكنا فينصلح الناس من تلقاء أنفسهم، ولن أشغل بالي بأمور الناس فيثرى الناس من تلقاء أنفسهم؛ ولن أظهر شيئا من المطامع فيصل الناس من تلقاء أنفسهم إلى ما كانوا عليه من سذاجة بدائية...
وسأنظم الدولة الصغيرة القليلة السكان بحيث اذا وجد فيها أفراد للواحد منهم من الكفايات ما لعشرة رجال أو مائة رجل فلن يكون لهؤلاء الافراد عمل؛ وسأجعل الناس فيها، وان نظروا إلى الموت على أنه شيء محزن يؤسف له، لا يخرجون منها (لينجوا بأنفسهم منه)؛ ومع أن لهم سفنا وعربات فإنهم لا يرون ما يدعوا إلى ركوبها؛ ومع أن لهم ثيابا منتفخة وأسلحة حادة، فإنهم لا يجدون ما يدعوا إلى لبس الاولى أو استخدام الثانية، وسأجعل الناس يعودون إلى استخدام الحبال المعقودة . وسيرون أن طعامهم (الخشن) وملابسهم (البسيطة) جميلة، ومساكنهم (الحقيرة) أمكنة للراحة، وأساليبهم العادية المألوفة مصادر للذة والمتعة، وإذا كانت هناك دولة مجاورة قريبة منا نراها بأعيننا وتصل إلى آذاننا منها نقنقة الدجاج ونباح الكلاب، فإني لن أجعل للناس وان طال عمرهم صلة بها إلى يوم مماتهم". ترى ما هي هذه الطبيعة التي يرغب لَوْ- دزه، في أن يتخذها مرشدا له وهاديا؟ ان هذا المعلم القديم يفرق بين الطبيعة والحضارة تفريقا محددا واضح المعالم، كما فعل روسو من بعده في عباراته الطنانة الرنانة التي يطلق عليها الناس اسم "التفكير الحديث"؛ فالطبيعة في نظره هي النشاط التلقائي، وانسياب الحوادث العادية المألوفة، وهي النظام العظيم الذي تتبعه الفصول وتتبعه السماء؛ وهي الدو أو الطريقة الممثلة المجسمة في كل مجرى وكل صخرة وكل نجم؛ وهي قانون الاشياء العادل الذي لا يحفل بالاشخاص، ولكنه مع ذلك قانون معقول يجب أن يخضع له قانون السلوك اذا اراد الناس أن يعيشوا في حكمة وسلام. وقانون الاشياء هذا هو الدو أو طريقة الكون كما أن قانون السلوك هو الدو أو طريقة الحياة. ويرى لو- دزه، أن الدوين في واقع الامر دو واحد وأن الحياة في تناغمها الاساسي السليم ليست الا جزءا من تناغم الكون. وفي هذا الدو الكوني تتوحد جميع قوانين الطبيعة وتكون مادة الحقائق كلها التي يقول بها اسبنوزا؛ وفيه تجد كل الصور الطبيعية على اختلاف أنواعها مكانها الصحيح، وتجتمع كل المظاهر التي تبدو للعين مختلفة متناقضة، وهو الحقيقة المطلقة التي تتجمع فيها كل الخصائص والمعضلات لتتكون منها وحدة هيجل Hegel الشاملة". ويقول لو إن طبيعة قد جعلت حياة الناس في الايام الخالية بسيطة آمنة، فكان العالم كله هنيئا سعيدا. ثم حصل الناس "المعرفة" فعقدوا الحياة بالمخترعات وخسروا كل طهارتهم الذهنية والخلقية، وانتقلوا من الحقول إلى المدن، وشرعوا يؤلفون الكتب، فنشأ من ذلك كل ما أصاب الناس من شقاء، وجرت من أجل ذلك دموع الفلاسفة. فالعاقل اذن من يبتعد عن هذا التعقيد الحضري وهذا التيه المفسد الموهن تيه القوانين والحضارة، ويختفي بين أحضان الطبيعة، بعيدا عن المدن والكتب، والموظفين المرتشين، والمصلحين المغترين. وسر الحكمة كلها وسر القناعة الهادئة، وهي وحدها التي يجد فيها الانسان السعادة الابدية، هو الطاعة العمياء لقوانين الطبيعة، ونبذ جميع أساليب الخداع وأفانين العقل، وقبول جميع أوامر الطبيعة الصادرة من الغرائز، والشعور في ثقة واطمئنان، والجري على سنن الطبيعة الصامتة وتقليدها في تواضع. ولعلنا لا نجد في الأدب كله فقرة أكثر انطباقا على العقل والحكمة من الفقرة الآتية: ان كل ما في الطبيعة من أشياء تعمل وهي صامتة، وهي توجد وليس في حوزتها شيء، تؤدي واجبها دون أن تكون لها مطالب، وكل الاشياء على السواء تعمل عملها ثم تراها تسكن وتخمد، واذا ما ترعرعت وازدهرت عاد كل منها

إلى أصله، وعودة الاشياء إلى أصولها معناها راحتها وأداؤها ما قدر لها أن تؤديه. وعودتها هذه قانون أزلي، ومعرفة هذا القانون هي الحكمة. والخمود الذي هو نوع من التعطل الفلسفي وامتناع عن التدخل في سير الاشياء الطبيعي وهو ما يمتاز به الحكيم في جميع مناحي الحياة، فاذا كانت الدولة مضطربة مختلة النظام فخير ما يفعل بها ألا يحاول الانسان اصلاح أمورها، بل أن يجعل حياته نفسها أداء منظما لواجبه، واذا ما لاقى الانسان مقاومة فأحكم السبل ألا يكافح أو يقاتل أو يحارب بل أن يتروى في سكون، وأن يكسب ما يريد أن يكسبه، اذا كان لا بد من الكسب، بالخضوع والصبر؛ ذلك أن المرء ينال من النصر بالسكون أكثر مما يناله بالعمل، وفي هذا يحدثنا لو- دزه حديثا لا يكاد يختلف في لهجته عن حديث المسيح! "اذا لم تقاتل الناس فان أحدا على ظهر الارض لن يستطيع أن يقاتلك.. قابل الاساءة بالإحسان. أنا خير للأخيار، وخير أيضا لغير الأخيار؛ وبذلك يصير )الناس جميعا( أخيارا؛ وأنا مخلص للمخلصين، ومخلص أيضا لغير المخلصين وبذلك يصير )الناس جميعا( مخلصين.. وألين الأشياء في العالم تصدم أصلبها وتتغلب عليها.. وليس في العالم شيء ألين أو أضعف من الماء، ولكن لا شيء أقوى من الماء في مغالبة الأشياء الصلبة القوية" . وتبلغ هذه الآراء غايتها في الصورة التي يتخيلها "لو" للرجل الحكيم. وقبل أن نرسم للقارئ هذه الصورة نقول أن من أخص خصائص المفكرين الصينيين أنهم لا يتحدثون عن القديسين بل يتحدثون عن الحكماء، وأنهم لا يتحدثون عن الصلاح بقدر ما يتحدثون عن الحكمة. فليس الرجل المثالي في نظر الصينيين هو التقي العابد، بل هو صاحب العقل الناضج الهادئ، الذي يعيش عيشة البساطة والسكون وان كان خليقا بأن يشغل مكانا ساميا في العالم. ذلك أن السكون هو بداية الحكمة، والحكيم لا يتكلم حتى على الدو والحكمة، لأن الحكمة لا تنقل الا بالقدوة والتجربة لا بالألفاظ؛ والذي يعرف )الطريقة( لا يتحدث عنها؛ والذي يتحدث عنها لا يعرفها؛ والذي )يعرفها( يقفل فاه ويسد أبواب خياشيمه"، والحكيم شيمته التواضع، لأن الانسان متى بلغ الخمسين من عمره فقد آن له أن يدرك أن المعرفة شيء نسبي، وأن الحكمة شيء ضعيف سهل العطب؛ واذا عرف الحكيم أكثر مما يعرف غيره من الناس حاول أن يخفي ما يعرفه "فهو يحاول أن يقلل من سناه ولألائه ويوائم بين سناه وقتام )غيره(؛ وهو يتفق مع السذج أكثر مما يتفق مع العلماء، ولا يألم من غريزة المعارضة التي هي غريزة طبيعية في الأحداث المبتدئين. وهو لا يعبأ بالثروة أو السلطان، بل يخضع شهواته إلى الحد الادنى الذي يكاد يتفق مع العقيدة البوذية: "ليس لشيء عندي قيمة، وأشتهي أن يخضع قلبي خضوعا تاما، وأن يفرغ حتى لا يبقى فيه شيء قط.. يجب أن يبلغ الفراغ أقصى درجاته، وأن يحاط السكون بقوة لا تمل.. ومن كانت هذه صفاته لا يمكن أن يعامل بجفاء أو في غير كلفة. وهو أكبر من أن يتأثر بالمكاسب أو الاذى وبالنبل أو الانحطاط وهو أنبل انسان تحت قبة السماء"(50).
ولسنا نرى حاجة لبيان ما في هذه الآراء من اتفاق مع آراء جان جاك روسو وحسبنا أن نقول ان الرجلين قد صبا في قالب واحد مهما يكن بعد ما بينهما من الزمن، وان فلسفتهما من نوع الفلسفة التي تظهر وتختفي ثم تعود إلى الظهور في فترات دورية؛ ذلك بأن الناس في كل جيل يملون ما في حياة المدن من كفاح وقسوة وتعقيد وتسابق، فيكتبون عن مباهج الحياة الريفية الرتيبة كتابة تستند إلى الخيال أكثر مما تستند إلى العلم بحقائق الامور. وما من شك في أن المرء لا بد له من خبرة سابقة طويلة بحياة المدن اذا شاء أن يكتب شعرا عن الريف "والطبيعة" لفظ طيع سهل على لسان كل باحث في الاخلاق أو الدين؛ وهو لا يوائم علم دارون ولا أخلاقية نتشة أكثر مما يوائم فلسفة "لو- دزه" والمسيح المتعقلة الحلوة. ذلك أن الانسان اذا ما سار على سنن الطبيعة أدى به هذا إلى قتل أعدائه وأكل لحومهم لا إلى ممارسة الفلسفة، وقلّ أن يكون وضيعا ذليلا، وأقل من هذا أن يكون هادئا ساكنا. بل ان فلح الارض- وهو العمل الشاق المؤلم- لا يوائم قط ذلك الجنس من الناس الذي اعتاد الصيد والقتل؛ ولهذا كانت الزراعة من الاعمال "غير الطبيعية" مثلها في هذا كمثل الصناعة سواء بسواء. على أن في هذه الفلسفة رغم هذا كله شيئا من السلوى وراحة البال. وأكبر ظننا أننا نحن أيضا حين تبدأ نيران عواطفنا في الخمود سنرى فيها غير قليل من الحكمة؛ وسنرى فيها السلم المريح الذي ينبعث من الجبال غير المزدحمة ومن الحقول الرحبة. ان الحياة تتأرجح بين فلتير وروسو، وبين كنفوشيوس ولو- دزه، وبين سقراط والمسيح. واذا ما استقرت كل فكرة زمنا ما في عقولنا، ودافعنا عنها دفاعا ليس فيه شئ من البسالة أو من الحكمة، مللنا نحن أيضا تلك المعركة وتركنا إلى الشباب ما كان قد تجمع لدينا من مثل عليا تناقص عديدها. فاذا ما حدث هذا لجأنا إلى
الغابات مع جان جاك ومع لو- دزه وأمثالهما؛ وصادقنا الحيوان؛ وتحدثنا ونحن أكبر رضا وأطمئنانا من مكيفلي إلى عقول الزراع السذج، وتركنا العالم ينضح بالشرور، ولم نفكر قط في اصلاحه. ولعلنا وقتئذ نحرق وراءنا كل كتاب فيه الا كتابا واحدا، ولعلنا نجد خلاصة الحكمة كلها في الدو- دي- جنج. وفي وسعنا أن نتصور ما كان لهذه الفلسفة في نفس كنفوشيوس من أثر مؤلم محنق. فقد جاء هذا الفيلسوف في سن الرابعة والثلاثين، وهي السن التي لا يكتمل فيها نضوج الذهن، إلى لويانج حاضرة جو ليستشير المعلم الكبير في بعض أمور دقيقة ذات صلة بالتاريخ ويقال ان لو- دزه أجابه إجابة فظة غامضة قصيرة: "ان الذين تسأل عنهم قد استحالوا هم وعظامهم ترابا، ولم يبق إلا الفاظهم، واذا ما حانت ساعة الرجل العظيم قام من فوره وتولى القيادة، أما قبل أن تحين هذه الساعة فإن العقبات تقام في سبيل كل ما يحاوله. ولقد سمعت أن التاجر الموفق يحرص على اخفاء ثروته، ويعمل عمل من لا يملك شيئا من حطام الدنيا- وأن الرجل العظيم بسيط في أخلاقه ومظهره رغم ما يقوم به من جلائل الاعمال، فتخلص من كبريائك ومطامعك الكثيرة، وتصنعك وآمالك المفرطة البعيدة. ان هذه كلها لا ترفع قط من أخلاقك. وهذا ما أشير به عليك". ويقول المؤرخ الصيني الذي يروي هذه القصة ان كونفوشيوس أحسّ من فوره بسداد هذه النصيحة، ولم ير في هذه الألفاظ ما يسيء إليه، بل أنه رأى فيها عكس هذا، وقال لتلاميذه بعد أن عاد من عند الفيلسوف المحتضر: "إني أعرف كيف يطير الطير، ويسبح السمك، ويجري الحيوان؛

ولكن الذي يجري على الارض يمكن اقتناصه، والذي يسبح في الماء يمكن صيده، والذي يطير في الجو يمكن اصابته بالسهام. غير أن هناك تنينا مهولا- ولست أستطيع أن أقول كيف يركب الريح ويخترق به السحاب ويعلو في أجواز الفضاء. لقد قابلت اليوم لو- دزه، ولست أستطيع أن أجد له مثيلا غير التنين". ثم خرج المعلم الجديد ليؤدي رسالته، وليكون أعظم فلاسفة التاريخ أثراً.


منقوله