الكثيرون في أغلب دول العالم يعرفون الجندي المجهول كرمز للجنود اللذين قتلوا في الحروب وهم مجهولي الأسماء لذا تقوم الدول بعمل رمز لهؤلاء الجنود تخليدا لذكراهم وأعترافا بجهودهم وتضحياتهم , لكن الكثيرين يجهلون فكرة هذا الرمز وتاريخه وكيف تم تبني هذه الفكرة من قبل أغلب الدول وعملت له رموز خالدة .
خلال قراءتي لأحدى مجلات المختار من (ريدر دايجست الأمريكية) التي صدر اول عدد منها عام (1922) وهي مجلة ثقافية عالمية معروفة في أغلب دول العالم ومنها العراق الذي كانت تصله من القاهرة منذ أربعينات القرن الماضي حتى السبعينات عندما منع دخولها الى العراق . كنت ممن له هواية جمع أعداد من هذه المجلة منها ما وجدتها في مكتبة الوالد منذ الأربعينات ومنها ما جمعته من مكتبات مختلفة حنى صار عندي ما يزيد على المائة مجلة .
في مجلة صدرت في شهر حزيران عام 1958 وجدت مقال كتبه (دون هوارتون) يتكلم فيها عن فكرة الجندي المجهول تحت عنوان (لا يعرفه إلا الله ) هذا نصه :
تعزى فكرة قبرالجندي المجهول وما تنطوي عليه من مغزى رفيع الى صاحب مطبعة في مدينة (رينس) بفرنسا . ففي احد الأيام العصيبة الحالكة من عام (1916) ,فقد (فرانسوا سيمون) احد أبنائه في ساحة الوغى ,كما أصيب أبن آخر له بجراح بليغة . وقد أهتم (سيمون) في مناسبات عديدة بتنظيم الأحتفالات الجنائزية التي صاحبت دفن الجثث الوافدة الى (رينس )من جبهة القتال , وتطرق تفكيره الى الجند اللذين فقدت جثثهم , والى الجثث التي تعذر التعرف عليها .
فلما أحتفلت المدينة في شهر نوفمبر من ذلك العام بتأبين قتلاها في الحرب , تساءل (سيمون) : لماذا لاتفتح (فرنسا) أبواب مقبرة "البانتيون " لواحد من أولئك المحاربين المجهولين اللذين سقطوا في سبيل الدفاع عن أرض الوطن ؟ على أن يحمل القبركلمتين فقط (احد الجنود ) , وتاريخين هما (1914 – 19 ) . ثم تبنى الفكرة نائب فرنسي وتناقلتها الصحف ,وأخيرا أقرها مجلس النواب رسميا في عام (1919) وبذلك ولدت تلك الفكرة السامية التي لقيت في معظم أقطار العالم آذانا مصغية .



وقبيل الأحتفال بذكرى الهدنة في (11 نوفمبر 1920) قرر الفرنسيون دفن جنديهم المجهول في )البانتيون( , وزيادة في التكريم أفردوا له نصبا خاصا تحت (قوس النصر) , وهو شرف يكاد يحسده عليه (نابليون) نفسه , أما الطريقة التي أختير بها الجندي الفرنسي المجهول فقد سنت لهذا العمل تقليدا أتبع في كل مكان منذ ذلك الحين ...أذ طلب الى قائد كل قطاع على طول الجبهة من الحدود (البلجيكية) حتى جبال (الفوج) ,ان يختار أحدى الجثث التي تعذر التعرف عليها ثم يرسلها الى (فردان) حيث يجري الأختيار النهائي , وفي اليوم التاسع من شهر نوفمبر تتابع وصول التوابيت ,وشهدت الجموع الصامتة ثمان سيارات تفد الى مكان الأحتفال ولم تأت التاسعة قط . وأنما وردت أشارة تفيد بأن جثث الفرنسيين والألمان قد دفنت معا في ذلك القطاع , وان القائد قد أختلط عليه الأمر فرأى أن لايرسل أحدا .
باتت التوابيت في تلك الليلة وهي خالية من العلامات المميزة كما غيرت أوضاعها لأكثر من مرة لكيلا يعرف من أي القطاعات أتت ....ثم أسند شرف الأختيار الأخير الى جندي من المشاة يدعى (أوجست تين) وهو جندي شاب أفتقد أباه ضمن القتلى المجهولين ..وتسلم (تين) أكلبلا من زهورحمراء وأخرى بيضاء جمعت من حقول (فردان) ,ثم مشى أمام كبار رجال الدولة وكتائب الجند المصطفة الى حيث رصت النعوش تكسوها الأعلام فوقف أمام واحد منها ووضع عليه الزهور .
وفي الوقت ذاته الذي حمل فيه النعش بالقطار الى (باريس) لتشييعه الى مثواه الأخير كانت المدمرة البريطانية "فردان" تحمل جثمانا آخر الى أنكلترا عبر القنال ..وهو جثمان رجل لايدري أحد ان كان من المشاة أو بحارا أو طيارا ,أو كان انكليزيا أو كان من الدومينيون , لقد مات في فرنسا ودفن في مقبرة غير معروفة ثم اعيد دفنه في (وستمنسترآبي) بأحتفال مهيب , حيث رقد مرة أخرى على تراب فرنسي نقل في أكياس من أرض المعركة حول مدينة (أيبر) .



وبالمثل عندما جيء بالجندي الأمريكي المجهول الى بلاده بعد ذلك بعام أعد قبره بمدافن (أرلنجتون ) الوطنية في مشارف مدينة (واشنطن) بحيث يستقر النعش فوق بقعة سمكها خمس سنتمترات من التربة الفرنسية .
وهكذا خلدت ثلاث دول عظمى فكرة نبيلة ولدت في ذهن طباع فرنسي بسيط أستودعها فجيعتة في ولده .